10/12/2016 - 18:42

القوميّة الجديدة

مرحبا بكم في عصر القومية الجديدة. فللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، نشهد سقوط القوى العظمى فيما القوى الصاعدة في قبضة عبوديّة أنواع مختلفة من الشوفيينية.

القوميّة الجديدة

بوتين وترامب ولوبان (ft.com)

مع دعوته لشعار 'أميركا أوّلاً'، أصبح دونالد ترامب آخر جنود النزعة القوميّة الخطيرة. فعندما وعد ترامب بـ'جعل أميركا عظيمة مرة أخرى'، كان وعده صدى لحملة رونالد ريغان في 1980. حينها كان الناخبون الأميركيون يبحثون عن أملٍ جديد في أعقاب الفترة الرئاسيّة الفاشلة لكارتر. انتخب الأميركي السيّد ترامب، لأنّه هو الآخر قد وعدهم بتغيير 'تاريخي لا يتكرر'.

ولكن ثمة فرقاً بين الحالتين. ففي عشيّة يوم الانتخابات، وصف ريغان أميركا بـ'المدينة اللامعة فوق التلة'، مُعدِّداً كل ما تستطيع أميركا أن تساهم به لتجعل العالم مكاناً آمنا. لقد حلم ريغان بدولة 'لا تنكفئ على الداخل، بل تتجه إلى الخارج؛ نحو الآخرين'. على العكس من ذلك، أقسم ترامب على أن يضع أميركا أولاً، طالبا الاحترام من العالم الاستغلالي الذي يتعامل مع قادة واشنطن على أنّهم مغفلون، قائلاً بأنه 'لن يُخضع هذه الدولة أو شعبها مجدداً لمسار العولمة الخاطئ'. لقد كانت أميركا ريغان متفائلة، أما أميركا ترامب فإنها غاضبة.

مرحبا بكم في عصر القومية الجديدة. فللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، نشهد سقوط القوى العظمى فيما القوى الصاعدة في قبضة عبوديّة أنواع مختلفة من الشوفيينية. فعلى على غرار ترامب، يتبنّى قادة دول مثل روسيا، والصين، وتركيا نظرة تشاؤمية ترى بأن الشؤون الخارجيّة هي قضايا ذات محصّلة صفريّة، وبأنّ المصالح العالميّة تؤثّر سلباً على المصالح القوميّة. هذا التغيّر الكبير يدفعنا نحو عالم أخطر.

 يميني أو يساري؟

إنّ القوميّة مفهوم مراوغ، ولذا فإنّه مفهوم يسهل التلاعب به من قبل السياسيين. في أفضل الأحوال، تقوم النزعات القوميّة بتوحيد الشعب حول مجموعة من القيم المشتركة لإنجاز أشياء ما كان للبشر أن ينجزوها كأفراد. تتسم هذه 'القوميّة المدنيّة' بالسعي نحو التوافق والنظرة المستقبلية؛ قوميّة فرق السلام Peace Corps))، على سبيل المثال، أو الوطنيّة الشاملة في كندا، أو دعم ألمانيا لفريقها الوطني في أثناء إقامتها لكأس العالم في 2006.

تطالب القوميّة المدنيّة بقيم كونيّة، كالحريّة والمساواة. وهي تتعارض مع 'القوميّة الإثنيّة' ذات المحصّلة الصفريّة، والعدوانيّة والقائمة على النوستالجيا، والتي تستند إلى العرق أو التاريخ لتصوير الأمّة على أنها مختلفة ومتمايزة عن بقيّة الأمم. في أكثر ساعاتها ظُلمة ، في النصف الأوّل من القرن العشرين، قادت القوميّة الإثنيّة الشعوب إلى الحرب.

تشكّل شعبويّة ترامب ضربة قويّة للقوميّة المدنيّة. فلا أحد يشكك في وطنيّة الرؤساء السابقين له في حقبة ما بعد الحرب، فكلّ منهم قد أيّد قيم أميركا الكونيّة وحاول دعمها في الخارج. وحتى لو كان الشعور باستثنائيّة أميركا، قد منع الرؤساء من التوقيع على اتفاقيات محكمة الجنايات الدولية واتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار، فإنّ أميركا قد دعمت النظام القائم على هذه القواعد. وعن طريق دعم المؤسسات الدوليّة التي تحمي العالم من السقوط في فوضى الصراع المفتوح، فإنّ الولايات المتحدة قد جعلت من نفسها، ومن العالم، مكاناً أكثر أماناً وازدهاراً.

لا شكّ بأنّ سياسات السيد ترامب تهدد هذه الالتزامات، خصوصا مع صعود القوميّة الإثنيّة في أماكن أخرى واكتسابها للقوّة. فروسيا فلاديمير بوتين، قد تجاهلت القيم الليبراليّة العالميّة لحساب مزيج من التقاليد السلافيّة والمسيحيّة الأرثوذكسيّة. أما تركيا رجب طيب أردوغان فقد أعطت ظهرها للاتحاد الأوروبي ولمحادثات السلام مع الأقليّة الكرديّة، مفضّلة تبنّي نوع من القوميّة الإسلاميّة الحادّة التي سرعان ما تلقّت التهديدات والتصريحات المُدينة من الخارج. وفي حين بقي رئيس الوزراء الهندي ناريندار مودي محافظاً على مظهر خارجيّ رصين وتحديثي، فإنّه مرتبط داخلياً بعلاقات وثيقة مع الجماعات الهندوسيّة القوميّة الإثنيّة المتطرّفة والتي تتبنّى تصوّرات شوفينيّة وغير متسامحة.

