19/09/2017 - 19:54

الصدمة: فلسطينيّ يؤمن بالموت ولا يعاني منه

الصدمة: فلسطينيّ يؤمن بالموت ولا يعاني منه

الطبيب وزوجته منفّذة العمليّة

يخفق العمل الفنّيّ عندما يتبنّى خطابًا على نحو مسبق، والخطاب في نظري تلك المصفوفة من الأفكار/ المصطلحات التي يجتمع عليها أشخاص لهم مصالح مباشرة أو غير مباشرة في تبنّيها. بالتالي، ليس المطلوب من أيّ عمل فنّيّ يناقش الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ أن يتبنّى خطاب الثورة الفلسطينيّة، أو أن يتبنّى خطاب المؤسّسة الصهيونيّة، أوتوماتيكيًّا.

سأحاول أن أنصف المخرج زياد الدويري في فيلمه 'الصدمة' (2012)، وأقول إنّه حاول وضع خطابات الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ في بؤرة حدث، ويدير الأحداث وفق سياقها الطبيعيّ، لكنّ السيناريو، والصورة، وتركيز المَشاهد، وتصاعد العقدة وحلّها، لا تقول ذلك أبدًا.

صورتان

يبدأ الفيلم في مسرح يحتضن حفلًا تابعًا لمستشفى إسرائيليّ، يحتفل بالطبيب العربيّ الذي تفوّق وتميّز في مهنة الطبّ في إسرائيل، والذي يلقي خلال الحفل خطابًا أنيقًا يقول فيه إنّه كان يحمل مشاعر عدوانيّة ضدّ كلّ ما هو إسرائيليّ، لكنّه يفكّر بمستقبل الشعبين الفلسطينيّ والإسرائيليّ بعد عشرين عامًا.

لا يلبث الاحتفال ينتهي حتّى يسمع العاملون في المستشفى صوت انفجار مدوّ، ثمّ تتسارع الأحداث لنرى جثث الأطفال في المستشفى، مع التركيز على المشهد المرعب لبطونهم المشقوقة، ووجوههم المشوّهة، والتي لا يمكن إلّا أن تثير مشاعر الألم والإشفاق عند المشاهد. وبعد أن يعود الطبيب إلى بيته تتوالى الأحداث، ليعرف أنّ مَنْ قام بهذه العمليّة زوجته التي لا يدري شيئًا عن نشاطها السياسيّ، ويظلّ في حالة إنكار حتّى يتأكّد من أنّها هي التي قامت بالعمليّة من خلال رسالة تقول فيها: 'لا أستطيع أن أنجب لك طفلًا دون وطن... لا تكرهني'.

إذًا، نحن الآن أمام صورتين متضادّتين، الأولى عمليّة انتحاريّة من أجل 'وطن'، والثانية 'طفولة' يعبّر عنها أطفال كانوا يحتفلون بكلّ براءة وجمال في عيد ميلاد، ثمّ رأيناهم جثثًا مشوّهة، وقطعًا، وأشلاءً. هذا يعني أنّ المطالبة بالوطن لا يُعبّر عنها ولا تُفسّر من خلال عمقها الإنسانيّ، بل كونها موقف تاريخيّ أو دينيّ، كما سيتّضح على طول الفيلم.

إنّ الانحياز العادل أمام هاتين الصورتين لا بدّ وأن يكون لصالح الصورة الثانية، لا الأولى، للأطفال الطيّبين في مواجهة المرأة المسيحيّة المجرمة المطالبة بـ 'الوطن'.

ما الذي يجده الطبيب في نابلس؟

السؤال الذي يتأجّج عند الطبيب الآن، وتعدّ الإجابة عنه الفيصل في الحكم على الفيلم: لماذا فعلت زوجته ذلك؟ كيف وصلت إلى هذا التشوّه النفسيّ والذهنيّ الذي يجعلها تقتل نفسها وتضحّي بالرخاء، وبالنجاح، وبالحرّيّة، وبالغرام (الذي يعرضه الفيلم من خلال مشاهد ساخنة وجريئة بين الزوجين)، فترتكب جريمة شنيعة وقذرة من أجل فكرة جدليّة مثل 'الوطن'؟

المخرج اللبنانيّ زياد الدويري

يقرّر الزوج الذهاب إلى نابلس ليكتشف من هم المجرمون الذين لعبوا بعقل زوجته. وليكون الفيلم متوازنًا وغير متحيّز لخطاب ضدّ خطاب، من المفترض أن يجد الطبيب في نابلس ما يعبّر عن وجهة نظر الإنسان الفلسطينيّ في الحياة وليس في الموت، لأنّنا حتّى الآن لم نتعرّض إلى غير مشهد أطفال مذبوحين بوحشيّة أمام بعض العبارات الوطنيّة السمجة، فما الذي يجده الطبيب؟

