الصهيونية: الترانسفير والأبارتهايد (الحلقة -1-)/د.محمود محارب

-

الصهيونية: الترانسفير والأبارتهايد (الحلقة -1-)/د.محمود محارب
"يجب أن يكون واضحاً لنا أنه لا مكان للشعبين معاً في البلاد...والحل الوحيد هو أرض-اسرائيل، على الأقل أرض إسرائيل الغربية، بدون عرب. لا مكان، هنا، لحلول وسط. وما من طريق أخرى سوى ترحيل العرب من هنا إلى الدول المجاورة، ترحيلهم جميعاً... يجب أن لا نبقي أية قرية، أو قبيلة؛ يجب ترحيلهم إلى العراق وسوريا وحتى إلى شرق الأردن. ولتنفيذ هذا الهدف، يمكن توفير أموال كثيرة. وبعد الترحيل فقط تستطيع البلاد أن تستوعب الملايين من اخوتنا، وتجد المسألة اليهودية نهاية وحلاً" (يوسف فايتس، القدس، 9/12/1940).

تهدف هذه الدراسة متابعة وتحليل مواقف قادة الحركة الصهيونية ومفكريها منذ هرتسل وحتى شارون حول ما يعرف صهيونيا "بالمشكلة الديموغرافية" وفي هذا السياق ستتابع الدراسة الحلول التي طرحها قادة ومفكرو الصهيونية لهذه "المشكلة" والتي تمثلت في اتباع سياسة الترانسفير وتنفيذه على أرض الواقع. وستلج الدراسة إلى العوامل التي قادت شارون إلى تبني فرض نظام فصل عنصري في الأراضي الفلسطينية.


تعود جذور فكرة طرد الشعب العربي الفلسطيني من وطنه إلى صلب الصهيونية. فقد انبثقت هذه الفكرة من الحركة الصهيونية، ورافقت تطور المشروع الصهيوني في فلسطين، منذ نهاية القرن الماضي وحتى يومنا هذا. وما كانت الأهداف الصهيونية الأساسية لتتحقق دون طرد الفلسطينيين جميعاً، أو معظمهم، من فلسطين. فمجرد وجود الشعب الفلسطيني في وطنه يتناقض، تناقضاً حاداً، مع الصهيونية وأهدافها في فلسطين. ولكي يتسني فهم ذلك، لا بد من التوقف عند أهداف الصهيونية.

يتفق الباحثون، سواء المؤيدون للصهيونية أو المعارضون لها، على أن أهداف الحركة الصهيونية الأساسية تتمثل في النقاط التالية: أولاً، نفي ما يطلق عليه الصهونيون "المنفى" وجمع "شتات" يهود العالم في فلسطين وجوارها؛ ثانياً، انشاء دولة يهودية في فلسطين وجوارها؛ ثالثاً، تكون هذه الدولة ملجأ أمناً لليهود، ونبراساً يستضيء به الاغيار.

لو أن فلسطين كانت خالية من السكان، أو أن آباء الصهيونية وجدوا منطقة في العالم خالية من البشر، لما واجهت الحركة الصهيونية مشاكل تعرقلها في تحقيق أهدافها . إذ كان بالامكان، وخاصة في ضوء انتشار اللاسامية في أوروبا، نقل اليهود، أو من شاء منهم ، إلى البلد المنشود. ولكن، لما كان من المستحيل ايجاد منطقة على وجه البسيطة خالية من السكان، دأبت الحركة الصهيونية على تنفيذ أهدافها في فلسطين ضمن رؤية تتجاهل رسمياً ولفظياً، بصورة ممجوجة ومفضوحة، وجود الفلسطينيين، وتسعى، عملياً وبصورة غير رسمية، إلى طرد هذا الشعب "غير الموجود".

