رفع معدّلات الفائدة في مواجهة التضخّم: هل تحقّق البنوك المركزيّة أهدافها؟

تعتبر العلاقة بين طباعة النقود والتضخم وأسعار الفائدة معقدة ومتعددة الأوجه، إذ يتطلب فك رموز ديناميكيات السبب والنتيجة بين هذه العوامل فهماً عميقاً للنظرية الاقتصادية والسياقات التاريخية وتعقيدات العالم الحقيقي

 رفع معدّلات الفائدة في مواجهة التضخّم: هل تحقّق البنوك المركزيّة أهدافها؟

لا يزال المستثمرون يتخوّفون من قيام الفيدرالي الأميركيّ برفع سعر الفائدة في الجلسة القادمة، في محاولة لخفض نسبة التضخّم، خاصّة بعد جائحة كورونا والحرب الروسيّة الأوكرانيّة، حيث تشكّل طباعة النقود وأسعار الفائدة والتضخّم جوهر قرارات السياسة النقديّة التي تتّخذها البنوك المركزيّة حول العالم، وغالبًا ما تخضع لوجهات نظر مختلفة بين الاقتصاديّين وصانعي السياسات على حدّ سواء.

وتتضمن طباعة النقود، المعروفة تقنيًا باسم التيسير الكمي (QE) أو شراء الأصول، قيام البنوك المركزية بطباعة أموال جديدة لشراء الأصول مثل السندات الحكومية أو الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، ويهدف ضخ الأموال في الاقتصاد إلى تحفيز الإنفاق، وتعزيز النشاط الاقتصادي، وفي نهاية المطاف منع الانكماش في أوقات الضائقة الاقتصادية.

ومن ناحية أخرى، يشير التضخم إلى الارتفاع العام في أسعار السلع والخدمات بمرور الوقت، وغالبًا ما يتم قياسه باستخدام مؤشرات مثل مؤشر أسعار المستهلك (CPI) أو مؤشر أسعار المنتجين (PPI)، ويمكن أن يكون للتضخم أسباب مختلفة، بما في ذلك اختلالات العرض والطلب، والتغيرات في تكاليف الإنتاج، والتغيرات في توقعات المستهلك.

وتلعب أسعار الفائدة دورًا مهمًا في الاقتصاد من خلال التأثير على تكاليف الاقتراض وتوفير الحوافز وقرارات الاستثمار، حيث تستخدم البنوك المركزية أسعار الفائدة كأداة للتحكم في المعروض النقدي وتحقيق أهدافها الاقتصادية، وعندما تريد البنوك المركزية تحفيز النشاط الاقتصادي، فإنها تخفض أسعار الفائدة، مما يجعل الاقتراض أرخص ويشجع الإنفاق، وعلى العكس من ذلك، عندما يرغبون في كبح جماح التضخم، فقد ترفع أسعار الفائدة لتثبيط الاقتراض والإنفاق المفرطين.

وكانت العلاقة بين طباعة النقود والتضخم موضوع بحث ومناقشة مكثفة بين الخبراء، حيث تقترح نظرية الكمية الكلاسيكية للنقود وجود صلة مباشرة بين عرض النقود ومستويات السعر، ووفقًا لهذه النظرية، فإن الزيادة في عرض النقود ستؤدي إلى التضخم، على افتراض أن العوامل الأخرى تظل ثابتة.

ومع ذلك، فإن اقتصادات العالم الحقيقي أكثر تعقيدًا مما يوحي به هذا النموذج المبسط، حيث تلعب سرعة النقود (معدل تداول الأموال) والتغيرات في الإنتاجية أيضًا أدوارًا مهمة، وخلال فترات عدم اليقين الاقتصادي، مثل الأزمة المالية لعام 2008، لم تؤد طباعة النقود المتزايدة بالضرورة إلى تضخم فوري، حيث كان هذا جزئيًا، لأن البنوك كانت مترددة في الإقراض، وكان الأفراد والشركات يركزون على سداد الديون بدلاً من الإنفاق.

