هل أثبتت النيوليبراليّة الاقتصاديّة فشلها؟

وأرجع العديد من الاقتصاديّين ما تتعرّض له كثير من الدول حول العالم، وأّوّلها الولايات المتّحدة الاميركيّة من تقلّبات اقتصاديّة بسبب التضخّم وارتفاع أسعار الفائدة، إلى فشل  السياسات النيوليبراليّة الاقتصاديّة

هل أثبتت النيوليبراليّة الاقتصاديّة فشلها؟

(Getty)

خلال الأسبوع الماضي، قال رئيس الاحتياطيّ الفيدراليّ، جيروم باول، إنّ أسعار الفائدة ستكون في مستويات أعلى من المتوقّعة سابقًا من قبل أعضاء الفيدراليّ. وأحدثت تصريحات باول بلبلة كبيرة في الأسواق الماليّة العالميّة، وأثّر ذلك على أسعار الأسهم وأسواق العملات المشفّرة على حدّ سواء.

وأرجع العديد من الاقتصاديّين ما تتعرّض له كثير من الدول حول العالم، وأّوّلها الولايات المتّحدة الاميركيّة من تقلّبات اقتصاديّة بسبب التضخّم وارتفاع أسعار الفائدة، إلى فشل السياسات النيوليبراليّة الاقتصاديّة، حيث أثبتت الانهيارات المتتالية في عدد من البلدان حول العالم هذا الأمر.

ويشير مصطلح "الليبراليّة الجديدة" إلى نظريّة اقتصاديّة تؤكّد على دور الأسواق الحرّة وتقليل التدخّل الحكوميّ في الأنشطة الاقتصاديّة، وظهرت النيوليبراليّة كنظريّة اقتصاديّة سائدة في أواخر القرن العشرين، خاصّة بعد انهيار الاتّحاد السوفيتيّ ونهاية الحرب الباردة، وتتبنّى النظريّة فكرة أنّ الأسواق يجب أن تكون خالية من التدخّل الحكوميّ، وأنّ القطاع الخاصّ يجب أن يكون محرّك النموّ الاقتصاديّ. في هذا المقال، سأشرح السمات الرئيسيّة للنيوليبراليّة، وسأفحص أسباب انهيارها، وأقدّم أمثلة على إخفاقات النظام.

ويقوم المبدأ المركزيّ للنيوليبراليّة على أنّ السوق يجب أن يكون المحرّك الأساسيّ للنموّ الاقتصاديّ، مع القليل من التدخّل الحكوميّ، وهذا يعني أنّ الحكومات النيوليبراليّة تميل إلى الدعوة إلى خصخصة الخدمات العامّة، وتحرير الصناعات، وتقليص برامج الرعاية الاجتماعيّة، تحت ادّعاء أنّ الشركات الخاصّة أكثر كفاءة من الكيانات الّتي تديرها الحكومة، وأنّ المنافسة بين الشركات ستؤدّي إلى الابتكار وانخفاض الأسعار بالنسبة للمستهلكين.

ومن الناحية العمليّة، أدّت السياسات النيوليبراليّة إلى زيادة عدم المساواة في الدخل، حيث تتركّز فوائد النموّ الاقتصاديّ بين نخبة صغيرة، كما ارتبطت بتآكل حقوق العمّال، وإضعاف النقابات العمّاليّة، وزيادة العمل غير المستقرّ، وأدّت السياسات النيوليبراليّة أيضًا إلى تآكل الخدمات العامّة، لا سيّما في البلدان النامية، حيث قد لا تمتلك الحكومة الموارد اللازمة لتقديم الخدمات الأساسيّة مثل الرعاية الصحّيّة والتعليم.

وحسب خبراء، فإنّ هناك العديد من الأسباب الّتي أدّت إلى تعرّض الليبراليّة الجديدة للانتقادات الشديدة في السنوات الأخيرة، كونها فشلت كنظام اقتصاديّ، وإحدى القضايا الرئيسيّة المطروحة هي أنّ النظريّة لا تأخذ في الاعتبار التكاليف الاجتماعيّة للرأسماليّة غير المقيّدة، إذ أدّى تركيز الثروة بين نخبة صغيرة إلى اضطرابات اجتماعيّة، حيث يشعر الناس العاديّون بأنّ النظام قد تخلّف عن الركب. كان هذا واضحًا بشكل خاصّ في الولايات المتّحدة، حيث يمتلك أعلى 1% من السكّان ثروة أكثر من 90% من الطبقة الدنيا.

