"فاغنر": النموذج الخطير للمرتزقة الروس

كشفت تقارير صحافية كثيرة في الأعوام القليلة الماضية، أن روسيا تستخدم جماعات مسلحة من قبلها، على نمط المرتزقة، لتنفيذ عمليات عسكرية في عدّة دول تتدخل فيها عسكريا، مثل سورية وجمهورية أفريقيا الوسطى، وأوكرانيا، لكن ذلك قد لا يكون بالضخامة...

جنود روس في سورية (أرشيفية - أ ب)

كشفت تقارير صحافية كثيرة في الأعوام القليلة الماضية، أن روسيا تستخدم جماعات مسلحة من قبلها، على نمط المرتزقة، لتنفيذ عمليات عسكرية في عدّة دول تتدخل فيها عسكريا، مثل سورية وجمهورية أفريقيا الوسطى، وأوكرانيا، لكن ذلك قد لا يكون بالضخامة التي يتصورها البعض، أو لم يعد كذلك على الأقل.

وقد تكون أشهر هذه الجماعات التي سُلط عليها الضوء من قبل وسائل إعلامية عالمية كبيرة، مجموعة "فاغنر"، والتي وُلدت من رحم حاجة روسيا إلى إنكار تنفيذ عمليات عسكرية في الخارج، وخاضت بعض أعنف المعارك نيابة عن روسيا في سورية وأوكرانيا، لتتصدر العناوين الرئيسية في الصحف العالمية بعد هجومها على موقع عسكري أميركي شرقي سورية في شباط/ فبراير 2018.

بعض مقاتلي "فاغنر" في سورية (EAST2WEST NEWS)

وأعد الصحافي والمحلل الكندي المختص بالشأن السوري، نييل هاور، مقالا في صحيفة "فوريين بوليسي" الأميركي، سرد فيها صعود مجموعة "فاغنر"، وتراجع قوتها، في ظل انعدام اليقين حول ما الذي ستعنيه مثل هذه المجموعات لروسيا في المستقبل.

وأشار هاور إلى أن مجموعة "فاغنر" لعبت دورا محوريا في الاستيلاء على تدمر ودير الزور بين عامي 2016 و2017.

ولفت إلى أن وسيلة الإعلام الروسية المستقلة "ميدوزا"، قابلت أحد المتعاقدين العسكريين لدى "فاغنز"، الذي قال إنه أُرسل إلى فنزويلا، في الفترة التي تنبأت بها الصحف العالمية أن مجموعة من المرتزقة الروس وصلت إلى الدولة الجنوب أميركية، في كانون الثاني/ يناير الماضي، لدعم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو ضد محاولات الإطاحة به.

وهذا ما دفع محللين غربيين، لترجيح أن الخطوة "تثبت" أن مجموعة "فاغنر" لا تزال أداة مستخدمة من قبل الكرملين لدعم حلفاء روسيا، مثل مادورو، وتوسيع نفوذها في العالم دون أن تتدخل بـ"شكل مباشر".

لكن تقرير "ميدوزا" رجح عكس ذلك، فقد قالت إن مصدرها في فنزويلا، وهو موظف في "فاغنر"، كشف أن خدمته، هو وزملاؤه في كراكس لم تتعد كونهم حراس أمن لمباني شركة "روسنفت" النفطية الروسية، ولم يلعبوا أي دور في دعم مادورو، وهو ما أكده موظفون آخرون أيضا، حيث قوّضت استقلالية المرتزقة، وخُفض دورها في سورية بشكل كبير، حيث قصّ الكرملين أجنحتها بعد كارثة شباط/ فبراير 2018، بينما جرّدها منافسوها من أفرادها الأكثر قيمة.

وذكر الباحث أن مواجهة مرتزقة "فاغنر" مع القوات الأميركية في دير الزور في شباط/ فبراير 2018، شكلت بداية نهاية الشركة.

