النخب الإسرائيلية و"الربيع العربي"/ أنطوان شلحت (3-3)

من المجلة الفصلية "قضايا إسرائيلية" الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، عدد 41- 42، صيف 2011

النخب الإسرائيلية و

 

 

مظاهر عنصرية وفوبيا واستعلاء

 

اعترى مواقف بعض النخب الإسرائيلية حيال "الربيع العربي" قدر كبير من الاستعلاء العنصري السياسي والثقافي، فضلاً عن مظاهر فوبيا إزاء فرص نشوء مجتمع مدني وديمقراطي في العالم العربي.

وكانت الحجة الرئيسة التي تذرّع بها المتوجسون شرًا من الثورة المصرية في إسرائيل قد تمثلت بادئ ذي بدء في الاستنتاج الإطلاقي التالي: من المنطقي جدًا أنه في حال سقوط السلطة الحالية في القاهرة، فإن من ستحلّ مكانها لن تكون سلطة ليبرالية وإنما سلطة إسلامية وربما إسلاموية، ولذلك ستكون هناك عواقب سلبية داخل الدولة على الأقليات ومكانة المرأة، ومن الجائز في نهاية المطاف على الديمقراطية نفسها. ومن شبه المؤكد أن النظام الإسلامي سيثير صدامات مع الغرب، ولا ريب في أنه سيفاقم الصراع مع إسرائيل، ومثال إيران هو أسطع برهان على هذا.

وهؤلاء المتوجسون في معظمهم لم يخفوا مواقفهم العنصرية التنميطية إزاء العرب عمومًا (أو كما هتف المراسل الخاص لصحيفة هآرتس إلى القاهرة أنشيل بيبر: "كلنا مصابون بوباء الاستشراق"، 2 شباط/ فبراير 2011)، وذلك حين جاهروا أيضًا باستنتاجين إطلاقيين آخرين:

أولاً، أن الديمقراطية كأسلوب حُكم لا تلائم العرب لأن العيب كله فيهم وحدهم، ووفقًا للمفهوم الواقف وراء هذا الاستنتاج فإن العرب متخلفون مئات الأعوام عن الغرب وإسرائيل بسبب الثقافة والتراث القبليين، وربما حتى جراء شيء مستحكم لا يمكن تغييره في صورتهم الجماعية، ومن الجيد لهم وللعالم أن يحكمهم طغاة مستبدون يعتمدون على القوة العسكرية، ويورثون أبناءهم السلطة مع الإيهام بالانتخابات، والحرية ليست خيرا لهم لأن صبغتهم الظلامية ستندفع خارجا في موجة عنف موجهة إلى محيطهم، وكل من يعتقد اعتقادا مغايرًا ولا سيما الغرب والرجل الساذج القاعد في البيت الأبيض فإنه ببساطة لا يفهم الحياة، أو لا يسكن هنا مثلنا ولن يدفع حياته ثمنًا لذلك (في هذا الصدد كتب عوفر شيلح ما يلي: منذ أن اندلعت أحداث الثورة المصرية ثمة شيء واحد قرر كثيرون من المتحدثين الذين أسمعهم، وكذلك جزء كبير من الجمهور أيضا، أنهم يعلمونه وهو أن الديمقراطية ليست من أجل العرب. فقد سمعت مثلا جنرالا في الاحتياط يقول في صراحة إنهم غير مستعدين بعد. وما نحتاجه في الدول العربية هو نظم حكم مستقرة لا ديمقراطية. وبعبارة أقل تهذيبا وهي الآن لي: أعطونا طُغاة يعيشون من طريق الغرب بشرط ألا تكون ديمقراطية عربية. هذا التصور هو بمثابة توليف بين مخاوف مفهومة واستعلاء. والخوف يؤجج السابقة الإيرانية- ولا تبلبلوا السوداويين بأن إيران ليست دولة عربية، فهم لا يُجهدون أنفسهم حقا في هذا التفريق-، كما أنه يؤجج فرضية ضمنية تقول إنه في أي حالة ديمقراطية سيسيطر المسلمون المتطرفون. أما الاستعلاء فإنه شيء مختلف، إنه يكاد يكون حاجتنا النفسية إلى أن يكون العرب بدائيين وظلاميين ولا يستحقون ما نعتبر أنه حق إنساني أساس ومفتاح السلام والنماء، معاريف، 1 شباط/ فبراير 2011).

ثانيًا، أن موقف الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي سارع إلى تأييد المتظاهرين في ميدان التحرير وإلى التخلي عن حليفه حسني مبارك غير ناجم عن مصالح إدارته الإستراتيجية، بل عن عدم تجربة، أو عن عدم إدراك كاف لمكامن هذه المنطقة. بناء على ذلك فإن معلقة الشؤون السياسية في صحيفة يديعوت أحرونوت، سيما كدمون، أكدت أن الذي يتولى قيادة العالم في الوقت الحالي هو "زعيم عديم التجربة كليًا" (4 شباط/ فبراير 2011). كما أن دوف فايسغلاس، المدير العام لديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أريئيل شارون، وهو محام بمهنته، كتب موعظة لهذه الإدارة الأميركية (يديعوت أحرونوت، 2 شباط/ فبراير 2011) خلص فيها، بعد أن نأى بنفسه عن تقويم جوهر الديمقراطية الإسرائيلية، إلى القول إن الديمقراطية ليست منحصرة في إجراء انتخابات حرّة فقط، بل إنها نمط حياة، ومجموعة من القيم مثل المساواة في الحقوق، وحرية التعبير والتنظيم، وسيادة القانون وما إلى ذلك. ولا شك أن لسان حاله يقول إن هذه الأمور كلها لا قبل للعرب بها. وعمدت صحيفة إلكترونية إسرائيلية يحررها الكاتب إيهود بن عيزر إلى "إسباغ" لقب "حمقاء الأسبوع" على وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لمجرّد دعوتها إلى احترام حقوق الإنسان في مصر!.