وتصبح العلاقة بين طباعة النقود والتضخم أكثر تعقيدًا عند النظر في الترابط الاقتصادي العالمي، وفي عالم شديد الترابط، يمكن لعوامل مثل أسعار الصرف والاختلالات التجارية واضطرابات سلسلة التوريد أن تؤثر على كيفية تأثير التغيرات في عرض النقود في بلد ما على معدل التضخم في بلد آخر.

وتعتبر العلاقة بين أسعار الفائدة والتضخم هي أيضا دقيقة، حيث تقوم البنوك المركزية بتعديل أسعار الفائدة بهدف تحقيق أهداف التضخم الخاصة بها، وعندما يكون التضخم منخفضًا، قد تخفض البنوك المركزية أسعار الفائدة لتحفيز الإنفاق والاستثمار، وعلى العكس من ذلك، عندما يتجاوز التضخم هدفها، قد ترفع البنوك المركزية أسعار الفائدة لتهدئة الاقتصاد ومنع الزيادات الجامحة في الأسعار.

وتعتبر التغييرات في أسعار الفائدة إلى الاقتصاد الأوسع ليس دائمًا فوريّة أو موحّدة، إذ تعمل السياسة النقدية مع فترات تأخير، مما يعني أن الآثار الكاملة لتغيرات الأسعار قد تستغرق وقتًا حتى يتم الشعور بها، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون للتغيرات في أسعار الفائدة تأثيرات متفاوتة على مختلف قطاعات الاقتصاد. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي أسعار الفائدة المنخفضة إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي والطلب على الإسكان، ولكنها قد تشجع أيضًا على الإفراط في المخاطرة وفقاعات الأصول.

وبحسب دراسات كثيرة، فإنّ أحد العوامل الحاسمة التي غالبًا ما يتم تجاهلها في المناقشات حول طباعة النقود والتضخم وأسعار الفائدة هو دور التوقعات ومصداقية البنك المركزي، وإذا توقع الناس أن طباعة النقود ستؤدي إلى تضخم مستمر، فقد يضبطون سلوكهم وفقًا لذلك.

وفي السنوات الأخيرة، كانت العلاقة بين طباعة النقود والتضخم وأسعار الفائدة موضع نقاش وبحث متجدد، حيث أعادت الاستجابات النقدية غير المسبوقة لوباء COVID-19 إشعال النقاشات حول العواقب المحتملة لخلق الأموال الضخمة.

وأكدت الأبحاث التي أجراها الاقتصاديون مثل بول كروغمان وأوليفييه بلانشارد على أهمية مراعاة السياق الاقتصادي العام عند تقييم تأثير طباعة النقود، حيث ادّعوا بأنه في بيئة منخفضة التضخم مع ركود كبير في الاقتصاد، قد تكون زيادة المعروض النقدي ضرورية لمنع الانكماش ودعم الانتعاش الاقتصادي.

ومع ذلك، فقد أثار النقاد، بمن فيهم الاقتصاديون مثل نورييل روبيني، مخاوف بشأن العواقب المحتملة طويلة المدى لطباعة النقود المفرطة، كما حذّروا من أنه في حين أن التضخم الفوري قد لا يتحقق، فإن تراكم السيولة الزائدة في الأسواق المالية يمكن أن يؤدي إلى فقاعات الأصول وعدم الاستقرار المالي.

وتعتبر العلاقة بين طباعة النقود والتضخم وأسعار الفائدة معقدة ومتعددة الأوجه، إذ يتطلب فك رموز ديناميكيات السبب والنتيجة بين هذه العوامل فهماً عميقاً للنظرية الاقتصادية والسياقات التاريخية وتعقيدات العالم الحقيقي.

وتنخرط البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم في عملية توازن دقيقة أثناء تنقلها في هذه الشبكة المعقدة من العلاقات، حيث تسترشد قراراتهم بشأن طباعة النقود وأسعار الفائدة بولايتهم المزدوجة المتمثلة في تعزيز استقرار الأسعار وتحقيق أقصى قدر من العمالة المستدامة، كما يتطلب تحقيق هذه الأهداف مراقبة مستمرة وتحليل البيانات الاقتصادية وتعديل أدوات السياسة حسب الحاجة.

ومع تطور الاقتصاد العالمي ومواجهة تحديات جديدة، من المرجح أن تستمر المناقشات حول طباعة النقود والتضخم وأسعار الفائدة.

التعليقات