10/06/2016 - 19:39

كين لوتش؛ حين يدعو صاحب السّعفة الذّهبيّة للمقاطعة

كنت مذهولًا أمام هذا الكلام الصّادر عن أحد أهمّ رموز السّينما العالميّة، وبالتّحديد هنا، في فرنسا، حيث بدأنا نشعر منذ سنوات بحساسيّة الدّعوة لمقاطعة إسرائيل وملاحقة العديد من المناصرين للقضيّة الفلسطينيّة قضائيًّا، وتجريمهم بسبب مواقفهم.

كين لوتش؛ حين يدعو صاحب السّعفة الذّهبيّة للمقاطعة

كين لوتش خلال استلامه السّعفة الذّهبيّة في كان (2016)

هي رحلة قصيرة لساعة واحدة بالطّائرة من مدينة كان الفرنسيّة ومهرجانها البرّاق إلى باريس، المدينة الّتي أوجدت صناعة السّينما في القرن التّاسع عشر. إنّه المخرج البريطانيّ المخضرم كين لوتش، الحائز على السّعفة الذّهبيّة هذا العام لمهرجان كان الدّوليّ للسّينما في دورته الـ 69، عن فيلمه 'أنا دانييل بلايك'، والّذي يندّد فيه بالظّلم الاجتماعيّ.

في مهرجان السّينما الفلسطينيّة

غادر كين لوتش أجواء مدينة كان وضجيج مصوّريها وصحافيّيها، ليحلّ ضيفًا على واحد من أصغر وأجدد مهرجانات السّينما في فرنسا، مهرجان السّينما الفلسطينيّة بنسخته الثّانية. حلّ لوتش ضيفًا استثنائيًّا في أمسية الافتتاح الّتي أُقيمت في أودوتوريوم معهد العالم العربيّ في باريس، يوم الاثنين 24 أيّار (مايو)، حيث عُرض فيلم المخرجة الفلسطينيّة ميّ المصري، '3000 ليلة'، وسط حضور مميّز لنخبة من السّينمائيّين والفنّانين الفلسطينيّين والعرب والأجانب.

صعد لوتش إلى المنصّة لتقديم كلمة بصفته واحدًا من رعاة المهرجان منذ تأسيسه عام 2014. على غير العادة في هكذا أجواء خطابيّة كلاسيكيّة، قفز لوتش بخطابه متجاوزًا بروتوكوليّة المناسبة، ذاهبًا إلى أقصى ما كنّا نتوقّع، حين قال: 'في غياب فاعليّة المجتمع الدّوليّ الّذي لا يمارس أيّ سلطة ولا يبحث عن إعادة الحقوق المشروعة للشّعب الفلسطينيّ، علينا أن نقوم نحن، المدنيّين، بفعل ما نستطيع من أجل ذلك، وما أقصده هو مقاطعة إسرائيل.'

كنت مذهولًا أمام هذا الكلام الصّادر عن أحد أهمّ رموز السّينما العالميّة، وبالتّحديد هنا، في فرنسا، حيث بدأنا نشعر منذ سنوات بحساسيّة الدّعوة لمقاطعة إسرائيل وملاحقة العديد من المناصرين للقضيّة الفلسطينيّة قضائيًّا، وتجريمهم بسبب مواقفهم ونشاطهم الدّاعي للمقاطعة.

رغم الملاحقة والتّضييق

نعم، تجرّأ لوتش وتحّدث باسم ضمائر الكثيرين، مشكّلًا درعًا واقية للمهرجان الّذي تعّرض للكثير من الضّغوطات، وأحيانًا منع عرض أفلامه، كما جرى على سبيل المثال في مدينة أرجانتواي الواقعة شمال غرب باريس، حيث أَمَرَ رئيس بلديّتها بمنع عرض فيلم ميّ المصري، '3000 ليلة'، مدّعيًا أنّه يعزّز ثقافة الكراهية. قرار استفزّ العديد من الجمعيّات والأفراد النّاشطين من أجل فلسطين، وقد قام مهرجان السّينما الفلسطينيّة ببرمجة عرض الفيلم في الهواء الطّلق بالمدينة نفسها، في ردّ على قرار رئيس البلديّة الّذي بدوره وضع كلّ العراقيل أمام العرض، مستدعيًا القوى الأمنيّة لمنعه، إلّا أنّ إصرار المهرجان دفع بأحد المراكز الثّقافيّة بالمدينة لاستقبال الفيلم وعرضه، حيث امتلأت القاعة كلّيًّا بالمشاهدين.

تحيّة لهؤلاء الصّبايا والشّباب الّذين أعرفهم تمامًا، فرنسيّين، فلسطينيّين، عربًا، أفارقة، ومن أمريكا اللّاتينّية؛ هذا الجيل الأكثر وعيًا وصلابة وفهمًا لفعل المواجهة في الغرب. بأدواتهم وإمكانيّاتهم البسيطة، استطاعوا فرض المهرجان وتحمّل نصف تكاليفه من جيوبهم الصّغيرة.

معنى المقاطعة

من الضّروريّ إذًا، أمام هذا الفعل والحراك النّشِط، التّوقّف عند تعريف جديد لكلمة المقاطعة، والّتي استُهْلِكَتْ بما فيه الكفاية منذ اتّخاذ جامعة الدّول العربيّة قرارًا بإحكام وسائل مقاطعة إسرائيل اقتصاديًّا (1951)، وتشريع قانون موحّد في دورتها الـ 22 لمقاطعة إسرائيل (1954)، إلى حركة BDS الدّوليّة الّتي تدعو إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، مرورًا بدعوات المقاطعة الخجولة في فلسطين المحتلّة، والّتي فشلت إلى حدٍّ ما بسبب اعتماد الأسواق الفلسطينيّة بشكل كبير على المنتجات الإسرائيليّة، وتراجع الإنتاج الوطنيّ فيها بفعل الاحتلال وسياسة الإغلاق. أيضًا المقاطعة الثّقافيّة والرّياضيّة وغيرها، والّتي تعدّدت تفسيراتها للأسف داخل المجتمع العربيّ بعامّة، والفلسطينيّ بخاصّة.

إنّ مفهوم المقاطعة الّتي أشار إليها كين لوتش، تجاوز الإشارة لتفاصيل الفكرة، بقدر ما ركّز على الجانب الأخلاقيّ والأدبيّ، إذ حمّل المجتمع الدّوليّ المسؤوليّة الكاملة عن الوضع التّراجيديّ والمهين الّذي وصل إليه الشّعب الفلسطينيّ، كما حمّل المسؤوليّة في الآن نفسه على الأفراد، إذ يرى وجوب التّحرّك الفوريّ وأخذ زمام المبادرة وأداء ما عجزت الدّول عن فعله، وهو ما يمكننا وصفه بالثّورات المدنيّة بأدوات فرديّة، والّتي تشكّل بمجملها تأثيرًا فعّالًا ومساهمًا في توسيع جبهة المواجهة مع جبروت الاحتلال الّذي يتجاوز إمكانيّات الفلسطينيّ المحدودة، إقليميًّا وعالميًّا.

شكرًا كين لوتش، أشكرك لأنّك تفوّقت على الكثير منّا ومن أصحاب القرار في عالمنا العربيّ، وأيضًا تفوّقت على سذاجة الفهم المبسّط لفكرة المقاطعة الّتي هزمتها عقود استيراد التّمور الإسرائيليّة، الّتي تُزيّن موائد رمضان في بعض العواصم العربيّة.

التعليقات