في الوقت نفسه، تشهد القوميّة الصينيّة صعوداً غاضباً وانتقامياً، لا يزال الحزب يكافح للسيطرة عليه. فصحيحٌ أنّ الصين تعتمد على الأسواق المفتوحة، وأنها قد قبلت بالعديد من المؤسسات العالميّة وأنها تريد أن تقترب أكثر من النموذج الأميركي. ولكن، منذ التسعينيات فصاعداً، كان طلاب المدارس يتلقّون جرعة يوميّة من 'التربية الوطنيّة' التي تضع نصب أعينهم مهمّة محو قرن كامل من الاحتلال المُذلّ. واليوم، أصبح على الصينيّ أن ينتمي في ممارساته لسلالة 'هان' لكي يُعتبر صينياً مناسباً: وكلّ من ليس كذلك، أصبح مواطناً من الدرجة الثانية.

ومع صعود القوميات الإثنيّة وازدهارها، بدأت أهمّ تجارب العالم 'ما بعد القوميّة' بالتعثّر. فقد اعتقد مهندسو ما أصبح لاحقاً 'الاتحاد الأوروبي' بأنّ القوميّة، التي جرّت أوروبا إلى حربين عالميتين مدمّرتين، كانت في طريقها إلى الذبول والموت. وأنّ الاتحاد الأوروبي سيتجاوز التنافس القومي عبر سلسلة من الهويّات المتداخلة، حيث يمكن للمرء أن يكون كاثوليكيّاً، وألزاسياً، وفرنسياً، وأوروبياً في آنٍ معاً.

على أنّ هذا لم يحدث في أجزاء واسعة من الاتحاد الأوروبي. فقد صوتت بريطانيا للخروج من الاتحاد، كما انتقلت السلطة في البلدان الشيوعيّة سابقاً، كبولندا وهنغاريا، إلى قوميين متطرّفين كارهين للغرباء والأجانب. كما إنّ هناك خطراً، لا يزال صغيراً ولكنّه في ازدياد، يهدد بخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني انهيار هذا الاتحاد في حال حصل ذلك.

في آخر مرّة ولّت الولايات المتحدة الأميركية وجهها إلى الشأن الداخلي حصراً، بعد الحرب العالميّة الأولى، كانت النتائج كارثيّة. فليس على المرء أن يحلّق في خياله إلى المخاطر المؤلمة الممكنة ليخشى من القوميّة الجديدة التي يحملها ترامب. فعلى المستوى الداخلي، تحمل هذه النزعة خطر إنتاج التعصّب، كما إنّها تزيد الشكوك حول قيم وولاء الأقليات. وليس من قبيل الصدفة أن نرى بأنّ الدعاوى المعادية للساميّة قد بدأت تتسرّب إلى السياسة الأميركية للمرّة الأولى منذ عقود.

خارجياً، ومع بدء بعض الدول بتتبّع ذات المسار الذي اتخذته الولايات المتحدة بالانكفاء على الشأن الداخلي، فإنّ المشاكل الإقليميّة والعالميّة ستصبح صعبة الحلّ. فقد خيّم على الاجتماع السنوي لمحكمة الجنايات الدوليّة انسحاب ثلاثة دول إفريقية من عضويتها. كما بتنا نشاهد مطالبات الصين بالسيادة على بحر الصين الجنوبي، وهو أمر مخالف لاتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار. وإذا سنّ ترامب أية قوانين مما تحدّث به عن التجارة، فإنّ ذلك سيهدد بانهيار منظّمة التجارة العالميّة. وإذا فكّر بأنّ حلفاء الولايات المتحدة قد يفشلون في دفع مستحقات الحماية التي تقدّمها أميركا، فإنّ ذلك قد يهدد بتركتهم. والنتيجة ستكون قاسية – خاصة للبدان الصغيرة المحميّة اليوم بالقوانين الدوليّة- وستحملنا إلى عالم أقلّ استقراراً.

وحدة الانعزاليين

على ترامب أن يُدرك بأنّ سياساته سوف تظهر في سياق المنافسة بين النزعات القومية الأخرى. فانعزالية أميركا لن تقطع صلاتها بالعالم بقدر ما ستتركها عرضةً للاضطراب والخلافات التي ستولّدها القوميّة الجديدة. وبقدر ما تتسمم السياسات الدوليّة، فإنّ أميركا ستصاب بالأزمات ويتمّ إفقارها، ومن ثمّ فإنّ غضبها سيتزايد ويحتقن، وهو ما يهدد بحصار ترامب في حلقة مفرغة من العدائيّة والرغبة بالانتقام. لقد فات الأوان على أن يتخلّى ترامب عن رؤيته المظلمة. ولكنّ، عليه أن يسعى لاستعادة الوطنيّة التنويريّة للرؤساء الذين سبقوه، لمصلحة البلاد ومصلحة العالم.

التعليقات