بطبيعة الحال كانت هناك أصوات إسرائيلية قليلة اتسمت بتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، لعل أبرزها المعلق السياسي والمذيع في القناة الثانية للتلفزة الإسرائيلية عمانوئيل روزين، الذي من جملة أشياء أخرى كتب يقول: يعتقد كثيرون منّا أن الديمقراطية أفضل كثيرًا من الدكتاتورية، لكن في حال الدخول في مزيد من التفصيلات في هذا الصدد فإنه لا بُدّ من طرح بضعة أسئلة، مثل: ما الذي تقدمه الديمقراطية في إسرائيل لمئات آلاف الناس الفقراء فيها الذين يجدون صعوبة كبيرة في إعالة أسرهم وإطعام أطفالهم؟ وماذا تعني الديمقراطية الإسرائيلية بالنسبة لـ 14 ألف ولد هائمين على وجوههم في الشوارع لا يجدون مأوى لهم؟ وبماذا يختلف الأولاد أو الفقراء البالغون في إسرائيل عن أولاد الشوارع والفقراء في مصر الذين يعيشون في ظل سلطة الدكتاتور حسني مبارك؟. ومن ناحية أخرى، هل يوجد للإنسان العادي في إسرائيل أي تأثير على عملية اتخاذ القرارات في الحكومة؟ وهل الحكومة الإسرائيلية المنتخبة تمثل فعلاً رغبة الذين انتخبوها من خلال القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتخذها؟.

وأضاف: غير أن أكثر سؤال يثير الحنق هو- لماذا لا يخرج المواطن الإسرائيلي إلى الشارع كي يتظاهر ضد حكومته الديمقراطية التي تستهتر به وتدير دائمًا ظهرها له؟ إنه لا يخرج لأنه غير مبال، وعلى ما يبدو فإنه غير مبال لأن الديمقراطية الإسرائيلية تؤدي دور المخدّر المدهش. وبناء على ذلك، فإنه لم يكن من قبيل المصادفة أن كثيرين منّا باتوا في الوقت الحالي يغبطون الشارع في مصر أو في تونس، ذلك بأن الملايين الذين تظاهروا هناك يرغبون في التغيير. ولذا يمكن القول إن هؤلاء يعيشون في ظل دكتاتورية لكن تفكيرهم ديمقراطي، في حين أننا نعيش في ظل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط لكننا نتنازل طوعًا ومسبقًا عن حقنا في الاستفادة منها (يديعوت أحرونوت، 7 شباط/ فبراير 2011).

أمّا المحلل السياسي في صحيفة هآرتس ألـوف بـن فرأى، كما ذكرنا سابقًا، أن الثورة المصرية هي بمثابة فرصة ذهبية لكل من نتنياهو وباراك كي يثبتا لأوباما وإدارته أن إسرائيل هي "الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي يمكنهما الاعتماد عليها" دائمًا، مؤكدًا في الوقت ذاته أن الثورة من شأنها أن تضع الادعاء المكرور بأن إسرائيل هي "فيللا في غابة"، وأنها "الحصن الغربي الخارجي في الشرق الأوسط"، على المحك مرة أخرى.

في واقع الأمر فإن تعبير "فيللا في غابة" كان التوصيف الذي أطلقه إيهود باراك عندما كان رئيسًا للحكومة عقب فشل قمة كامب ديفيد مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في العام 2000، لكنه سرعان ما أصبح يعبر بصورة صافية عن نظرة إسرائيل (وأغلبية سكانها) الاستعلائية إلى الشرق الأوسط، وتتكرّر هذه النظرة كثيرًا من بين ثنايا القول "نحن لا نعيش في سويسرا أو اسكندنافيا وإنما في الشرق الأوسط".

كما أننا ما زلنا نذكر أن باراك قال، في نطاق مقابلة أجراها معه المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس في العام 2002 (ونُشرت في مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس في 13 حزيران/ يونيو 2002): "إنهم- يقصد المسلمين- نتاج ثقافة لا يولد فيها الكذب أي إساءة أو إخلال بالآداب والقواعد... إنهم لا يعانون من المشكلة التي يتسبب بها الكذب في الثقافة اليهودية والثقافة المسيحية".

غير أن مؤسس الحركة الصهيونية بنيامين زئيف هرتسل كان أول من "تكهّن" بهذا، حين ذكر في كتابه "دولة اليهود" أن الدولة التي يسعى إلى تأسيسها "ستكون جزءًا من سور حماية أوروبا في آسيا، وحِصْنًا متقدمًا للحضارة في مواجهة الهمجية"، وفعلاً فإن هذه الدولة تحولت إلى حصنٍ، لكن سرعان ما استحال وحشيا للغاية، "يبصق" النار في الاتجاهات كلها، ويدك المدن ويحولها إلى أنقاض، ويزرع الرعب والخوف والدمار في محيطه، ويرفض وقف الحرب والتخلي عن العدوانية الهوجاء، ويستغول أكثر فأكثر.

ويمكن التدليل على مظاهر الاستعلاء العنصري السياسي والثقافي من خلال عرض كيفية انعكاسها في مواقف الأوساط اليمينية، وكذلك في مواقف الأوساط "اليسارية" التي تدعي تبني المقاربة الليبرالية.

ففي العدد الأخير من المجلة الفصلية اليمينية "هأوماه" (الأمة) التي تصدر عن "المحفل على اسم زئيف جابوتنسكي" ظهر مقال افتتاحي حذّر مما أسماه بـ "الانكماش" في مقابل آخر الأحداث في العالم العربي. وجاء فيه: "إننا نشهد لدى الجانب العربي في الآونة الأخيرة تصعيدًا في مظاهر التطرّف القومية والدينية تعكسه ثورات تسقط حكامًا مستبدين وتعلي من شأن عناصر إسلامية متطرفة. العالم العربي- الإسلامي آخذ في التراجع القهقرى في مسار قائم على فرض الإكراه الديني المقرون بسفك الدماء وتعاظم الكراهية للشعب اليهودي وإسرائيل والعربدة المتفاقمة تحضيرًا لجولة الحرب المقبلة ضد العدو الصهيوني. وفي المقابل نشهد لدى الجانب الإسرائيلي مظاهر انكماش تنجم عنها جهوزية للتنازل في الجبهات كلها، وللاعتراف بمسؤوليتنا ولو جزئيًا عما يدور حولنا، وعن جميع مشكلات الفلسطينيين. إن أعمال الذبح والقتل التي يقوم بها عرب ضد عرب مثلهم تدل على ما يمكن أن يرتكبوه ضد غير العرب، وخصوصًا ضد اليهود. وهذا الأمر لا نملك إمكان السيطرة عليه مطلقًا. ولا بُدّ من إبداء الاستغراب إزاء اعتقاد زعماء الغرب والإدارة الأميركية أن بشائر الديمقراطية قد وصلت إلى العالم الإسلامي. وما نملك أن نفعله هو أن نرصّ صفوفنا في داخل إسرائيل كي نحميها من الأخطار التي تتهدّد وجودها على المدى البعيد، وكي نعمق الوعي بأن أي تنازل من جانبنا سيجرّ وراءه تنازلات أخرى" (مجلة هأوماه، العدد 82، حزيران/ يونيو 2011).

