أبحاث جديدة: من معارضة دولة لليهود إلى منع دولة للفلسطينيين

"ارتداع قادة الصهيونية من دولة قومية كان سائدا جدا، وفي مركز أفكار معظم الزعماء اليهود، وبينهم هرتسل، أحاد هعام، جابوتينسكي وحتى بن غوريون"* "القاسم المشترك بين بينيت وهرتسوغ و’صفقة القرن’ معارضة دولة قومية فلسطينية"

أبحاث جديدة: من معارضة دولة لليهود إلى منع دولة للفلسطينيين

بيغن وخلفه بن غوريون: "حق الفلسطينيين بإدارة شؤونهم دون استقلال" (مكتب الصحافة الحكومي)

الادعاءات التي وضعها "قانون القومية" وكأن إسرائيل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي"، إلى جانب مزاعم هذا القانون العنصري بأن حق تقرير المصير في فلسطين التاريخية هو حق لليهود فقط، ومطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل كـ"دولة يهودية"، لا ينسجم مع رؤية آباء الصهيونية ومؤسسيها، ومع أهدافهم السياسية، في الفترة التي سبقت قيام إسرائيل. بل أن إقامة دولة لليهود لم تكن فكرة الحركة الصهيونية، وإنما هي فكرة وضعها، لأول مرة، الاستعمار البريطاني.

وكتب زعيم الصهيونية التنقيحية، زئيف جابوتينسكي، في العام 1926، أنه "من الناحية القانونية، فإن مستقبل فلسطين يجب أن يترسخ كـ’دولة ثنائية القومية’... وأي دولة توجد فيها أقلية قومية، مهما كانت صغيرة، عليها – بموجب إيماني العميق للغاية – أن تلائم مؤسساتها القانونية مع هذه الحقيقة وتحويلها إلى دولة ثنائية، ثلاثية أو رباعية القومية".  

ولفت الباحث في التاريخ الإسرائيلي في جامعة جورج واشنطن، البروفيسور أرييه دوفنوف، وطالب الدكتوراه في العلوم السياسية في الجامعة العبرية، إيتمار بن عامي، في مقال نشراه في صحيفة "هآرتس"، أول من أمس الجمعة، إلى أن أربعة كتب صدرت بالإنجليزية، في العامين الماضيين، تقود إلى "استنتاج مفاجئ"، مفاده أن هدف قيادة الحركة الصهيونية حينذاك هو أن هذا الكيان لن يكون "دولة يهودية". وتساءل الباحثان ما إذا بدأ حاليا توجها أكاديميا جديدا. وأضافا أن ثمة سمة بارزة في أدبيات الأبحاث، في السنوات الأخيرة، تتمثل بنقل مركز الثقل من محاولة استيضاح الجانب اليهودي لدولة إسرائيل، إلى العودة إلى بحث نقدي وتاريخي حول جذور "فكرة الدولة" في الفكر الصهيوني.    

ويقوض البحث التاريخي الجديد الرواية الإسرائيلية السائدة حول "دولة في الطريق" أو "النضال من أجل دولة" لليهود، "إثر الفشل في توازن الوزن الزائد الذي منح لـ"يهودية’ دولة إسرائيل".   

حكم ذاتي وليس دولة

الكتاب الأول الذي الذي يستعرضه الباحثان دوفنوف وبن عامي، من تأليف المؤرخ ديمتري شومسكي، من الجامعة العبرية، وصدر العام الماضي، بعنوان  "Beyond the Nation-State: The Zionist Political Imagination from Pinsker to Ben-Gurion"  (ما وراء الدولة القومية: التصور السياسي الصهيوني من بينسكر حتى بن غوريون). ووفقا للنظرية التي يطرحها هذا الكتاب، فإن قادة الصهيونية لم يتطلعوا أبدا إلى دولة قومية يهودية. "جميع قادة الصهيونية، من دون استثناء، كانوا رعايا أو مواطنين في إمبراطوريات متعددة القوميات. وليس فقط أنهم يختبروا أبدا دولة قومية، وإنما اعتبروا أنفسهم كأبناء أقليات قومية يحتاجون إلى حماية من خمن الأغلبية القومية. ولم تجذبهم فكرة الدولة السيادية وذات الحكم المركزي، وإنما جذبتهم ادعاءات لجم السيادة والتطلع إلى حكم ذاتي لمجموعات قومية مختلفة".

