27/03/2017 - 03:15

كومبارس "الاشتباك" الكبير

هرم مصريّ بطابقين من الاشتباكات الأفقيّة والمشتبكين عاموديًا: الأوّل سلطة يتصارعها أهل سلطة، والثاني "بوسطة" معتقلٌ فيها مصريّون مشتبكون، لا تخلو اشتباكاتهم من لحظات تشرح القلب بالرأفة والأخويّة والتضامن والنكتة وصمت الضعف الإنسانيّ الهشّ.

كومبارس

علاقتي بالسينما علاقة الهاوي؛ متفرّج يشاهد بعين المتعة والفضول أوّلًا. أفضل الأفلام، في نظري، تلك التي يُقال عنها بعد انتهائها: ياه، أمّا فيلم، كأنّني قرأت كتابًا. المقارنة بين السينما والكتاب هذه، تفتقر، طبعًا، لأيّ مرجعيّة تؤسّسها وتؤثّثها أدوات علميّة ملزِمة، لكنّها معيار ثقيل العيار في سلّمي النقديّ الشخصيّ غير الملزِم بالضرورة.

تجاوز الأبيض والأسود

فيلم "اشتباك" (2016) الذي عُرِضَ، مؤخّرًا، في الدورة الثانية من مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2017، كان كذلك. بل لخّصت فور انتهائه لنفسي ولبعض جيراني على مقاعد قاعة "الميدان" الصغرى: هذا من أفضل النصوص، مرئيًّا كان أم مسموعًا أو مقروءًا، عمّا حدث في 2011 وما بعده، معنا ولنا وفينا نحن العرب. فيلم عادل في تقسيمة أدوار ومسؤوليّات الأضدّاد والمتصارعين والمشتبكين.

الآن أتساءل إذا ما كنت قد بالغت بالانفعال ثمّ التصريح به. لست متأكّدًا. لكن، في الأحوال جميعها، عملًا بمقولة شيخنا رينيه (كرتيزيوس) ديكارت؛ هذا التشكّك الذي منحني إيّاه "اشتباك" نقطة، بل كمّ من النقاط، يُحسب له، لأنّ قراءته الواقع والتاريخ تتجاوز قراءات الأسود والأبيض الانفعاليّة، العصبيّة والمتعصّبة، التي أفسدت "البلاد والعباد”.

فسيفساء كبيرة لاشتباكات صغيرة

حيّز صندوق شاحنة نقل المعتقلين، التي تُسمّى في نواحينا "البوسطة"، وفيها تفاعل معظم الفيلم، كان كافيًا لحبس الأنفاس، انتظارًا واختناقًا معًا. (بهذا الشعور حضرتني "رجال في الشمس" للراحل غسّان كنفاني). مجموعة اشتباكات ذلك الحيّز بين مختلف الفرقاء الفقراء، هي الصورة المصغّرة الأشدّ "في وصف حالتنا". الحاضر الخفيّ الأقوى كان الحظّ العاثر في لحظة عابرة لعابري سبيل في نهر الحدث المصريّ الهائل، الذي لا زال متدفّقًا على الرغم من وهم بسط السيطرة الراهن.

أمامنا فسيفساء كبيرة لاشتباكات صغيرة:

اشتباك  مناصري "الإخوان المسلمين" ومناهضيهم.

اشتباك الأخيرين و "الأمريكان" أو "العناصر الخارجيّة" المتمثّلين بصحافيّ مصريّ ابن مصريّ بجنسيّة أمريكيّة.

 

اشتباك كتلة "تنظيم الإخوان" الحاضرة في "البوسطة" - بدرجات عضويّة مختلفة واضحة، تآلفت في جسد عضويّ واحد بحذاقة ومهارة تنظيميّة كان سيحسدهم عليها فلاديمير إيليتش أوليانوف شخصيًّا - مع سائر الجَمع المفتقِر للتنظيم، وإن اجتمع على فكرة واحدة أو حلم.