وشنّ هذا المقال الافتتاحي هجومًا كاسحًا على جميع الإعلاميين والأدباء والأكاديميين اليهود الذين طالبوا إسرائيل بأن تتبنى مطالب "ثورات الربيع العربي"، وخصوصًا على مسؤولين عسكريين سابقين أطلقوا مع مجموعة أخرى من الشخصيات السياسية والثقافية والأكاديمية ورجال الأعمال ما يعرف باسم "المبادرة الإسرائيلية"، مؤكدًا أن هذه المبادرة "تقبل جميع المطالب العربية- الفلسطينية". واختتم هذا المقال الافتتاحي بالعبارات التالية: "من حُسن حظنا أن معظم الجمهور (في إسرائيل) لا يؤيد هذه الدعوات، وما زال يدعم الحكومة الإسرائيلية ورئيسها الذي أعلن في خطابه أمام الكونغرس الأميركي مؤخرًا أن منطقة يهودا والسامرة (الضفة الغربية) هي جزء من وطن الشعب اليهودي".  

والمقصود هنا هو مبادرة السلام التي قامت مجموعة من الشخصيات الإسرائيلية السياسية والعسكرية والاقتصادية والأكاديمية بإطلاقها في مؤتمر صحافي خاص عقد يوم 6 نيسان/ أبريل 2011 في تل أبيب. وقال أصحاب هذه المبادرة إنهم ينوون عرضها بصورة شخصية على وزراء وأعضاء كنيست، وكذلك على شخصيات وهيئات مؤثرة في العالم العربي. وهي تستند إلى مبادرة السلام العربية التي أقرّت في العام 2002، وتهدف إلى ممارسة الضغوط على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو كي يستأنف المفاوضات السياسية مع الفلسطينيين، وكي يتوصل إلى اتفاقيات تنهي النزاعات كلها.

وتتضمن المبادرة الجديدة المبادئ التالية: تُقام دولتان (إسرائيل وفلسطين) على أساس حدود 1967، ويتم الاعتراف بإسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي وبفلسطين دولة قومية للفلسطينيين؛ تكون مدينة القدس خاضعة لسيادتي الدولتين ويجري تقسيمها بحيث تصبح الأحياء اليهودية وحائط المبكى (حائط البراق) والحي اليهودي (في البلدة القديمة) خاضعة لسيادة دولة إسرائيل بينما تصبح الأحياء العربية في القدس الشرقية خاضعة لسيادة دولة فلسطين، أمّا منطقة جبل الهيكل (الحرم القدسي الشريف) فتصبح خاضعة لـ "سيادة الله" وليس لأي سيادة سياسية؛ يجري حل قضية اللاجئين الفلسطينيين بواسطة قيام الأسرة الدولية بدفع صفقة تعويضات ملائمة ويسمح للاجئين بالعودة إلى داخل دولة فلسطين فقط لا إلى داخل دولة إسرائيل.

وبرز من بين الذين يقفون وراء هذه المبادرة رئيسا جهاز الأمن العام (شاباك) السابقان يعقوب بيري وعامي إيلون، ورئيس جهاز الموساد الأسبق داني ياتوم، ورئيس هيئة الأركان العامة الأسبق أمنون ليبكين- شاحك، والجنرال في الاحتياط عمرام متسناع (رئيس حزب العمل الأسبق)، والوزير الأسبق موشيه شاحل (العمل)، ورجلا الأعمال عيدان عوفر وبرونو لاندسبرغ، ويوفال وداليا رابين (نجلا رئيس الحكومة الأسبق إسحق رابين)، والبروفسور عليزا شنهار.

وقد عرض رجل الأعمال عيدان عوفر خلال المؤتمر الصحافي الفوائد الاقتصادية لهذه المبادرة مؤكدًا أنه في حال عدم إقدام إسرائيل قريبًا على خطوة سلمية مع العالم العربي فإنها ستكون عرضة لفرض عقوبات اقتصادية عليها كما حدث في السابق مع كل من جنوب إفريقيا وإيران، مشددًا على أنه كان في كوريا الشمالية وشاهد بأم عينه "كيف أن الناس هناك لا يجدون ما يأكلونه بسبب العقوبات الدولية المفروضة على دولتهم" (هآرتس، 7 نيسان/ أبريل 2011).

من ناحية أخرى تصدّر هذه المجلة اليمينية مقال بقلم البروفسور رافي يسرائيلي، الباحث في الشؤون الإسلامية وشؤون "عرب إسرائيل" في "معهد هاري ترومان" في الجامعة العبرية في القدس، تحت العنوان "البدائل المطروحة لا تُسرّ القلب مطلقًا"، أكد في سياقه أن "المخفي في الثورات العربية ما زال هو الأعظم"، وأن "الخطر الماثل أمام الشرق الأوسط وإسرائيل (نتيجة هذه الثورات) هو نشوء بديل سلطوي إسلامي يكون جزءًا من ثورة عالمية تهدف إلى فرض خلافة إسلامية عالمية على غرار ما كانت الحال عليه في أثناء العصر الذهبي للإسلام". ويشدّد المقال على أن "الرئيس جورج بوش الابن كان على حق عندما طرح مطلب دمقرطة العالم العربي، غير أن الرئيس أوباما ارتكب خطأ فادحًا لأنه لم يطرح هذا المطلب بحدّة أكبر، وحاول أن يتفاهم مع إيران"، وعلى أن "أحلام قيام ديمقراطية في سورية وسائر العالم العربي هي مجرّد أضغاث أحلام".

وفي الجانب "اليساري" من النخب الإسرائيلية انعكس هذا الاستعلاء مثلاً في ما كتبه محرر ملحق الثقافة والأدب في صحيفة هآرتس، بيني تسيبر، في معرض تعليقه على الثورة ضد سلطة مبارك، قائلاً: "المصريون هم شعب رائع فعلاً، ويكمن سرّ سحره بالذات في كونه لا يعرف ما الذي يرغب فيه، وفي كونه  ينتظر أن يقرر له أحد ما من فوق ما الذي يجب عليه أن يفعله" (هآرتس، 30 كانون الثاني/ يناير 2011).