ويؤكد شومسكي على أن "ارتداع قادة الصهيونية من دولة قومية كان سائدا جدا، وفي مركز أفكار معظم الزعماء اليهود، وبينهم هرتسل، أحاد هعام، جابوتينسكي وحتى بن غوريون". ويضيف أن "القيادة الصهيونية تخيلت الحيز القومي اليهودي كبيئة ’حكم ذاتي’ في دولة. ووُصفت الدولة الصهيونية المستقبلية كتسوية مختلفة جوهريا عن دولة قومية ذات حكم مركزي، وأن القومية اليهودية ستحقق ثقافتها بشكل منفصل، إلى جانب القومية العربية، بينما الدولة نفسها تكون محايدة".    

ويتحدث المؤرخ ميخائيل برنر، وهو يهودي ألماني، في كتابه"In Search of Israel: The History of an Idea"  (البحث عن إسرائيل: تاريخ فكرة)، الصادر العام الماضي أيضا، عن أن الكثير من الكتاب الصهاينة لم يتطلعوا أبدا إلى إقامة دولة سيادية. وأشار إلى أنه في فترة الييشوف (قبل قيام إسرائيل) وضعت الحركة الصهيونية مقترحات عديدة، بينها إقامة حكم ذاتي يهودي – بريطاني "تخضع لجلالتها"، وقد أبدى بن غوريون اهتماما بهذا المقترح فيما تبناه جابوتينسكي بحماس. كذلك انتشرت مقترحات حول تسويات فيدرالية أو ثنائية القومية.

أما مصطلح "دولة"، فقد كان مركزيا في أوساط "الحركة الإقليمية" اليهودية، المعادية للصهيونية، لأن قادتها سعوا إلى توطين اليهود في أماكن مختلفة في أنحاء العالم. ولفت دوفنوف وبن عامي إلى أنه "فيما توجه الأدب (الروائي) إلى البحث عن بديل متخيل، يذكر المؤرخون أن للحركة الإقليمية والصهيونية كان نبع (فكري) مشترك. وليس صدفة أن هرتسل تطلع إلى توطين اليهود في أوغندا... وقسم من المبادرات التي دفعها الإقليميون حظيت بنجاحات دبلوماسية أيضا، بينها قرار برمان سورينام وحكومة هولندا، من العام 1947، بمنح اليهود منطقة لإقامة دولة مستقلة في أراضي المستوطنة الأميركية الجنوبية، وسحبوا هذا الاقتراح فقط بعد قيام إسرائيل. كما أن بن تسيون نتنياهو (المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة)، وهو والد رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي، أبدى اهتماما بأفكار الحركة الإقليمية".

ويفسر شومسكي وبرنر إقامة دولة إسرائيل وعدم تبني الصهيونية للأفكار الأخرى المذكورة أعلاه بعدة أسباب: أولا، أن الثورة الفلسطينية في الأعوام 1936 – 1939، جعلت زعماء الصهيونية، وعلى رأسهم جابوتنسكي وبن غوريون، يعتقدون أن دولة ثنائية القومية غير قابلة للحياة؛ ثانيا، أن المحرقة قلبت الأمور رأسا على عقب. ويتبين من هذين الكتابين أن مصطلح "الدولة القومية" جرى استخدامه بسبب البريطانيين، لأن لجنة بيل، البريطانية التي زارت البلاد في العام 1937، تحدثت في تقريرها، ولأول مرة في تاريخ الصراع، عن "دولة يهودية"، بعد أن أوصت بتقسيم فلسطين إلى دولتين.

"اليهودي السياسي"

اعتبر الباحث يعقوب يَدغر في كتابه "Sovereign Jews: Israel, Zionism, and Judaism" (يهود سياديون: إسرائيل، الصهيونية واليهودية)، الصادر في العام 2017، أن "دولة إسرائيل تمثل نموذجا جديدا، هو ’اليهودي السياسي’، في الوقت الذي طولب فيه اليهودي التقليدي أن يدخل مضمونا حقيقيا لحياته اليهودية".

إعلان الاستقلال الفلسطيني، عام 1988

ووفقا ليدغر، المحاضر في جامعة أوكسفورد، فإن "اليهودي السياسي" يلقي على إسرائيل مسؤولية أن تكون يهودية باسمه. ويرفض يدغر ادعاءات الإسرائيليين حول "إكراه ديني"، ويرى أن الوضع الحالي هو تقاسم عمل مريح لليهودي السياسي، ويعفيه من الحاجة إلى تعريف أو التعبير عن يهوديته طالما أنه يعبر عن ولاء لقيم الدولة القومية اليهودية. ورأى الباحثان أن تذبذب يائير لبيد، رئيس حزب "ييش عتيد"، حيال قضايا الدين والدولة يجسد ادعاء يدغر.  