واشتباك بين هؤلاء جميعًا وبين عناصر الشرطة والأمن، الذين كان في المقدّمة منهم بروليتاريا العمل الأسود في صناعة إنتاج الأمن بوصفه شيفرة للقمع؛ عناصر جيء بهم إلى الخدمة الإجباريّة من الأطراف المصريّة، من أبناء الطبقة نفسها للمعتقلين المشتبكين معًا ومعهم.

الاشتباك الأكبير

لكن ذلك كلّه لم يشكّل الاشتباك الكبير. مشتبكو "البوسطة" جميعًا هم كومبارس "الاشتباك" العميق الذي ظلّ في الخلفيّة غير المصوّرة، في طبقة ما تحت النصّ، في ما يشكله وما يؤجّجه: السلطة العميقة باشتباكها الأعمق.

السلطة التي لا تتألّف من لون واحد فقط اسمه "نظام" أو "عسكر"، بل هي تجسّد لـ "البنية الفوقيّة" التي يقاتل على تسيّدها، أيضًا، مدّعو الحكم أو الشرعيّة أو الخلافة.

هرم مصريّ بطابقين من الاشتباكات الأفقيّة والمشتبكين عاموديًا: الأوّل سلطة يتصارعها أهل سلطة، والثاني "بوسطة" معتقلٌ فيها مصريّون مشتبكون، لا تخلو اشتباكاتهم من لحظات تشرح القلب بالرأفة والأخويّة والتضامن والنكتة وصمت الضعف الإنسانيّ الهشّ.

لا بدّ من كوابح

هنا، هكذا ولذا، تُشعل النيران من الطابق العلويّ، من السرايا. وحتّى يحدث هذا لا بدّ من "حطب للثورة" حين يركبها الفهلويّون ويُقصى عن مقدّمتها الثائرون. الحطب هناك، هم هناك، داخل "بوسطة" سائقها الفقير مقتول برصاصة عسكريّ من بروليتاريا الأمن، أو برصاصة مشتبك معه، غالبًا ما يكون من طينته، لكنّها، "البوسطة"، ما زالت بمعتقليها مندفعة دون كوابح في نفق فاض عن نهر مصر على وطن العرب.

قد يسأل من يقرأ الآن بتمتمة خافتة: "والضوء في آخر هذا النفق؟!"

وهو سؤال هذا الفيلم وهذا النصّ. سؤال جميع أهل النفق؛ الكناية الكبرى عن حال "البوسطة" الصغيرة التي لا تشعّ فيها الآن سوى أضواء الليزر المدجّجة بعنف متفجّر عن عقود من الاحتقان، بانتظار شيء من كوابح الاستدراك العقلانيّ الواعي، علّ الأبصار والبصائر تنزاح صعودًا عن الاشتباكات الأفقيّة، وتتوجّه إلى "الاشتباك" العاموديّ، الأعلى والأعمق معًا.

***

بطاقة الفيلم:

اشتباك (2016).

إخراج: محمّد دياب.

روائيّ، 97 دقيقة.

مصر، فرنسا.

بالعربيّة (مترجم للإنجليزيّة).

تدور أحداث الفيلم داخل شاحنة ترحيلات تابعة للشرطة، لا تتجاوز مساحتها 8 أمتار، في أيّام الغليان السياسيّ التي تلت عزل الرئيس المصريّ السابق محمّد مرسي. تتفاعل داخل الشاحنة شخصيّات كثيرة من خلفيّات سياسيّة واجتماعيّة مختلفة، ضمن دراما تتضمّن لحظات من الجنون، والعنف، والرومانسيّة، والكوميديا.

 

هشام نفّاع

 

 

كاتب ومحرّر في جريدة "الاتّحاد". درس الفلسفة والعلوم السياسيّة. يكتب المقال السياسيّ والثقافيّ، والنصّ الأدبيّ، لا سيّما القصّة القصيرة والرواية. صدرت له رواية "انهيارات رقيقة" عام 2012. قريبًا سيصدر كتابه الأدبيّ الثاني.

التعليقات