يهودية إسرائيلية: الاحتلال والاستيطان وتجاهل الفلسطينيين

"بنظر الأغلبية الإسرائيلية، اليهودية والقيم اليهودية هي الاستيطان في أرض إسرائيل الكاملة. وبنظر الأغلبية (اليهودية) الأميركية، اليهودية والقيم اليهودية هي تقسيم أرض إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية. هذه ليست سياسة مغايرة، وإنما يهودية مغايرة"

يهودية إسرائيلية: الاحتلال والاستيطان وتجاهل الفلسطينيين

باحة البراق ساحة للصراع بين الإسرائيليين ويهود أميركا (أ ب)

في ما يلي الجزء الثالث والأخير من قراءة لكتاب "#يهودية إسرائيلية: بورتريه ثورة ثقافية"، وهو من تأليف الصحافي والباحث في "المعهد لسياسة الشعب اليهودي"، شموئيل روزنير، وخبير استطلاعات الرأي والمحاضر المتقاعد من جامعة تل أبيب، البروفيسور كاميل فوكس. والجديد في هذا الكتاب هو اعتماده على استطلاعات واسعة جرت بين اليهود في إسرائيل، سمحت برصد آرائهم وأفكارهم بكل ما يتعلق بالدولة وبيهوديتهم.


علمانيون وحريديون: يمين ويسار

نصف اليهود في إسرائيل تقريبا يصفون أنفسهم بأنهم علمانيون. ويقول 36% من الذين يصفون أنفسهم "علمانيين بالمطلق" و85% من الذين يصفون أنفسهم "علمانيين وإلى حد ما تقليديين" إنهم يؤمنون بالله، بينما 29% من العلمانيين لا يعترفون بوجود الله، ويقول 30% إنهم لا يؤمنون بوجود الله "لكنهم يعتقدون أحيانا أنه ربما هو موجود". ويعتقد 5% أن "الله غير موجود". والمشترك بينهم هو معارضتهم لسن قوانين تستند إلى الشريعة اليهودية. وهم لا يعارضون التقاليد الدينية، لكنهم يرفضون إملاءات الحاخامات.

ويعرّف هذا البحث العلمانيين اليهود في إسرائيل بأنهم ينتمون لمجموعة اجتماعية مرتبطة "بأصول ومستوى تعليمي ومستوى دخل"، والعلماني متعلم أكثر وميوله السياسية يسارية، "رغم أن معظم العلمانيين ليسوا يساريين"، وفي الغالب هو أشكنازي، ودخله أعلى من اليهود التقليديين والمتدينين، ولديه أولا أقل، وأغلبية العلمانيين ينظرون إلى أنفسهم كإسرائيليين أولا، ومن ثم كيهود.

ويقسم البحث اليهود العلمانيين في إسرائيل إلى مجموعتين: "علمانيون بالمطلق" و"علمانيون وإلى حد ما تقليديون". 54% من "العلمانيين بالمطلق" هم أشكناز، و33% منهم هم "علمانيون وإلى حد ما تقليديون". و43% من "العلمانيين وإلى حد ما تقليديين" و17% من "العلمانيين بالمطلق" هم يهود شرقيون. و29% من "العلمانيين بالمطلق" يؤيدون اليمين أو اليمين – وسط، بينما 50% من "العلمانيين وإلى حد ما تقليديين" يؤيدون اليمين أو اليمين – وسط. و15% من "العلمانيين بالمطلق" و3% من "العلمانيين وإلى حد ما تقليديين" يؤيدون اليسار.

وتنعكس التوزيعة أعلاه على المواقف السياسية، حسب البحث، إذ يعتقد 63% من "العلمانيين بالمطلق" أن للمستوطنين مساهمة سياسية سلبية، بينما يعتبر 62% من "العلمانيين وإلى حد ما تقليديين" أن مساهمة المستوطنين إيجابية. ويعتقد 26% من "العلمانيين بالمطلق" أن الاستيطان في أرض إسرائيل الكاملة يعبر عن رؤية يهودية، مقابل 49% بين "العلمانيين وإلى حد ما تقليديين".

من جهة أخرى، يعرّف 9% من اليهود في إسرائيل أنفسهم بأنهم حريديون، وفقا للاستطلاعات التي أجريت في إطار البحث الذي شمله الكتاب. وقال 82% من الحريديين أنهم موجودون ما بين اليمين والوسط من الناحية السياسية. ويتبين أن 58% منهم أشكناز، لكن 88% منهم مولودون في البلاد. و66% لديهم أولاد، وغالبيتهم أرباب لعائلات كثيرة الأولاد.

مساهمة الحريديين اقتصاديا وأمنيا واجتماعيًا ضئيلة (أ ب)
مساهمة الحريديين اقتصاديا وأمنيا واجتماعيًا ضئيلة (أ ب)

ومساهمة الحريديين في النواحي الاقتصادية والأمنية والاجتماعية في إسرائيل ضئيل. وهم لا يندمجون بنسبة مرتفعة في سوق العمل، ويرفضون التجند للجيش، ويسعون إلى فرض قوانين الشريعة اليهودية في الحيز العام في مجتمعهم.