ويرى يدغر بالأديب الإسرائيلي أ. ب. يهوشع والباحث في الصهيونية، البروفيسور شلومو أفينيري، أنهما الممثلان الأبرز لليهودي السياسي. فقد اعتبر يهوشع أن "يهود الشتات" هم "يهود جزئيون" لأنهم يسكنون خارج إسرائيل وأن دولة إسرائيل هي نفسها اليهودية. كما يعتبر أفينيري أن جوهر الصهيونية هو تطلع لإقامة دولة. وشدد يدغر على أن "هذا المفهوم العلماني هو عمليا مرآة للصورة الشمولية الدينية – القومية وليس أقل خلاصية منها. وبينما تشدد الصهيونية الدينية القومية على كلمة ’يهودية’ وعبارة ’دولة يهودية’ وترى بها علاجا لمشاكل اليهود، فإن الصهيونية السياسية تؤمن بالأمور نفسها بواسطة التشديد على ’الدولة’ في هذه المعادلة".

منع قيام دولة فلسطينية

الكتاب الرابع من تأليف الباحث اليهودي الأميركي سث أنزيكسا، وصدر العام الماضي بعنوان Preventing Palestine: A Political History from Camp David to Oslo" " (منع فلسطين: تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو). ويتعقب أنزيكسا في كتابع المنطق الذي وجّه حكومات إسرائيل في المفاوضات مع العالم العربي، منذ العام 1978 وحتى اغتيال يتسحاق رابين، عام 1995.

خطة ترامب "صفقة القرن" تستند لمعارضة إسرائيل قيادم دولة فلسطينية

ويؤكد أنزيكسا على أن إسرائيل سعت بصورة مثابرة إلى عزل القضية الفلسطينية عن الصراع مع الدول العربية المجاورة لها ووقعت اتفاقيات سلام معها. ومهدت اتفاقية السلام مع مصر لسياسة "منع السيادة" الفلسطينية، عندما تعهدت إسرائيل بمنح الفلسطينيين حكما ذاتيا فقط وليس استقلالا كاملا.

ووفقا لأنزيكسا، فإن "إسرائيل فضّلت نموذج الحكم الذاتي الفلسطيني، لأنها هذه الصيغة سمحت لها بالحفاظ على سيطرة إسرائيلية في المناطق المحتلة عام 1967، من دون المس بمصالحها الأمنية، ومن خلال تحييد النقاش حول ’تنازل عن مناطق أرض إسرائيل’".

ويرى هذا الباحث أن موقف إسرائيل شمل قوالب مشابهة بعد الانتفاضة وفي فترة أوسلو. "في تشرين الثاني/نوفمبر 1988، عندما أعلنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن استقلال فلسطيني، شمل ذلك تطرقا واضحا لقرار التقسيم من العام 1947. وبينما تطلع الفلسطينيون إلى سيادة واستقلال سياسي كامل – إلى جانب وفي موازاة السيادة اليهودية – فإن إقامة السلطة الفلسطينية اقترح نموذج حكم محلي محدودا فقط.

وأفكارا كهذه حول حكم ذاتي للفلسطينيين ما زالت تتكرر الآن أيضا، وفقا للباحثين، "ولا فرق كبيرا بين رغبة نفتالي بينيت اليمين بالاكتفاء بحكم ذاتي فلسطيني جزئي (كانتونات)، وبين تطلع يتسحاق هرتسوغ اليساري إلى الحفاظ على حرية عمل الجيش الإسرائيلي في المناطق (المحتلة). وبين هذين الاقتراحين، وعلى الرغم من الفروق الأيديولوجية بينهما وبين ’صفقة القرن’ التي يطرحها دونالد ترامب، التي يتوقع أن تدعو إلى إقامة كيان فلسطيني محدود. والقاسم المشترك بين هذه الاقتراحات هو استنادها إلى تاريخ طويل من المعارضة الإسرائيلية لدولة قومية فلسطينية والبحث عن بدائل".  

ولفت الباحثان إلى أن كتابي شومسكي وأنزيسكا يفسران موافقة خليفة جابوتينسكي، مناحيم بيغن، كرئيس حكومة، على أن "للشعب الفلسطيني الحق في إدارة شؤونه بنفسه"، وذلك "طالما أن إقامة دولة قومية فلسطينية ليس مطروحا".

التعليقات