تفاصيل الهجوم الذي دمّر "فاغنر"

في السابع من شباط/ فبراير 2018، شن نحو 600 عنصر في "فاغنر"، مزودين بأسلحة ثقيلة ودبابات ومدفعية، هجومًا على موقع تابع لـ"قوات سورية الديمقراطية"، أي الميلشيا الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة. لكن الأمر الذي يُرجح أنهم كانوا يجهلونه في ذلك الوقت، هو أن مستشارين عسكريين أميركيين، كانوا مشاركين في الوحدة الكردية، وطلبوا على الفور دعما جويا. ومع ذلك، استمرت قوات "فاغنر" في هجومها لمدة أربع ساعات متواصلة، متعرضة لقصف عنيف من المدفعية الأميركية إضافة إلى غارات جوية، شاركت فيها مروحيات، وأيضا طائرة حربية من طراز "إي سي 130".

وتبيّن بعد انتهاء المعركة، أن نحو 300 عنصر روسي، قد لقوا حتفهم أو أصيبوا، في أول معركة مباشرة بين قوات واشنطن وقوات موسكو منذ حرب فيتنام.

بوتين و"طاهيه" (أرشيفية - أ ب)

وكان الجانب المفاجئ في هذه المعركة، أن الكرملين لم يأمر بهذه العملية، أو حتى يعلم بكافة جوانبها، فقد سُربت محادثات تُشير إلى أن يفيغني بريغوزين، والذي يُطلق عليه وصف "طاه" الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي يُظن أيضا أنه كان يقود "فاغنر"، أمر بالهجوم بعد مشاورة بعض زملائه من رجال الأعمال السوريين، فهو يترأس أيضا شركة نفطية تعمل في المنطقة.

ولفت هاور إلى أن الرد غير المتسق للسلطات الروسية حول تفاصيل هذه العملية، والتي لم تعترف في بادئ الأمر بوجودها أصلا، لتعترف لاحقا أن بعض "مواطني الاتحاد الروسي" غير المتصلين بالجيش، قُتلوا في سورية، دون تقديم تفاصيل، يثبت أيضا أنها لم تحط علما بالواقعة.

وأخبرت مصادر مقربة من وزارة الدفاع الروسية المنفذ الصحافي الروسي "بيل"، أن المسؤولين "صُعقوا" عندما علموا أن الهجوم قد وقع، وأن بريغوزين الذي كان يشعر بحرج شديد كان عليه التهرب من مسؤولي الكرملين متعهدا أن مثل هذا الخطأ لن يحدث مرة أخرى.

وبعد الهزيمة النكراء في سورية، بشهر واحد فقط، كانت نصف قوّات "فاغنر" فقط، تُحضر نفسها للتدخل في عدّة دول أفريقية مثل جنوب السودان وموزمبيق، في ظل استمرار الخلاف بينها وبين الكرملين حول ما حدث في روسيا.

وقال هاور إنه يبدو أن السلطات الروسية خفّضت قوّة وصلاحيات "فاغنر"، حيث وُزّع معظم مقاتليها على مجموعات صغيرة مشابهة، وقُلصت عملياتها، خصوصا أنه في تلك الفترة، لم يعد الكرملين بحاجة ضرورية لقوّة عسكرية محترفة، حيث انخفض القتال في سورية بشكل كبير منذ العام الماضي، كما استقرت الأوضاع نسبيا في جنوبي أوكرانيا حيث لعبت "فاغنر" دورا مركزيا في السابق.

طبيعة جماعات المرتزقة الروس

ذكر هاور إنه من المقلق جدا أن "فاغنر" كمجموعة مرتزقة، وصلت قبل تراجع قوتها، إلى جهة عسكرية قوية، وذلك في ظل فرض الكرملين قواعد صارمة على شركات الأمن الخاصة للحفاظ على احتكاره للجيش الروسي.

لكن "فاغنر" تطورت في فراغ قانوني، حيث أنه ما من اعتراف رسمي بها، بل ويعتبرها القانون الروسي "خارجة عن القانون"، ومع ذلك، فقد تحولت إلى مشروع خاص من قبل بعض الموظفين الطموحين في مجموعة "موران" الأمنية، وهي شركة أمنية روسية صغيرة نسبيا، إلى جيش خاص كامل مليء بالدبابات الروسية والمدفعية، ويبلغ تعداد مقاتليها نحو خمسة آلاف مقاتل متمرس.