وبروحية مماثلة، وجه الكاتب والأستاذ الجامعي غادي طاوب نقدا إلى الولايات المتحدة بسبب ما وصفه تأييدها "الساذج" لدمقرطة المجتمع المصري، قائلاً: "يستصعب الأميركيون رؤية وفهم الأمر البسيط، وهو أن إرادة الشعب ليست دائما ديمقراطية".  وأضاف "إن الديمقراطية لا تتطلب فقط التوجه للشعب، بل أن يكون الشعب نفسه راغبًا في الديمقراطية أيضا، لا أن يكون راغبًا مثلا في زعيم قوي، أو في شيوعية شمولية، أو في أصولية إسلامية.. بمعنى آخر، فإن أوباما ينسى أن من الجدير أحيانا اختيار الديكتاتورية وتفضيلها على الديمقراطية والأصولية، وذلك لأن الديمقراطية (لدى العرب) تولد الأصولية، وبالتالي يجب الحؤول دون الإمكانية الديمقراطية" (يديعوت أحرونوت، 8 شباط/ فبراير 2011).

وبحق رأى البعض أن التوجه الذي يرسمه تسيبر وطاوب (وآخرون كثيرون ممن لا يجرؤون على المجاهرة بآرائهم) هو توجه واضح واستنتاجه جليّ وقاطع، مؤداه أن هناك شعوبا معينة لم تبرهن على نضج كاف كي تتمتع بفوائد الديمقراطية، وبالتالي من الأفضل تركها في مكانها الطبيعي، أي تركها ترزح تحت نير ديكتاتور "متنور" وعاقل يدرك ويتفهم الحاجة إلى الأمن والاستقرار، وهو توجه يسفر في العمق عن إبداء الاستعداد لتبرير أو عل الأقل لـ "تفهم" أنظمة القمع في مجتمعات أخرى (أساف ساغيف، مجلة تخيلت، العدد 43، ربيع 2011).

وربط هذا البعض بين الاستخفاف بقدرة العرب على ممارسة حياة ديمقراطية بكل معنى الكلمة، وبين ازدياد عدد الإسرائيليين الذين يميلون نحو تبني نظرة ازدراء واستخفاف بالديمقراطية ذاتها. وعلى سبيل المثال فقد دلت معطيات "مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية للعام 2010" على هذا الاتجاه المستمر الآخذ في الاتساع والتعمق، وأشارت إلى أن الإسرائيليين يعتقدون أن الديمقراطية الإسرائيلية واهنة ومعقدة. وأعرب 60 بالمئة من الإسرائيليين، الذين شملهم استطلاع مؤشر الديمقراطية الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، عن رغبتهم في رؤية "زعامة وطنية" قادرة على حل مشكلات إسرائيل بصورة ناجعة. وأيد 55 بالمئة الرأي القائل إن "وضع إسرائيل الاقتصادي سيكون أفضل بكثير فيما لو كانت مراعاة قواعد الديمقراطية تتم بصورة أقل، وفيما لو كان هناك حرص وتشدد أكبر في المحافظة على القانون والنظام العام" (المصدر السابق).

ويعتقد إيلي أفيدار، الذي شغل في السابق مناصب رفيعة في جهاز الاستخبارات ووزارة الخارجية وتولى منصب رئيس الممثلية الدبلوماسية الإسرائيلية في قطر، أن إسرائيل تعاني من فجوة كبيرة في كل ما يتعلق بفهم العالم العربي. وقد خصّص كتابه الصادر حديثًا تحت العنوان "الفجوة- ما الذي يفصل فعلاً بيننا وبين العالم العربي"، لتسليط الضوء على جوهر هذه الفجوة.

ويؤكد أفيدار، في سياق مقابلة مطولة أدلى بها إلى صحيفة يسرائيل هيوم، أن العالم العربي ليس كتلة واحدة بل عالم معقد وحافل بالنزاعات، وأن إسرائيل تتعامل معه من خلال مقاربة عامة تتسم بالاستعلاء والصلف، وأن عليها أن تستبدل هذه المقاربة بأخرى أكثر تواضعًا وواقعية، كي يكون في إمكانها أن تحافظ على بقائها في الحيّز الشرق أوسطي الذي تعيش فيه (يسرائيل هيوم، 10 حزيران/ يونيو 2011).

ويوجّه في المقابلة نقدًا حادًا إلى رئيس الدولة الإسرائيلية شمعون بيريس الذي ما زال منذ أن طرح رؤيته بشأن "الشرق الأوسط الجديد" في العام 1992 يبالغ في الحديث على ثمرات السلام بين إسرائيل والعالم العربي، ويعرض معادلة متخيلة لا تمت بأي صلة للواقع الحقيقي، على الرغم من أن هذه الرؤية لم تلق قبولاً عربيًا وعلى ما يبدو فإنها لن تلقى قبولاً كهذا. ويؤثر أداء بيريس، في قراءة أفيدار، على إشاعة أوهام توحي كما لو أن السلام أصبح قائمًا، وتنطوي على إشارة إلى أن إسرائيل ليست بحاجة إلى أن تفعل شيئًا من أجله باستثناء تأكيدها أنها راغبة فيه، والذي يظل أشبه بالضريبة الكلامية لا أكثر.

وهنا لا بُدّ من ذكر أن أحد الزملاء العرب أشار مؤخرًا وبحق إلى أنه تبلورت في إسرائيل نظرية بالغة الأهمية، ربما لعب شمعون بيريس أكثر من غيره دورا في تحديد معالمها، وغدا حزب كاديما رافع رايتها. وتتلخص هذه النظرية في أهمية سعي إسرائيل من أجل إدارة مفاوضات سلمية. والمفاوضات، بحسب هذه النظرية الإسرائيلية، ليست أكثر من أداة أو سلاح في إستراتيجيا إدارة الأزمة. وهي لا تعني البتة أنها بالتأكيد تضمن أو تقود نحو التوصل إلى حل نهائي. فالمهم ليس الحل وإنما التظاهر بالاستعداد للوصول إليه وببذل الجهد المرضي في إطاره. ومن المؤكد أن شمعون بيريس في افتتاح "مؤتمر رئيس الدولة" (عُقد في القدس في الفترة بين 21- 23 حزيران/ يونيو 2011) ركز على هذه النقطة بإعلانه أن لا بديل سوى "محادثات السلام"، وأن الأزمة القائمة هي أزمة مفاوضات وليست أزمة عملية سياسية. ولذا لم يكن من قبيل المصادفة أن تناكف زعيمة المعارضة ورئيسة كاديما، تسيبي ليفني، رئيس حكومتها مطالبة إياه بخدمة مصالح إسرائيل عبر العودة إلى طاولة المفاوضات (حلمي موسى، السفير، 23 حزيران/ يونيو 2011).