ومن الناحية القومية، يختلف الحريديون عن باقي الإسرائيليين، فالعلمانيين والتقليديين يحتفلون بـ"يوم الاستقلال"، وغالبية المتدينين يؤدون صلاة الشكر على إقامة الدولة. ويقول 95% من الحريديين إنهم لا يؤدون هذه الصلاة، و10% يرفعون العلم الإسرائيلي، و48% منهم يرون بـ"يوم الاستقلال" يوما عاديا، وأكد 87% منهم أن "يوم القدس"، أي الذكرى السنوية لاحتلال القدس في حرب 1967،  هو يوم عادي.

يهودية مغايرة

توجد اختلافات عديدة وكبيرة بين اليهود في إسرائيل واليهود في الولايات المتحدة. وتنعكس هذه الاختلافات بأن الإسرائيليين أكثر تزمتا وعنصرية وتعنتا من الناحيتين الدينية والسياسية. ويعتبر 86% منهم أن أولادهم سيكونوا يهودا، ويعتقد 79% منهم أن أحفادهم أيضا سيكونوا يهودا. وهذا ينطبق على "العلمانيين بالمطلق" أيضا، الذين يعتقد 69% منهم أن أولادهم وأحفادهم سيكونوا يهودا. ويعتبر 56% أن السكن في إسرائيل هو عنصر هام أو هام جدا في اليهودية، وادعى 54% أن "تكون يهوديا جيدا" يعني تأييد الاستيطان في "أرض إسرائيل". ويعتبر 77% أن على "اليهودي الجيد" أن يهتم بمصير اليهود لمجرد كونهم يهود. ويشعر 90% منهم بعلاقة قوية مع "الشعب اليهودي".

ولفت البحث إلى أنه إذا طُرح السؤال حول مدى اهتمام اليهود الأميركيين بأن يكونوا يهودا، فإن الإجابة الأولى ستكون بصيغة سؤال: ما المقصود بـ"يهودي"؟ رغم ذلك، يتبين أن 46% منهم قالوا إنه مهم جدا، وبالنسبة لـ36% ثمة أهمية معينة لأن يكونوا يهودا. ويعني ذلك أن اليهود في إسرائيل يولون أهمية أكبر ليهوديتهم. وقال 63% إن لديهم مسؤولية بالاهتمام باليهود في ضائقة في أنحاء العالم. واعتبر 87% أن الاهتمام بإسرائيل هو عنصر هام في اليهودية.

وحسب البحث، فإن اليهود في الولايات المتحدة يولون الاهتمام الأول لذكرى المحرقة، وقال 56% إنهم يولون أحمية في الدرجة الثانية لـ"الحياة الأخلاقية"، وفي الدرجة الثالثة لـ"النشاط من أجل العدل والمساواة". وفي المقابل، فإن 27% فقط من اليهود في إسرائيل يعتقدون أن قيمتي العدل والمساواة هما ميزتان هامتان في اليهودية. ويرى معظم اليهود الأميركيين أنه ينبغي السماح للمهاجر إلى الولايات المتحدة البقاء فيها حتى لو دخلها بصورة غير شرعية، بينما "اليهودي العادي في إسرائيل، الذي تبلورت أفكاره من خلال وجود أغلبية يهودية تحارب من أجل بقاء هذه الأغلبية، وكمن يعتبر أن الفعل الأخلاقي المركزي هو الحفاظ على أمن وصبغة إسرائيل، سيقول إن الإنسان الجيد سيطرد المهاجر الذي لم يحصل على تأشيرة دخول".

ويؤكد البحث على أن أغلبية اليهود في إسرائيل المؤيدة لليمين، تميل أيضا نحو التدين أو التقاليد، وهي صقرية سياسيا أيضا، بينما 70% من اليهود الأميركيين يؤيدون الحزب الديمقراطي (المعتدل قياسا بالحزب الجمهوري اليميني)، و49% منهم ليبراليون، و19% محافظون. وتنطبق على ذلك مواقفهم السياسية المرتبطة بشكل هويتهم اليهودية. "يهود أميركا يعارضون أحيانا سياسة حكومة إسرائيل، لأنها محافظة وهم ليسوا كذلك. ويواجهون صعوبة بالموافقة على مواقف الأغلبية الإسرائيلية في قضايا الأمن والسلام، المستوطنات والاحتلال، الدين والمجتمع، الهجرة والتربية. وصوتوا لصالح باراك أوباما، وهم مصدومون من إعجاب يهود إسرائيل بدونالد ترامب. وهم معتادون على نظام يمتنع عن التعاطي مع قضايا دينية ويستصعبون تقبل النظام الإسرائيلي الذي يفرض الزواج بواسطة الحاخامية".