تناقض ويتناقض مبدأ نفي "المنفي" وجمع "الشتات" تناقضاً حاداً مع وجود الشعب العربي الفلسطيني في وطنه؛ وبالتالي اعتمد على نفي القائم وتشتيت الفلسطينيين واقتلاعهم من وطنهم. كما أن مبدأ تأٍسيس دولة يهودية في فلسطين وجوارها تناقض ويتناقض مع تطلعات الشعب الفلسطيني في إنشاء دولة مستقلة في فلسطين، وبالتالي اعتمد على إنكار حق الفلسطينيين في انشاء دولة خاصة بهم في وطنهم فلسطين؛ أما الهدف الصهيوني الثالث، الذي سعى إلى جعل الدولة اليهودية ملجأ آمناً لليهود، فقد تمخض عنه عدم توفر مكان آمن للفلسطينيين، وتحويل غالبية الفلسطينيين إلى لاجئين غير آمنين.

وخلافاً للحركات الاستعمارية الأخرى، لم يكن هدف الحركة الصهيونية الأساسي استغلال السكان الأصليين كمصدر عمل رخيص وسوق لمنتجاتهم. فقد استنتج القادة الصهيونيون أن أتباع هذا النموذج، الذي لن يتمخض عنه دولة يهودية بل دولة يكون فيها المستوطنون اليهود أقلية تحتل الشريحة العليا في المجتمع، بينما يشكل الفلسطينيون والذين يحتلون الشرائح الدنيا في المجتمع، الأغلبية، يحمل في ثناياه خطراً يؤدي إلى وأد المشروع الصهيوني على المدى البعيد. لذا ، قرر القادة الصهيونيون العمل على "التخلص" من الفلسطينيين، وطردهم إلى خارج فلسطين. ومن الجدير بالذكر أن الصهيونيين، وخاصة "المعتدلين" منهم، تجنبوا، في معظم الأحيان، استعمال كلمة "طرد"، لكونها تحمل صفات الوحشية والعنف، واستعاضوا عنها بكلمات تؤدي المعنى ذاته، لكنها تُجِّمل وتنمِّق الفكرة، مثل "نقل" و "تبادل سكان" و "إعادة إسكان" و "تخفيف الكثافة السكانية".


عندما كان يضع الخطوط العريضة للبرنامج الصهيوني الهادف إلى تأسيس دولة في فلسطين وجوارها، كتب مؤسس الحركة الصهيونية، ثيودور هرتسل، في يومياته، في العام 1895، حول موقف الحركة الصهيونية من العرب الفلسطينيين: "سنحاول نقل الشرائح الفقيرة إلى ما وراء الحدود، بهدوء ودون إثارة ضجة، بمنحهم عملاً في الدول التي سينقلون إليها. لكننا سوف لن نمنحهم أي عمل في بلادنا" (1).

ما كتبه هرتسل، في يومياته، بهدوء وتروّ، دون ذكر كلمة العرب، أو الفلسطينيين، عبّر عنه، بحماس، يسرائيل زنغويل، أحد مساعديه الأوائل. ففي العام 1897، زار زنغويل فلسطين واطلع، عن كثب، على الأوضاع فيها، ولمس وجود الشعب العربي الفلسطيني. ومنطلقاً من أن فلسطين وجوارها يجب أن تكون وطناً لليهود فقط، دعا زنغويل إلى طرد الفلسطينيين بالقوة . فقد أشار ، في إحدى خطبه الصريحة، في نيويورك، إلى أن "أرض – إسرائيل نفسها يسكنها العرب".

وأضاف، "علينا أن نستعد لطردهم من البلاد بقوة السلاح، تماماً كما فعل آباؤنا بالقبائل التي سكنتها؛ والا، فعلينا مواجهة مشكلة وجود سكان غرباء كثيري العدد، غالبيتهم مسلمة، وقد اعتادوا على احتقارنا منذ أجيال. إننا ، اليوم ، لا نشكل سوى 12 بالمئة من مجموع السكان ، ونملك اثنين بالمئة ، فقط، من الأرض".