وفي سياق متصل ترى ميخال تشرنوفيتسكي، وهي ناشطة اجتماعية حريدية وخبيرة في صناعة "الهايتك"، أن النظرة الإسرائيلية العامة المسبقة التي تؤكد أن كفاح الشعوب العربية من أجل الحرية محكوم عليه بالفشل تنطوي على قدر من الاستعلاء. وأعادت إلى الأذهان أن العالم الغربي المتنور كافح مئات الأعوام قبل أن يحظى بالحرية الحقيقية. فمثلاً يعود صدور أول وثيقة استقلال خاصة بالولايات المتحدة إلى العام 1776، غير أن إلغاء العبودية فيها تم في العام 1865، وجرى منح حق التصويت للنساء في العام 1920، أما قانون حقوق المواطن الذي يحظر التمييز والفصل على أساس عنصري فقد سُنّ في العام 1964. وبالنسبة لأوروبا فإن الديمقراطية بدأت تنتشر فيها في بداية القرن التاسع عشر، ومع ذلك فإنها شهدت في النصف الأول من القرن العشرين اندلاع حربين عالميتين تخللهما قيام نظام حكم نازي. والخلاصة التي تتوصل إليها هي أنه لا بُدّ من منح الشعوب العربية المهلة الكافية كي تصوغ حريتها وتبني نظامها الديمقراطي (الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة معاريف، 30 أيار/ مايو 2011).

 

"محنة الاستشراق الإسرائيلي"

 

في مقال جريء تحت العنوان أعلاه قال البروفسور يورام ميتال والبروفسور حجاي رام، أستاذا تاريخ الشرق الأوسط في جامعة بن غوريون في بئر السبع، أن "أصحاب التوجّهات الأمنيّة" بين الباحثين والباحثات في قضايا الشّرق الأوسط هم مستشرقون بالنيابة يعتريهم في كثير من الأحيان الشعور بالاستعلاء، إن لم يكن العنصريّة، إزاء المجتمعات العربيّة،  هذا علاوةً على أنهم يتعاونون بشكلٍ جليّ أو بصورة خفيّة مع المؤسّسة الحاكمة أو المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة، وبصنيعهم هذا فإنهم يخالفون بصورة فظّة الحواجز التي تفصل بين الجامعات ومراكز الأبحاث وبين مؤسّسات الدولة. وهؤلاء المستشرقون يخونون عمليًّا دورهم كمفكّرين، والذين يتعين عليهم بموجبه تحدّي منطق الإجماع الوطني. كما أن الادعاءات التي يطرحها الكتّاب ذوو التوجّهات الأمنيّة تكرّس في الخطاب العام أسطورة "الاستبداد الشرقي" الاستشراقي وتغذّي ظاهرة فوبيا الخوف من الإسلام. إنهم يصفون انتفاضة المجتمع المصري على تنوّع طوائفه على أنها حالة من الفوضى قام بها "رعاع" عديم القيادة ويفتقر إلى الوعي السياسي "الحديث". وضياع نظام حسني مبارك تم عرضه كانهيار السّد الأخير، الذي كان بوسعه منع سيطرة القوى الإسلاميّة على مصر، علمًا بأنّ هذا التنبّؤ لم يتحقّق حتى اللحظة.

ويضيفان: على الرّغم من ذلك، يجب التحفّظ والقول إنّ الاستشراق الإسرائيليّ- تمامًا مثل "الشارع العربي"- غير مصنوع من كتلة متجانسة. ومع أنّ الكثيرين من جماعة المستشرقين في إسرائيل لا يفصلون بين متطلّبات البحث الأكاديمي وبين احتياجات الدولة، ويصرّون على أن يطبّقوا على الشّرق الأوسط مفاهيم ووجهات نظر قديمة يعود تاريخها إلى أيام الاستعمار التقليدي، فإنه ومنذ أن تمّ اختراق الفرضيّات الأساسيّة الاستشراقيّة في مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي، هناك الكثيرون ممّن يعكفون على الأبحاث الأكاديميّة لذاتها فقط، وهؤلاء الباحثون يتعاملون مع المجتمعات الإسلاميّة من خلال الانتباه إلى أبعادها المختلفة وإلى موروثها التاريخي والاجتماعيّ والثقافي المتنوّع. هذا الجيل من الباحثين في الدراسات الشّرق أوسطيّة حرّر نفسه من القيود المؤسّساتيّة والفكريّة، والتي يسير بموجبها نظراؤهم ذوو التوجّهات الأمنيّة حتى الآن، ويرفضون بصورة مطلقة مسايرة القاعدة المشتركة التّفسيريّة المتوقّعة منهم في تقويم استقرار (أو زعزعة) الأنظمة في المنطقة. بالإضافةً إلى ذلك، فإنه ومن وجهة نظرهم ونزاهتهم الأكاديميّة، فإنّ هدفهم الرئيس يتلخّص في زيادة المعرفة حول مجتمعات الشّرق الأوسط بمعزلٍ عن الاعتبارات الأخرى، من دون استخدام تلكَ المعرفة لخدمة المصالح الإسرائيليّة الضيّقة، ومن دون أن تفترض فرضيّات روتينيّة تحتّم على المجتمعات الإسلاميّة- العربيّة أن تكون متخلّفة (المشهد الإسرائيلي، 22 آذار/ مارس 2011).

