القانون الدولي رهينة لـ «موازين القوى»

-

القانون الدولي رهينة لـ «موازين القوى»
في عام 1998 أصدرت محكمة بريطانية أمرًا بالقبض على الدكتاتور التشيلي السابق أوغوستو بينوشية بطلب من المحاكم الاسبانية.

شكّل هذا الحدث انتصارًا كبيرا لحركة حقوق الإنسان وبارقة أمل لآلاف الضحايا الذين فشلوا بتقديم مسؤولين ارتكبوا جرائم كبرى بحقهم للعدالة محليًا. مؤخرا، كانت هنالك بعض المحاولات لتقديم مسؤولين إسرائيلين للمحاكمة في أوروبا لضلوعهم بارتكاب جرائم حرب إبتداءً من مجزروة صبرا وشاتيلا وإنتهاءً بالعدوان الأخير على غزة. لكن هذه المحاولات لم تنجح حتى الآن، وبعضها إنتهى بتعديل القوانين الأوروبية تجنبا لمحاكمة مسؤولين إسرائيلين.

الدكتور البلجيكي لوك ريدامز، المحاضر في العلوم السياسية، والمتنقل بين جامعة لوفين البلجيكية وجامعة نوتر دام الأمريكية والذي يعتبر خبيرًا في مجال الولاية القضائية العالمية كتب أطروحته في هذا الموضوع في كلية الحقوق، الا أنه يؤمن بأنه لا يمكن التعامل مع القانون الدولي وفهمه الا في سياق المصالح وموازين القوى الدولية.

قد يبدو موقفه هذا مستفزًا لنشطاء حقوق الانسان وخبراء القانون الدولي لكنه يعبر في نفس الوقت عن “مدرسة الواقعية” في علوم العلاقات الدولية.
هنالك جرائم معينة يحق لأية دولة محاكمة المتهمين بارتكابها، بغض النظر عن جنسيتهم، جنسية الضحايا أو الدولة التي ارتكبت على أرضها هذه الجرائم.

هذا المبدأ جاء ليضع حدًّا لحالة اللامحاسبة وليقول للمجرمين إنّه لا ملجأ آمنًا لكم. هذا المبدأ يفترض بأنَّ جميع الدول متساوية في حق ممارسة ولاية قضائية عالمية، لكن في الواقع هنالك فجوات قوى كبيرة بين الدول، لذا تصبح قدرة الدول على ممارسة هذه الصلاحية منوطة بموازين قوى دولية وأقليمية.
توقيف بينوشية كان بمثابة مشروع ناجح لمنظمة العفو الدولية، التي أصبحت لاعبًا مركزيًا في الحلبة الدولية بعد حصولها على جائزة نوبل للسلام عام 1970.

في عام 1976 حصل الانقلاب العسكري في تشيلي بقيادة بينوشية، وتلته إنقلابات عسكرية يمينية أخرى في المنطقة. بينوشية أصبح رمزًا للقمع، حيث نمت حركة حقوق الانسان الحديثة في ظله.

قضية تعذيب الأسرى السياسين في أمريكا اللاتينية تحولت إلى محورٍ أساسيٍ في عمل منظمة “العفو الدولية”، والتي نجحت مساعيها في حث الأمم المتحدة على تبني معاهدة لمناهضة التعذيب في عام 1984بهدف ملاحقة بينوشية.

هذه المعاهدة لم تنحج بالنيل منه الا بعد انتهاء الحرب الباردة. محاكمته قبل ذلك لم تكن ممكنة أبدًا. بينوشية كان حليفًا للغرب ضد الشيوعية. أنا ترعرعت في ظل الحرب الباردة، الإستقطاب كان هائلاً. الجاليات اللاتينية في أوروبا لعبت دورًا كبيرا في ملاحقة بينوشية.

هنالك أبحاث جديدة تشير الى ان هذه الجاليات كانت ممولة من قبل الاتحاد السوفيتي، ولو تم الكشف عن هذه المعلومات في السبعينيات من القرن الماضي لكانت قد فقدت مصداقيتها بالكامل.

بعد إنتهاء الحرب الباردة تحوّل القانون الجنائي الدولي لمنظومة أخلاقية مشتركة للجميع، ولم يعد ينظر لجرائم بينوشية بمنظار الغرب مقابل الشيوعية إنما أصبح ينظر اليها بمنظار القانون الجنائي الدولي.أولا، العديد من النشطاء في منظمة العفو الدولية تولوا مناصب رسمية وأكاديمية، وأصبح لهم تأثير على مواقع صنع القرار.

في غرب أوروبا كان هنالك إرتفاع ملحوظ في تمويل الجمعيّات من قبل الدول الأوروبية والإتحاد. هذا لا يمكن فصله عن النظام الإقتصادي النيو-لبرالي الجديد، حيث خصخصت الدول الاوروبية مشاريع المساعدات الإنمائية والإنسانية ودعم حقوق الإنسان.