لم يقتصر الموقف الصهيوني المعادي، والمنادي، بطرد العرب، على هرتسل وزنغويل، بل امتد ليشمل التيار الصهيوني اليساري. فبعد مرور عام على تأسيس الحركة الصهيونية ، نشر نحمان سيركين العام 1898، كتيِّباً عنونه "المسألة اليهودية ودولة اليهود الاشتراكية". أرسى هذا الكتيب الحجر الأساس لبلورة ما يطلق عليه "الصهيونية الاشتراكية" التي قدر لها أن تقود الحركة الصهيونية في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين، وتنشئ، وتوسع، الدولة اليهودية فيما بعد. في حديثه عن الوسائل التي ينبغي إتباعها لتحقيق أهداف الصهيونية وإنشاء دولة يهودية، اقترح سيركين، في كتيبه المذكور، ترحيل العرب الفلسطينيين إلى الدول المجاورة. فقد طالب الصهيونيين بالاتصال بالشعوب المضطهدة الخاضعة لحكم الأتراك والتعاون معها للتحرر من نيرهم. وبعد التخلص من حكم الأتراك "يجري تبادل سكان بطرق سلمية، من خلال تقسيم البلاد على أسس قومية. وأرض – إسرائيل غير المزدحمة بالسكان ، التي يشكل اليهود فيها حوالي عشرة بالمئة من سكانها، يجب أن تفرغ لهم" (2).

شاطر بير بورخوف، القطب الأخر الذي بلور التيار الصهيوني اليساري، سيركين الرأي في استهتاره بالفلسطينيين العرب وانكار حقوقهم القومية في فلسطين. ففي العام 1906، نشر بورخوف أربع مقالات بعنوان "منهاجنا" ساهمت في تطوير الأسس النظرية لما يطلق عليه "الصهيونية الاشتراكية" . وإن كان بورخوف لم يطالب بطرد الفلسطينيين – كما فعل زميله – فإنه استهتر بهم "وغيبهم" عن فلسطين وعن حقوقهم القومية فيها. فالفلسطينيون – في اعتقاد بورخوف – "لن يقاوموا المشروع الصهيوني"، لأنه "ينقصهم أي طابع اقتصادي وحضاري مستقل، وهم منشقون ومفتتون... ولا يشكلون شعباً". علاوة على ذلك ، فإنهم "يكيّفون أنفسهم بسهولة كبيرة، وبسرعة، مع حضارة أكثر تقدماً من حضارتهم قد تأتي من الخارج". واستخلص بورخوف أن الفلسطينيين، مع مرور الزمن، سينصهرون اقتصادياً وحضارياً في المستوطنين الصهيونيين، وبالتالي لن تكون مشكلة عربية داخل الدولة اليهودية العتيدة (3).

لقد اتفق جميع قادة الحركة الصهيونية ومفكريها، وبخاصة في العقدين الأولين من القرن العشرين، على تجاهل الشعب الفلسطيني، والاستهتار به، وبحقوقه القومية في وطنه. وبلغ هذا التجاهل والاستهتار درجة اضطرت الأديب والمفكر اليهودي، اسحق ابشتاين، إلى اطلاق صرخة احتجاج أخرجته على اجماع بني قومه وعرّضته لهجوم ونقد لاذعين من قادة المستوطنين الصهيونيين. ففي العام 1906، كتب ابشتاين مقالة في احدى الصحف العبرية في فلسطين بعنوان "المسألة المجهولة"، انتقد فيها، بشدة، سياسة وممارسات الحركة الصهيونية تجاه الفلسطينيين، وخاصة وسائل انتزاع الأرض من الفلسطينيين وطردهم منها. ووجه انتقاداً لاذعاً إلى القيادة الصهيونية التي "شغلت نفسها في مسائل عليا"، بينما "مسألة الموجود في فلسطين، بعمّاله وفلاحيه وسادته الحقيقيين، لم تُثّر، عملياً، ولا نظرياً"؛ وذلك لأن القادة الصهيونيين يتجاهلون أنه"يوجد في البلاد شعب كامل يتمسك بها منذ مئات السنين، ولم يدر في خلده أن يغادرها إطلاقاً" (4).

أثارت محاولة ابشتاين، غير المجدية ، البحث عن الضمير المفقود وتحذيره للمستوطنين الصهيونيين من مغبة الاستهتار بالعرب، مما قد يؤدي إلى نتائج وخيمة لا تحمد عقباها، حفيظة المستوطنين وسخطهم، خاصة وأنه امتدح خصال العرب الحميدة. وتهافت للرد عليه كثير من الكتاب والقادة الصهيونيين، واعتبروا أفكاره خطراً قومياً،وأعلنوا، مجدداً، تمسكهم بالأهداف الصهيونية الرامية إلى تكوين أغلبية يهودية و "وطن قومي" في فلسطين. (5).