من ناحية أخرى فإنه برسم "الربيع العربي" وما يعنيه من ثورة مدنية أطلقت مجموعة تُطلق على نفسها اسم "روح جديدة" تضم نحو خمسين من المثقفين الإسرائيليين اليهود الشباب ذوي الأصول العربية في نيسان 2011 مبادرة غير مسبوقة في هيئة رسالة موجهة "إلى مجايليهم من المثقفين العرب والمسلمين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" نُشرت في بضعة مواقع إلكترونية في صلبها دعوة إلى إجراء حوار إقليمي معمّق تكون غايته دمج اليهود العرب أو الشرقيين في إسرائيل ضمن تاريخ المنطقة العربية وثقافتها، و"تصحيح وترميم كل ما تمّ تدميره في الفترات الأخيرة" على صعيد العلاقات العربية- اليهودية، بما يشكل "مفتاحًا لاستئناف الشراكة الإسلامية- اليهودية- المسيحية التي ازدهرت في إبان عصر الأندلس الذهبي"، مؤكدين أن هذه الشراكة تظل قبل أي شيء رهن إنجاز عناصر متعددة على غرار المواطنة الديمقراطية المتساوية، والعدالة في توزيع الموارد الاقتصادية وفي تأمين فرص العمل والتربية والتعليم، وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وقبول بني البشر كافة بغضّ النظر عن معتقداتهم ولون بشرتهم وجنسهم ومكانتهم وميولهم الاجتماعية والعاطفية وانتماءاتهم الدينية والإثنية، ومشددين على ضرورة الالتزام بتحقيق هذه الغايات من خلال الحوار المستمر بين سكان المنطقة كلهم، فضلاً عن الحوار مع يهود من جماعات متعددة في إسرائيل وخارجها.

ولفت الموقعون على الرسالة إلى أنهم من ذراري يهود عاشوا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ مئات وآلاف الأعوام، وساهموا كغيرهم في ثقافة المنطقة وكانوا جزءًا أصيلاً منها، ولذا فإن "ثقافة البلدان الإسلامية وشعور الانتماء العميق إلى هذه المنطقة من العالم هما جزء لا يتجزأ من هويتنا الخاصة، ومن التاريخ الديني والثقافي واللغوي للحيّز الشرق أوسطي والإفريقي الشمالي، على الرغم من أن هؤلاء اليهود كانوا ضحايا أنساق من التناسي في سياق هذا التاريخ، بداية في إسرائيل التي لا تنفك تصوّر نفسها على أنها الفيصل بين القارة الأوروبية وبين شمال إفريقيا، وثانيًا في العالم العربي الذي يبدو أنه سلّم بالانشطارية المتضادة بين اليهود والعرب وبتصوير اليهود على أنهم أوروبيون وآثر أن يهمّش تاريخ اليهود العرب في ماضيه أو أن يقصيه منه كليًا، وثالثًا في أوساط الفئات اليهودية الشرقية نفسها التي خجلت من ماضيها المشترك مع الشعوب العربية وحاولت أن تندمج وتساير التيارات المهيمنة على المجتمع الإسرائيلي. وفضلاً عن ذلك كله فإن التأثيرات المتبادلة بين الثقافتين اليهودية والعربية على مرّ التاريخ تعرضت لعمليات محو شديدة الوطأة، لكنها رويدًا رويدًا أخذت تبرز في فضاءات حياتية مختلفة مثل الموسيقى والصلوات الدينية واللغة والأدب".

وقال الموقعون على الرسالة إنهم يغبطون الشعوب العربية على ثوراتها المدنية التي أطاحت أنظمة وحكامًا كما حدث في كل من تونس ومصر، وأن نظام الحكم الإسرائيلي الذين يعيشون في ظله يحاول أن يظهر بمظهر متنوّر وديمقراطي غير أنه يدوس الحقوق الاقتصادية- الاجتماعية لمعظم السكان بصورة فظّة للغاية، ويقوم بتقليص الحريات الديمقراطية، وبتشييد أسوار عنصرية في وجه الثقافة الشرقية اليهودية والعربية، وعلى الرغم من ذلك فإنه ما زالت أمامهم سكة طويلة لمحاكاة ما يجري في البلدان العربية من خروج جماهيري إلى الساحات العامة والشوارع للمطالبة بسلطة عادلة على الصُعُد المدنية والاقتصادية والثقافية.

تجدر الإشارة إلى أن هذه المجموعة نفسها كانت أصدرت بيانًا تأسيسيًا في صيف 2009 عقب الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما في جامعة القاهرة، وأعربت فيه عن دعمها الروح الجديدة التي طُرحت في ثنايا الخطاب واصفة إياها بأنها روح تصالحيّة تنطوي على نظرة ثاقبة، وعلى سعي نحو العدالة والاحترام للأديان المتعددة والثقافات المتباينة والبشر كافّة.

وأكد البيان التأسيسي من جملة أشياء أخرى أن أعضاء هذه المجموعة وُلِدْوا في إسرائيل وهم إسرائيليون تهمّهم دولتهم، ويرغبون في رؤيتها آمنة، عادلة ومزدهرة لصالح مواطنيها كلهم. لكن في الوقت ذاته، لا يمكن للتاريخ الجديد الذي ولدوا في رحمه أن يمحو تاريخًا يعود إلى مئات وآلاف الأعوام، حيث عاش آباؤهم وأجدادهم في الشّرق الأوسط، في مساحات مترامية الأطراف يحكمها المسلمون والعرب. ولا يقتصر دور الآباء والأمهات على كونهم عاشوا في هذه المناطق منذ الأزل، بل يتعدّى ذلك إلى كونهم قد شاركوا وساهموا كثيرًا في نسيج الحياة في هذه الدّول، وواكبوا تطوّره. وفي الفترة المعاصرة أيضًا، فإن ثقافة الدّول الإسلاميّة والشّرق الأوسط والثّقافة العربيّة، تُعْتَبَرُ جزءًا من هويّتهم ليس بمقدورهم اجتثاثه، ولا يرغبون في اقتلاعه أصلاً. وقد شهد تاريخ يهود الدّول الإسلاميّة لحظات مؤلمة، غير أن نظرةً فاحصة، متمحّصة وعادلة، تدلّ على أنّ تلك اللحظات الصّعبة لا يمكنها أن تتستّر على تاريخ هائل من التّعاون المشترك. والسّيادة الإسلاميّة على اليهود اتسمت بالتّسامح والكرم، أكثر كثيرًا ممّا كانت عليه حالهم تحت سّيادات غير إسلاميّة، ولا يمكن عقد مقارنةً بين مصير اليهود في الدّول الإسلاميّة وبين المصير التراجيديّ الذي ألمَّ بمجتمعات يهوديّة كاملة في مناطق أُخرى، وأساسًا في أوروبا. ومع أنه يمكن النظر إلى العقود الأخيرة على أنّها شرخ بين إسرائيل واليهود وبين العالم العربيّ والإسلاميّ، إلا إنهم يفضلون النظر إلى هذا الشّرخ باعتباره مؤلمًا وموقّتًا في تاريخ أطول كثيرًا، يشمل ماضيًا مشتركًا ولا بُدّ من أن يكون له مستقبل مشترك. وحتّى حينما تُلقى نظرة على الخريطة، فإن إسرائيل بالنّسبة إليهم هي جزء عضوي من الشّرق الأوسط، وليس من النّاحية الجغرافيّة فحسب.