شرخ مع يهود الولايات المتحدة الأميركيّة، نتنياهو أمام الإيباك (أ ب)
شرخ مع يهود الولايات المتحدة الأميركيّة، نتنياهو أمام الإيباك (أ ب)

لكن البحث أشار إلى شرخ أكبر بين هاتين المجموعتين اليهوديتين، المتساويتين عددا وتشكلان الأغلبية الساحقة من اليهود في العالم، ويتعلق بالتعامل مع الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. "بنظر الأغلبية الإسرائيلية، اليهودية والقيم اليهودية هي الاستيطان في أرض إسرائيل الكاملة. وبنظر الأغلبية (اليهودية) الأميركية، اليهودية والقيم اليهودية هي تقسيم أرض إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية... ومثلما هو بنظر أغلبية اليهود في إسرائيل الاستيطان في مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) هو عمل يهودي، فإنه بنظر أغلبية اليهود في أميركا، الانسحاب من مناطق يهودا والسامرة هو عمل يهودي. هذه ليست سياسة مغايرة، وإنما يهودية مغايرة".

الفلسطينيون غائبون

ينطلق البحث في هذا الكتاب من الهوية الدينية اليهودية، حتى لدى تطرقه إلى العلمانيين أو إلى النزعات القومية لدى غير المتدينين. ويبرز ذلك خصوصا من تكرار عبارة "اليهودي الجيد" في أسئلة الاستطلاعات التي شملها البحث. ويركز الكتاب على المعتقدات الدينية والآراء السياسية، القومية خصوصا، من أجل إثبات وجود هوية مستجدة لدى اليهود في إسرائيل، هي الهوية "اليهودية الإسرائيلية".

ولا شك أن هذا البحث توصل إلى استنتاجات مفاجئة نوعا ما، مثل أن ثُلث المولودين في المجتمع الحريدي يغادرونه ويتحولون إلى علمانيين أو علمانيين تقليديين. لكن هذا البحث لا يوضح ما إذا كانت هذه تحولات خاصة باليهود في إسرائيل، أم أنها تحولات تجري في المجتمعات اليهودية خارج إسرائيل.

ولا يخوض البحث في القضايا السياسية بشكل عميق. فقد أظهر أن أغلبية (54%) بين اليهود في إسرائيل تؤيد الاستيطان، لكن البحث لم يتطرق إلى السجال حول أغلبية يهودية في إسرائيل، بحدود العام 1967، أم سيطرة إسرائيلية على كل فلسطين التاريخية، رغم أن ذلك يعني أنه لن تكون هناك أغلبية يهودية. إذ تظهر استطلاعات أخرى أن أغلبية بين اليهودي في إسرائيل، وقسم منها أظهر أنها أغلبية تتجاوز 60% أو حتى 65%، تؤيد "الانفصال عن الفلسطينيين" بمعنى التوصل إلى حل الدولتين مع تبادل أراض.

لكن هذا البحث يتجاهل الفلسطينيين، ولا يتطرق إليهم بشكل جدي، ولذلك فإنه باستثناء الإطار الذي وضعه المؤلفان لبحثهما، ليس بالإمكان معرفة المواقف الحقيقية لليهود في إسرائيل من قضية استمرار الاحتلال أم أنهم يؤيدون إنهاءه. والبحث لا يتطرق بشكل عميق ووافٍ إلى مسألة الأغلبية اليهودية أو تحولهم إلى أقلية، كما لا يتطرق إلى أي حل للصراع. ولا يمكن أن تكون هذه القضية معزولة عن هوية "اليهود الإسرائيليين"، لأنه مثلما طرأت تحولات عليهم في أعقاب قيام إسرائيل، فإنه يتوقع أن تتعمق هذه التحولات للهوية اليهودية الإسرائيلية في حال استمرار الاحتلال، وقمع الفلسطينيين، إلى هوية "يهودية إسرائيلية أبارتهايدية" مثلا.

كذلك يتجاهل هذا البحث المجتمع العربي في إسرائيل، أو نظرة اليهود في إسرائيل إلى هذا المجتمع، الذي يتعرض لسياسة تمييز مارستها الحكومات الإسرائيلية ولا تزال تمارسها، خاصة في ظل تنامي النزعات العنصرية ضد المواطنين العرب بقيادة رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، ووزراء وأعضاء كنيست.

لقد سعى هذا البحث إلى معرفة آراء اليهود في إسرائيل حول موقفهم من الاستيطان و"أرض إسرائيل الكاملة"، وإلى التباين بينهم وبين يهود أميركا، وامتنع عن سؤالهم حول مجموعة سكانية تشكل نصف عدد سكان فلسطين التاريخية، أو عن مجموعة تشكل خُمس عدد سكان إسرائيل داخل "الخط الأخضر".   

التعليقات