وأصبحت المجموعة إحدى أقوى هياكل القوى العسكرية من حيث المقاتلين والعتاد في الاتحاد الروسي، خارج جهاز الأمن الخاص بالكرملين وجهاز رمضان قاديروف من الشيشان، الذي يشرف على جيش شخصي خاص به يصل عدده إلى عشرات الآلاف ويتمتع بدرجة قليلة جدا من المساءلة أمام الكرملين.

تبعات نشوء هذه المجموعات على روسيا

يُعد نشوء مثل هذه المجموعات، تحديا كبيرا يواجه السلطة المركزية في موسكو، وهي ظاهرة لا بد أن تنمو مع استمرار روسيا في انعدام اليقين حول ماذا سيحدث عام 2024، وهو العام الذي يُفترض أن تنتهي به ولاية بوتين دستوريا، فبعيدا عن الصورة الشهيرة للرئيس الروسي بأنه استبدادي يهيمن على جميع أذرع السلطة، فهو يقود روسيا عبر سلسلة من التسويات والتفاهمات بين النخب القوية، من رجال أعمال وبيروقراطيين، مع مسؤولي الأمن الأقوياء.

وأشار هاور إلى أنه رغم استقرار نظام بوتين، وتصوير نفسه للعالم على أنه كيان متجانس، إلا أنه في الواقع مرتبط بأفراد ذوي سلطة وأصحاب مصالح، ناهيك عن أن الأجهزة الأمنية المختلفة في روسيا تمزقها الفئوية، حيث يكون العنصر المتغير المهيمن، هو اتفاقها على الرضوخ للرئيس الحالي.

وأشار الكاتب إلى أنه "من المهم أن نتذكر أن الأمر لم يكن دائمًا على هذا النحو؛ فقد كان بوريس يلتسين، سلف بوتين، يواجه وقتا عصيبا في السيطرة على مختلف الأجهزة المسلحة الروسية، واستغرق الأمر سنوات من بوتين لإخضاعها... والقضاء على مختلف الإقطاعيات التي أنشأها جنرالات فاسدون في الشيشان في في وقت مبكر من القرن الحالي، حيث أصبح الاتجار بمبيعات النفط، بشكل غير مشروع، هواية للقادة الذين تطلعوا إلى إثراء أنفسهم. وبطبيعة الحال، فإن مسألة ما إذا كان بوتين سيترك السلطة فعلا في عام 2024 أم لا، لا تزال قائمة، لكن الزعيم الروسي ليس خالدا، وهذا يعني أن الخلافة (والتنافس على المنصب الذي سيصاحبها) ستحدث عاجلا أم آجلا".

وفي الوقت ذاته، وعلى الرغم من أن الفضل في ذلك يعود للكرملين، بمواصلة "فاغنر" لعب دور داعم في العمليات الروسية في الخارج، فقد ظهرت كتيبة "فاغنر" مؤخرا في ليبيا، لمساعدة قوات اللواء الليبي السابق، خليفة حفتر، في محاولة لمساعدته في الهجوم (الفاشل) الذي يشنه على العاصمة طرابلس. لكن يبدو أن "فاغنر" فقدت المكانة المهيمنة التي كانت تحتلها ذات يوم كمقاول عسكري بارز في روسيا، وأُجبرت الآن على العمل في وحدات أصغر بكثير، جنبا إلى جنب مع منافسيها الجدد والقدامى.

واختتم هاور مقاله قائلا، إنه رغم إضعاف قوة "فاغنر"، إلا أن المسألة الأكثر إلحاحا، هي وجود مثل هذه المجموعات من الأصل. ففي حالة انعدام القيود القانونية في روسيا، التي من شأنها التنظيم والحد من نطاق الشركات العسكرية الخاصة، وفي واقع تزداد فيه حدة الاقتتال بين النخب القوية في الدولة، تُشكل "فاغنر" نموذجا سابقا لجيش خاص تألف من آلاف الجنود، وكان تحت إمرة شخص واحد فقط. وفي مستقبل أقل استقرارا بعد بوتين، فإن مثل هذه الحركات، قد تشكل تهديدا للأمن الروسي والعالمي على حد سواء.

التعليقات