الرأسماليّة الخضراء: خطورتها وأسباب فشلها  

وفقا لبعض التقديرات، فإن الأصول المستثمرة والمتماشية مع المعايير الدولية للممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة، تتجاوز اليوم 35 تريليون دولار، مما دفع البعض إلى القول بأن مستثمري القطاع الخاص، ممن تدفعهم مصالحهم الذاتية العقلانية، يقدمون لنا مستقبلا أكثر اخضرارًا.

الرأسماليّة الخضراء: خطورتها وأسباب فشلها  

توضيحية ("أ ب")

بلغت هذا الصيف درجات الحرارة ذروتها عند 40 درجة مئوية في إنجلترا، لتطفو أزمة المناخ على السطح من جديد. وبالرغم مما نشهده من انتشار الظواهر المناخية العنيفة، وتصاعد موجة الغضب الشعبي العام ضد الأزمات المناخية، والإجماع المتزايد لدى مختلف الأطياف السياسية لدينا حول هذه القضية، إلا أن العالم لم يشهد بعد تغيّرًا حقيقًيا، خاصة في الوصول للأهداف المناخية الموضوعة، وتحقيق مستوى من الأمن المناخي.

الإجابة ليست في ظاهرة الإنكار للتغير المناخي لدى البعض، بل في الحلول الموضوعة من قبل صُنّاع السياسات وأصحاب المصالح التجارية، وهي في الواقع ليست حلولًا حقيقية مهما تفاوتت درجات جديتها، أو النوايا الحسنة من ورائها، والتي يمكن أن نضعها في خانة "الرأسمالية الخضراء". هي مقترحات مُغلّفة على أنها حلول تدخّل سريع، وأدوات براغماتية لخفض الانبعاثات، أو عكس مسار تدهور النظام البيئي، لكننا لا نراها على أرض الواقع.

(Getty Images)

التمويل المستدام

ووفقا لبعض التقديرات، فإن الأصول المستثمرة والمتماشية مع المعايير الدولية للممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة، تتجاوز اليوم 35 تريليون دولار، مما دفع البعض إلى القول بأن مستثمري القطاع الخاص، ممن تدفعهم مصالحهم الذاتية العقلانية، يقدمون لنا مستقبلا أكثر اخضرارًا، بل إن البعض أصبح مقتنعا بأنه بإمكاننا تحقيق الربح ونحن نصنع مستقبلًا أفضل.

للأسف، لا أدلة تدعم هذه القناعة. بداية، تكثر الانتقادات حول "الغسيل الأخضر"، وهو مفهوم حول تضليل الشركات والمؤسسات المالية للعملاء والمستهلكين في ما يتعلق بالاعتمادات البيئية أو الاجتماعية لمنتجاتهم، إلا أن المشكلة أعقد من مجرد بعض المتهمين ممن يتجاهلون قواعد المعايير البيئية والاجتماعية (الطوعية غالبًا)، بل إن الدافع الحقيقي للاستثمار في الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة ليس بالضرورة لتحقيق مخرجات إيجابية لبناء "عالم أفضل"، بل الهدف هو الحد من المخاطر التجارية، سواء القوانين الخاصة بالمناخ، أو التحديات العمالية التي تهدد العائدات المالية للشركات.

مظاهرة في لندن تطالب باتخاذ إجراءات جذرية بشأن تغير المناخ (Getty Images)

لهذا السبب، إن العديد من صناديق الحوكمة البيئية والاجتماعية لا تكاد تختلف عن الصناديق والمؤشرات الشهيرة مثل مؤشر أسهم "ستاندرد آند بورز 500" (يشمل 500 شركة أميركية). على سبيل المثال، لدى صندوق "فانغارد" الرائد للممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات في الولايات المتحدة، أكبر أرصدة من أرصدته المالية في شركات مثل "آبل"، و"أمازون"، و"مايكروسوفت". ونجد كذلك شركة "تسلا" في المرتبة السادسة، تليها فئتان مختلفتان من أسهم "ألفابيت" (الشركة الأم لشركة لجوجل).

بالطبع عندما نقول مستقبل أفضل بانبعاثات كربونية أقلّ، فلن تتبادر هذه الأسماء لمخيلتنا، ناهيكم عن سجلّ بعض هذه الشركات في ما يتعلق بالركيزة "الاجتماعية"، سواء اتهامات انتهاك حقوق الإنسان والعمل القسري في سلاسل التوريد أو المراقبة غير القانونية المزعومة للعمال.