وأدّت النيوليبراليّة إلى زيادة التقلّبات الاقتصاديّة، إذ سمح تحرير الأسواق الماليّة بانتشار الأدوات الماليّة المعقّدة، مثل مقايضات التخلّف عن سداد الائتمان، ويمكن لهذه الأدوات أن تخلق مخاطر منهجيّة يمكن أن تؤدّي إلى أزمات اقتصاديّة، كما اتّضح في الأزمة الماليّة العالميّة لعام 2008، والتي نتجت جزئيًّا عن تحرير القطاع الماليّ، ممّا سمح للبنوك بالمخاطرة المفرطة في السعي وراء الأرباح.

كما تعرّضت النيوليبراليّة لانتقادات لفشلها في الوفاء بوعدها بالنموّ الاقتصاديّ، وبينما يقول باحثون بأنّ الأسواق ستخلق النموّ والازدهار، فإنّ الحقيقة هي أنّ السياسات النيوليبراليّة أدّت إلى الركود في العديد من الاقتصادات، على سبيل المثال، في أوروبا، أدّت تدابير التقشّف الّتي تمّ تنفيذها استجابة لأزمة عام 2008 إلى ارتفاع مستويات البطالة وتباطؤ النموّ، وفي البلدان النامية، أدّت السياسات النيوليبراليّة إلى تآكل الخدمات العامّة، وفي بعض الحالات، أدّت إلى زيادة الفقر وعدم المساواة.

ويمكن رؤية فشل النيوليبراليّة في أجزاء كثيرة من العالم، من الاقتصادات المتقدّمة في أوروبا وأمريكا الشماليّة، إلى الاقتصادات النامية في إفريقيا وأمريكا اللاتينيّة. وأحد الأمثلة البارزة هو حالة تشيلي، الّتي كانت من أوائل الدول الّتي تبنّت سياسات نيوليبراليّة في السبعينيّات. في ظلّ دكتاتوريّة أوغستو بينوشيه، حيث خصخصت تشيلي العديد من الخدمات العامّة، وتحرير الصناعات، وقطعت برامج الرعاية الاجتماعيّة، وفي حين أدّت السياسات إلى فترة من النموّ الاقتصاديّ، إلّا أنّها أدّت أيضًا إلى انتشار عدم المساواة والاضطرابات الاجتماعيّة. حيث اندلعت في السنوات الأخيرة الاحتجاجات في تشيلي بسبب تزايد عدم المساواة، وارتفاع مستويات ديون الطلّاب، ونقص الإسكان الميسور التكلفة، وأدّت الاحتجاجات إلى دعوات لنظام اقتصاديّ أكثر إنصافًا يضع احتياجات الناس

واستجابة للأزمة الماليّة لعام 2008، طلب من اليونان تنفيذ تدابير التقشّف كشرط لتلقّي أموال الإنقاذ من الاتّحاد الأوروبّيّ، وشملت هذه الإجراءات تخفيضات في الإنفاق العامّ، وخصخصة الأصول العامّة، وتقليص برامج الرعاية الاجتماعيّة.

ومع ذلك، أدّت تدابير التقشّف إلى انكماش اقتصاديّ حادّ، مع ارتفاع مستويات البطالة والفقر، وبالإضافة إلى ذلك ، اضطرّت الحكومة اليونانيّة إلى بيع الأصول العامّة بجزء بسيط من قيمتها، ممّا أدّى إلى اتّهامات بالفساد و"رأسماليّة المحسوبيّة"، وأصبحت أزمة الديون اليونانيّة رمزًا لفشل السياسات النيوليبراليّة في أوروبا، وأدّت إلى دعوات لنظام اقتصاديّ أكثر إنصافًا واستدامة.

وكشف جائحة COVID-19 نقاط ضعف الليبراليّة الجديدة في أجزاء كثيرة من العالم. في البلدان الّتي تمّ فيها خصخصة أنظمة الرعاية الصحّيّة العامّة ونقص التمويل، وأدّى الوباء إلى نقص حادّ في الإمدادات الطبّيّة والموظّفين. بالإضافة إلى ذلك ، أدّى الوباء إلى زيادة حادّة في البطالة والفقر، حيث فقد العديد من العاملين في قطاع الخدمات وظائفهم.

التعليقات