وفي خضم هذه الأجواء، قدم آرثر روبين، العام 1907، على أثر زيارته لفلسطين، خطة إلى اللجنة التنفيذية للحركة الصهيونية، اقترح فيها تشكيل أغلبية يهودية في مناطق متعددة من فلسطين، ثم ربطها ببعضها بواسطة الاستيطان (6).


عزز وعد بلفور ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني موقف الحركة الصهيونية، خاصة موقفها المتجاهل للفلسطينيين والمنكر لحقوقهم القومية. فقد نص الوعد على إنشاء "وطن قومي" لليهود في فلسطين، متجاهلاً الحقوق القومية للشعب العربي الفلسطيني، الذي كان يشكل الغالبية الساحقة من مجموع السكان. كان ماكس نورداو، ذو النفوذ الواسع في الحركة الصهيونية وساعد هرتسل الأيمن، أول من صاغ موقف الصهيونية من العرب الفلسطينيين، بعد اعلان وعد بلفور. ففي السنوات الثلاث التي تلت الوعد، وضع نورداو عدداً من المبادئ الأساسية، التي تلقفها وطورها، فيما بعد، بنيامين جابوتينسكي، مؤسس الحركة التصحيحية.

دعا نورداو إلى تعزيز وتطوير الاستيطان الصهيوني في فلسطين، بمنأى ومعزل عن سكانها الأصليين. وميّز بين المستوى العملي الذي ينبغي على الحركة الصهيونية إتباعه تجاه الفلسطينيين، وبين الموقف المبدئي حول السيادة في فلسطين وجوارها. على الصعيد العملي، حاول نورداو تهدئة العرب الفلسطينيين "وطمأنتهم" بأن الصهيونية لا تهدف إلى اقتلاعهم، وذلك تحسباً من اثارتهم ضد المشروع الصهيوني. أما بخصوص الموقف المبدئي، فقد تشدّد نورداو في ادعائه بأن لليهود، فقط، الحق التاريخي والسيادة في فلسطين. ومن أجل "إحقاق الحق التاريخي"، وبالتالي السيادة اليهودية على الأرض الفلسطينية ، دعا إلى جلب أكثر من نصف مليون مستوطن يهودي، فوراً إلى فلسطين، كي يصبح اليهود أغلبية في البلاد. وأضاف أنه ما دام اليهود لا يشكلون أغلبية في فلسطين، وجوارها، فإن "حقهم التاريخي" وسيادتهم على البلاد ستبقى حولهما علامة استفهام(7).






(1) اعمال ثيودور هرتسل المختارة (عبري)، تل- ابيب: م. نيومان، 1934، الجزء الاول من اليوميات، يوم 21 حزيران (يونيو) 1985.
(2) نحمان سيركين. المؤلفات (عبري)، المجلد الاول. تل- ابيب: دافار 1939، ص20.
(3) بير بروخوف، المؤلفات (عبري)، الجزء الاول تل- ابيب: الكبيوتس الموحّد ومكتبة العمّال، 1955، ص 282- 283.
(4) اسحق ابشتاين، "المسألة المجهولة"، هشيلواح، العدد ج، المجلد 17، السنة 1907.
(5) للمزيد من التفاصيل انظر يوسف غورني، المسألة العربية والمشكلة اليهودية (عبري)، تل- ابيب: عام عوفيد، 1985.
(6) آرثر روبين، ثلاثون عاماً في بناءً ارض- اسرائيل (عبري)، تل- ابيب: شوكن، 1927، ص1- 8
(7) للمزيد من التفاصيل حول موقف ماكس نورداو من العرب الفلسطينيين المعادية للصهيونية"، في ماكس نورداو، مؤلفات صهيونية (عبري)، المجلد الرابع، القدس: بلا ناشر. 1962.

التعليقات