وقالت المجموعة إن باب الانتساب إلى هذه المبادرة مفتوح أمام جميع الراغبين في الانضمام إليها، وأنها تنوي العمل على تعميمها في العالم العربي، وتهيئة ما يلزم من أجل إخراج دعوة الحوار التي تتضمنها إلى حيّز التنفيذ.

وتأتي هذه المبادرة على ركام جدل عميق داخل المجتمع الإسرائيلي بشأن التوتر والصراع الثقافي والاجتماعي بين اليهود الغربيين- الأشكناز وبين اليهود الشرقيين- سفاراديم. وسبق لهذا الجدل أن شكل إرهاصًا لتأسيس حركات شرقية أخرى لعل أبرزها حركة "القوس الديمقراطي الشرقي" التي تأسست في العام 1996 من طرف مثقفين يهود ذوي أصول عربية وشرقية ورفعت لواء نشر الخطاب الديمقراطي ومبادئ التعددية الثقافية، وشدّدت أدبياتها على أن إسرائيل اتبعت منذ قيامها سياسة عليا موجهة تهدف إلى إخفاء تاريخ اليهود من أصول شرقية، ولذا فإن تاريخ اليهود من البلدان العربية والإسلامية تم محوه على مدار الأعوام، وانسحبت عملية المحو هذه على الأدب والموسيقى أيضا، ولم تكن مقتصرة على التاريخ فقط.

ووفقًا لما قاله أحد المبادرين إلى هذه الرسالة فإن الذين تمرسوا في النشاط الشرقي يدركون مبلغ الخوف الذي يسيطر على الأشكناز في كل مرة تطرح فيها قضية تطلع الشرقيين إلى هوية خصوصية. وعادة ثمة مجموعة ردات فعل أشكنازية نموذجية على هذه الخشية، يبرز بينها اثنان: أولاً، الادعاء أنه لا جدوى من الاكتراث بالآثام التاريخية، ذلك بأن جماعات إثنية أخرى مثل البولنديين والمجريين أو الرومانيين، عانت هي أيضًا من مصاعب الاستيعاب والإذلال والإقصاء؛  ثانيًا، أن المشكلة آخذة في الاختفاء، حيث يتم سدّ الفجوات وتجري زيجات بين أبناء الطوائف المختلفة ويوجد شرقيون في السياسة وشيئًا فشيئًا تنمو "ثقافة إسرائيلية جامعة". وكل من يتجاسر على الادعاء بعكس ذلك يخلع عليه لقب "مهني طائفي" ويجري اتهامه بمحاولة جعل المهانة رأسماله الشخصي وبأنه يمس وحدة الشعب (وحدة الشعب والإجماع كانا على الدوام بمثابة أسطورة مجنّدة وجهازًا لإسكات الأقليات). والأنكى من ذلك أنه في كل مرة يدعي فيها مثقف شرقي أنه توجد عنصرية في إسرائيل يجري اتهامه بالعنصرية إزاء الأشكناز ويتم تصنيفه كمتطرّف.

وبين المبادرين يمكن العثور كذلك على مثقفين يرون أن موقف "اليسار الإسرائيلي" إزاء الصراع مع الفلسطينيين يتسم بالسطحية وبنقاط عمى كثيرة. فهذا اليسار يبقى برأيهم مناصرًا للفلسطينيين طالما أنهم لا يطالبون بحق العودة للاجئين، وطالما هناك تقسيم جغرافي وفصل ديمغرافي، وطالما أن الفلسطينيين متنازلون عن بيوتهم في مدنهم وأحيائهم الأصلية، وطالما تبقى دولة إسرائيل يهودية (وغربية)، وطالما استمر الفلسطينيون الذين يسمون "عرب إسرائيل" في كونهم حاضرين غائبين. ولو كان مثقفو اليسار متحررين حقًا من أساطير جيل الآباء لكانوا كشفوا أن الصهيونية هي حركة أوروبية معادية للشرق وصلت إليه ولم تر فيه كيانًا سياسيًا، وإنما مجرّد صحراء بحاجة ماسّة إلى إخصاب وإرواء. كما أنه لو كان الآباء والأبناء الأشكناز يعترفون بالشرق كيانًا سياسيًا لكانوا ميزوا أيضًا ذلك القاسم المشترك بين الشرقوية اليهودية والشرقوية الإسلامية والمسيحية، ولكانوا أدركوا في وقت مبكّر أن الخصومة المتعددة الأعوام بين الشرقيين وبين العرب ناجمة في معظمها عن دق إسفين أوروبي بين شرقيين وشرقيين، لكن اليسار الإسرائيلي ما زال مستمرًا في انتهاج سياسة العمى والاستعلاء التي انتهجها آباؤه المحافظون.

 

ما الذي تفكر إسرائيل فيه؟

 

أشرنا في بداية هذا المقال إلى النقد الصارم الذي وجهه سيفر بلوتسكر، أحد كبار المعلقين في صحيفة يديعوت أحرونوت، إلى "المسؤولين في القدس" جراء عدم قيامهم "ببذل أي جهد أو تفكير بشأن بلورة السياسة الخارجية التي يجب على إسرائيل أن تتبعها في المستقبل" (يديعوت أحرونوت، 13 حزيران/ يونيو 2011).

ولا بُدّ من أن نعيد إلى الأذهان أن مثل هذا النقد سبق أن وجهه المحلل السياسي في الإذاعة العامة والقناة الأولى للتلفزة الإسرائيلية، يارون ديكل، بعد انقضاء أول شهر على اندلاع الثورة المصرية، إلى وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، الذي اختار أن يتحدث عن الأوضاع في الدول العربية إلى  شبكة "سي. إن. إن" التلفزيونية الأميركية وامتنع من التحدث إلى شعبه.