إنَّ ارتفاع شأن الجمعيات مرتبط أيضا بتراجع العضوية في الاحزاب. الناس تحولوا الى مستهلكين، بدلا من الإلتزام ببرنامج حزبي متكامل. الآن هم “يسوقون” القضايا التي تروق لهم كقضايا البيئة وغيرها لدعمها. كما أن الجمعيات تبدو للجمهور أكثر مبدئية من الأحزاب.
أوروبا تدعم هذا المشروع كمحاولة منها لموازنة القوة العسكرية للولايات المتحدة. هي تريد ان تكون لاعبًا مركزيًا على الساحة الدولية وأن تكون لها مكانة مرموقة. لذا هي لعبت دورًا رياديًا لدعم هذا المشروع كي تؤثر على مجريات الأمور دوليًا. هذا المشروع ينسجم أيضًا مع رؤية الإتحاد الاوروبي للقارّة الاوروبية بلا حدود، تحكمها محاكم فوق-وطنية، لكن دعم أوروبا لهذا المشروع متعلق أيضا بكونها في فترة ما بعد الحرب، أي أنّ هذا المشروع لا يهدّد سيادة الدول الأوروبية.

المحكمة الجنائية الدولية لم تنشأ الا بعد سقوط نظام “الأبارتهايد” في جنوب أفريقيا، وهو آخر الانظمة الكولونيالية الأوروبية. محاكة رموز الأبرتهايد لم تكن ممكنة على الإطلاق. سقوط هذا النظام أزال العقبة أمام إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.
بإعتقادي هنالك ما يقارب 25 ملفًا في المحاكم الاوروبية، لكن حيثيات هذه الملفات مختلفة جذريًا عن قضية بينوشية.

الغالبية الساحقة لهذ الملفات لا تتعلق برموز النظام إنما تتعلق بمتهمين في أسفل سلم القيادة. هم فرّوا من بلادهم بعد أن خسروا الحرب وتبدل النظام حيث لم تعد دولتهم تقدم الحماية لهم بل على العكس هي معنية بملاحقتهم كحال المتهمين في إرتكاب جرائم الإبادة في “روندا”.

هم وصلوا الى أوروبا طلباً للجوء، وبعد أن تحولوا الى مهاجرين تم التعرف عليهم وتقديم دعاوى ضدهم. في هذا الحالة لم يكن خيار أمام المحاكم الأوروبية الا محاكمتهم. أمّا بالنسبة لبينوشية الذي كان رئيس دولة، هو وصل الى أوروبا زائرًا وليس بحثًا عن اللجوء السياسي، قضيته كانت إستثناءً أو حالة هجينة وهي لن تتكرر قريبا.
الولاية القضائية العالمية كما يتم التعاطي معها في أوروبا الآن تطال فقط متهمين من دول ضعيفة تعاني من عدم الإستقرار السياسي، وهم عادة ينتمون للطرف الذي خسر الحرب، ويفرّون لأوروبا بحثًا عن ملجأ، وهي لا تمارس ضد متهمين ينتمون لدول قوية ومستقرة سياسيا، لانهم ليسوا بحاجة للفرار من بلادهم أصلا. الأمريكيون والإسرائيليون لن يأتوا لأوروبا طلبا للجوء والحماية.

أوروبا لن تطبق مبدأ الولاية القضائية العالمية على دول الإتحاد أو صديقاتها من الدول كإسرائيل وحلفائها في حلف شمال الأطلسي. عندما تمارس أوروبا الولاية القضائية العالمية هي تمارسها من منطلق شعورها “بتفوق أخلاقي” على دول اخرى.

إن محاكمة متهم من دولة عظمى له ثمن كبير، ليس على الصعيد السياسي فقط، بل على الصعيد الإقتصادي كالمقاطعة الإقتصادية للدولة التي تحاكمه وسحب الإستثمارات منها. من يريد أن يدفع هذا الثمن؟

يجب أن نميّز أيضا بين الملفات الحقيقية التي يتم البت بها في المحاكم وبين الملفات “الاعلامية” وهي عناوين لا أكثر.

حتى لو إفترضنا أنه تم إصدار مذكرة اعتقال بحق متهم ينتمي الى دولة عظمى، المدعي بحاجة الى إثبات التهم من خلال جمع الأدلة. هذا الأمر يتطلب السفر الى مكان إرتكاب الجريمة، وأنا لا اعتقد، على سبيل المثال، بان إسرائيل أو الولايات المتحدة ستسمحان لمدعٍ أوروبي يريد محاكمة مواطني إحداهما بحمع أدلة من أراضي واقعة تحت سيطرتهما. النتيجة ستكون إسقاط لملف لعدم وجود أدلة.
الحل لن يأتي من الجمعيات الحقوقية الدولية. في نهاية المطاف هذه الجمعيات تتبنى قرارات عقلانية، هي لن تستثمر موارد وطاقات في ملفات إشكالية بل ستفعل ذلك في ملفات لها مردود سياسي ملحوظ. كما انها تتبع إستراتجية إقتصادية في عملها, هي لن تتبنى ملفات قد تغضب مموليها والتي قد تؤدي الى إقتطاع جزء كبير من ميزانياتها.

التعليقات