(Getty Images)

وقد يتوقع البعض أن يستثمر صندوق "فانغارد" في حلول التحول السريع للطاقة المتجددة والبنية التحتية المستدامة، لكن الواقع هو أن أكثر من 40% من التمويل مخصص للتكنولوجيا والمشاريع المالية، في حين بلغ التمويل المخصص للطاقة والمرافق المستدامة أقل من 1%، واللافت أن حالة صندوق "فانغارد" هي القاعدة، لا الاستثناء.

صحيح أن بعض المؤسسات تستخدم موقعها كصاحبة حصص أسهم كبيرة للضغط فعليًا على الشركات الأخرى لتغيير نمط عملها، أو تخصيص رأس المال لشركات الطاقة النظيفة الناشئة، لكن العديد من كبار الصناعات لا يهتمون بالتمويل المباشر لمستقبل مستدام، ولكن بضمان توافق محفظتهم المالية مع الأهداف البيئية المُعلنة. ويمكن فهم الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات من خلال هذه التصرفات كوسيلة للمراهنة على احتمال وجود مستقبل أكثر اخضرارًا واستدامة، بدلا من المساعدة في بنائه.

فيضانات وسيول في باكستان ("أ ب")

في إحدى الدراسات المتميزة، وجد الباحثون أن أقوى سِمَة تميّز الصناديق المالية الاجتماعية عن نظيراتها من الصناديق المالية الشهيرة هي الاستثمار في الشركات قليلة الموظفين، وهو منطقي تمامًا من منظار تقليل المخاطر التي قد يتعرض لها مستثمرو القطاع الخاص؛ عمال أقل، مشاكل عمالية أقل. أما من منظار تحقيق الأهداف الاجتماعية المستقبلية، فهذه قضية أخرى تمامًا.

المنطق الذي يتكشف وراء التمويل المستدام يتعارض مع الفرضية القائلة إن الأسواق تقدّم رأسمالية أفضل وأكثر اخضرارًا. المشكلة التي تواجهها الرأسمالية الخضراء هي في حلولها المُقترحة، من زاوية إصرارها على إدخال الأزمات المناخية والبيئية المعقدة في الإطار الضيق لمفهوم "السوق"، بغض النظر عما إذا كانت فكرة السوق مساحة صالحة لتطبيق الحلول أصلا، وعليه، تظلّ الحلول حبرا على ورق.

يمكن رؤية بصمة الرأسمالية الخضراء في كل شيء؛ من التركيز المفرط على أسواق الكربون، إلى تفشي أفكار مثل "خدمات النظام البيئي" و"رأس المال الطبيعي"، والتي تسعى إلى تقسيم النظم البيئية للكوكب إلى "أسهم" منفصلة، تخدم الاقتصاد لا كحلٍّ واحد جامع. وفقا لهذا المنطق، الحوت مشروع أخضر ممتاز فلديه قدرة على امتصاص الكربون ويجذب السياح لرؤيته، أي إننا نحقق أرباحا ونساعد البيئة. بالنسبة للكثيرين، قد تبدو هذه فكرة سخيفة، ولكن مع تداول 40 مليار دولار في ما يُسمّى بخدمات النظام البيئي في عام 2018 وحده، ستدرك أنّ لهذه الأفكار رواجها وسوقها.

أضرار هائلة خلّفها إعصار "إيان" الذي ضرب فلوريدا (Getty Images)

إن الادعاءات بحجم التمويل المخصص لخفض الانبعاثات، لا تحدّ من ترليونات الدولارات المُستثمَرة فعليًا في صناعة الوقود الأحفوري. وعلى الرغم من أن نحو 23% من الانبعاثات تندرج تحت خطط تسعير الكربون المعمول بها في جميع أنحاء العالم، فإن تأثير هذه المخططات التسعيرية على إجمالي الانبعاثات، أقلّ بكثير من أهداف الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، وعلى الرغم كذلك من الصور اللامعة "للحلول الطبيعية" التي تقدّمها شركات النفط الكبرى، وعشرات المليارات من المتاجَرة السنوية في خدمات النظم البيئية، يستمرّ التنوع البيولوجي على الكوكب في الانخفاض بمعدلات مرعبة.

نحن نحيا في مجتمع منظّم ومحدَّد من خلال علاقات السوق، والفكرة القائلة إن الحلول القائمة على السوق هي الأفضل والأكثر واقعية، وغالبًا ما تكون السبيل الوحيد لحل معظم المشاكل، هي فكرة متأصّلة جدًا في ما نعتبره تفكيرا سليما، ومن الصعب تخيُّل أية بديل مهما كان ملحًّا وضروريًا. إن معادلة الربح للجانبين جذابة، لكن يجب مقاومتها عند الحديث عن الأزمات المعقّدة والنوعية.


* كاتبة المادة في The Guardian، هي الباحثة أدريان بولر، التي يركّز عملها على العلاقات بين التمويل وأزمة المناخ.

التعليقات