وكتب ديكل في مقال نشرته صحيفة معاريف في 27 شباط/ فبراير 2011 أن "السؤال الذي يُطرح (إزاء سلوك باراك) هو: لماذا في ظل هذا الوضع الشائك والقابل للاشتعال عرض وزير الدفاع تقويماته وتحليلاته بالانكليزية وليس بالعبرية؟ وهل فكر بإعطاء تقرير لشعبه حول الوضع؟ للأسف الشديد يبدو أن الجواب هو ’لا’ في هذه الأثناء. وماذا عن إعطاء تقرير لناخبيه؟ استطلاعات الرأي تشير إلى أنه لم يبق لديه الكثير من الناخبين. وعلى ما يبدو فإن باراك يعتقد أنه معفي من ذلك" (في إشارة إلى انشقاقه عن حزب العمل وتأسيس كتلة برلمانية لا توجد قاعدة شعبية لها).

ورأى ديكل أن الشرق الأوسط يشهد "ثورة تاريخية لا تقل أهمية عن انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية قبل عشرين عاما. وما يحدث حولنا منذ فترة لا يميز هزة أرضية، وإنما هذا هو تحرك ألواح في قشرة الكرة الأرضية وعيون العالم كله متجهة نحو المنطقة. وللأسف الشديد فإن القيادتين السياسية والأمنية في إسرائيل اكتفتا خلال الأسابيع الأخيرة بردات فعل واهنة على هذا التسونامي. وربما تتحدثان، لكن ليس بصورة عميقة ولا حول الموضوعات المهمة. ولم يسمع أحد منهما عن حق الجمهور في المعرفة وفي طرح الأسئلة".

وأضاف أن "نظامين عربيين سقطا، وعلى ما يبدو فإن الثالث والرابع في طريقهما إلى السقوط. لكن يتضح أنه في هذه الفترة المصيرية جدا ليس هناك (في إسرائيل) من يفكر في إشراك الجمهور برأيه وفي منح مقابلات صحافية (لوسائل إعلام إسرائيلية) حول هذه الأحداث. وللأسف فإن وسائل الإعلام تسمح بحدوث ذلك. صحيح أنه لا أحد يتوقع من القيادة أن تطلع أبناء شعبها على تفصيلات خطط عسكرية ومعلومات استخباراتية موضوعة على طاولتها، لكن من واجب القيادة إشراك مواطنيها بقراءة الواقع وفهمها للوضع والرد الذي تصنعه. كما أنه يجدر في هذه المناسبة ذكر المبادرات التي من الصواب دفعها أو منعها".

وأكد ديكل أنه "يتبين مرة أخرى أننا نعيش في مجتمع ديمقراطي مشروط. كما يتضح أنه على الرغم من أن لوسائل الإعلام الحق في طرح الأسئلة إلا إنها تسمح باستمرار الوضع. وبإمكان  قادة الدولة الاستمرار في صمتهم".

وعدّد الكاتب بعض الأسئلة التي يرى أنها مهمة في ظل الأوضاع في المنطقة وهي: "كيف تستعد إسرائيل، إذا ما كانت تستعد أصلا، لشرق أوسط جديد؟ هل ثمة شيء يفعله صناع القرار باستثناء مشاهدة شاشات التلفاز والدراما الصادرة منها؟ هل يوجد تخوف بشأن استمرار اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن وكيف يتم الاستعداد لذلك؟ هل يوجد سبب لتجربة المسار الفلسطيني أو المسار السوري رغم هذه الأحداث؟ وهل هناك سبب جيد للانتظار فترة أسابيع أو شهور؟". وتابع "إن صمت القيادة البكماء لا يشكل خطوة غير ديمقراطية وحسب وإنما يطرح أيضًا تقديرا حزينا فحواه أنه ليس لدى صناع القرار أي فكرة بشأن ما ينبغي على إسرائيل أن تستعد له. وهذا أصبح مقلقا فعلا. إن إعطاء تقارير للجمهور هو حق أساس للمواطنين في المجتمع الديمقراطي، إذ إنه يجب طرح الأسئلة عندما لا يكون الوضع مريحا أيضا، وعندما لا يكون كل شيء واضحا أو مستقرًا. وإذا لم تكن هناك أجوبة شافية سيدرك الشعب أن ثمة مشكلة في القيادة المنتخبة. ولا يمكن الموافقة على وضع تسير فيه عجلات التاريخ أمام أنظارنا بينما وزير الدفاع ورئيس الحكومة لا يشعران بواجب منح حتى ولو مقابلة صحافية واحدة إلى وسائل الإعلام في إسرائيل".

وقد توقع ديكل في حينه أن يستمر القادة في إسرائيل في التزام الصمت "لأنه ليس لديهم ما يقولونه".

وما يمكن أن نضيفه الآن هو أنه حتى عندما كسروا هذا الصمت فإنهم لم يفصحوا عن جوهر ما الذي يفكرون به أو يعدون العدّة له.

وربما يعود سبب ذلك- أكثر من أي شيء آخر- إلى ما يعتقد به كثيرون من المحللين والمعلقين السياسيين في إسرائيل، وهو أن نتنياهو، باعتباره رأس الهرم السلطوي الذي يتعين عليه أن يأخذ زمام المبادرة، يدفن رأسه في الرمال إزاء التغيرات الكبيرة التي تحدث في الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة، وتتأسس قناعته بشأن التسويات السياسية على قاعدة أن الصراع الإسرائيلي- العربي هو "نزاع غير قابل للحل" (كما صرّح في مقابلة أدلى بها إلى مندوب صحيفة هآرتس الذي رافقه في زيارته لإيطاليا ونُشرت في 15 حزيران/ يونيو 2011)، ولا يهتم بأبعد من موضوع الحفاظ على سلامة ائتلافه الحكومي، كما يعتقد هؤلاء أن من المتوقع أن تستمر هذه الحالة إلى أن تحدث تطورات خارجية ربما تهزها في الصميم أو تتسبب بقلبها رأسًا على عقب، وهذا يعني أن السكة التي أمام إسرائيل لتغيير تلك الحالة بفعل إرادة داخلية من طراز إرادة التغيير العربية التي عكسها "ربيع الثورات الشعبية" ما زالت طويلة.

 [انتهــى]

التعليقات