أوّلا: محاولة اعتقال من جنود إسرائيليّين لشبّان فلسطينيّين يقاومون الجنود بتكافؤ وعزّة نفس. ثانيًا: سائق تاكسي بغيض، وثرثار، وثقيل ظلّ، يقول إنّه إذا لم يتكلّم سوف 'يفقع'، في إشارة إلى سوء الأوضاع، ثمّ يتفذلك على الطبيب ويسمعه شريطًا يحتوي خطابًا مزعجًا لشيخ بصوت بشع وصارخ، ذا مصطلحات وطنيّة ودينيّة، مع المرور السريع على صورة للافتة فوق الشارع تجمع ياسر عرفات ومحمود عبّاس. ثالثًا: مشاهد عامّة من المدينة، تصوّر البؤس والفقر. رابعًا: صورة مشرقة للفتاة الفلسطينيّة، ابنة أخت الطبيب، التي تقود سيّارة قديمة وتعطي 'الهبيلة' الذي تعطف عليه في الشارع حذاءً يفرح به، لكنّها مخنوقة وتحلم بالسفر خارج البلد. خامسًا: أخت الطبيب البسيطة والطيّبة، التي تتحدّث بصوت منخفض ومهزوز.

سابعًا: زوج أخته الفلّاح، الذي يؤيّد العمليّة الانتحاريّة من دون أيّ تفسير أو تعليل. ثامنًا: شخصيّات مخيفة وخائفة في المسجد، تحاول منع الطبيب من اللقاء بالشيخ مروان، المشتبه بأنّه وراء عمليّة زوجته، لكنّه يصرّ على مقابلة هذا الرجل الملتحي القبيح، الذي يتّهم الطبيب لدى مشاجرتهما في الشارع بأنّه نسي أصله وتنكّر لفلسطينيّته. تاسعًا: ولد في الشارع يلاحق الطبيب ويلحّ عليه بشراء ما لديه، فيرى الطبيب أنّ الولد يبيع صور زوجته الشهيدة التي تنتشر في كلّ المدينة، على الجدران، احتفالًا من 'المجتمع  الفلسطينيّ المجرم' بـ 'زوجته القاتلة'. عاشرًا: مظهر البيوت المهدّمة في جنين، مع المرور السريع على صورة لجرّافة فلسطينيّة.

الحادي عشر: انكشاف القصّة على لسان ابن أخت الطبيب، عادل، الذي يتحدّث بصوت مهزوز ومهزوم عن كيفيّة انضمام زوجة الطبيب إلى خلايا المقاومة الإسلاميّة، وإصرارها على تنفيذ العمليّة. أخيرًا: حوار بين الطبيب وراهب الكنيسة، يقدّم خلاله الراهب خطابًا هزيلًا، بوجه محنّط، عن المعاناة الفلسطينيّة والبيوت المهدّمة، فيسأله الطبيب: كيف تكون رجل تسامح، ومحبّة، وغفران، وتدافع عن الجريمة؟ ثمّ يعود الطبيب إلى إسرائيل، ويعبّر خلال حديثه مع زميلته الطبيبة عن رفضه تقديم أيّ معلومات حصل عليها خلال زيارته إلى نابلس للشرطة الإسرائيليّة، خوفًا من تشريع القمع ضدّ العرب والفلسطينيّين.

مسوخ

لقد كانت جميع الشخصيّات الفلسطينيّة، ما عدا بنت أخت الطبيب، مسوخًا تعيد إنتاج شعارات دينيّة وطنيّة، وقد ظهر الفلسطينيّ في الفيلم شخصًا يؤمن بالموت ولا يعاني منه، والأهمّ من ذلك، لم يظهر أيّ عمق في تصوير حياة إنسان فلسطينيّ واحد يسرق الاحتلال حاضره، ومستقبله، وماضيه، وكيف يدوس بوحشيّة متجبّرة على جميع التفاصيل التي تجعل لحياة الإنسان معنًى.

فالفيلم يُظهر أنّ الذين يؤيّدون العمليّات موقفهم ناتج عن احتفالهم بمعنى الشهادة، لا عن الألم الذي يزرعه الاحتلال في كلّ حلم، ما يجعل من الإنسان راغبًا دائمًا في أن يشعر الإسرائيليّ بألم الموت ومعنى فقدان الحياة. كما صوّر أنّ العنف الفلسطينيّ ناتج، وعلى نحو طبيعيّ، عن عقليّة مشوّهة لا تحتفل بالحياة، لا كوه عنفًا مضّادًا يقاوم الممارسات العنيفة التي راكمتها الذاكرة الفلسطينيّة منذ ما قبل النكبة، وكذلك حاضر العنف مجسّدًا بأدوات القمع الإسرائيليّة التي تحطّم الإيقاع اليوميّ لكلّ إنسان، وكذلك مستقبل العنف الذي لا يجد الفلسطينيّ أملًا في الخلاص منه.

عنف الفلسطينيّ في الفيلم امتثال أعمى لقرار إلهيّ، فالله وعده بممارسة الجنس مع الحوريّات في الجنّة وفق ما قاله الضابط الإسرائيليّ في الفيلم، حين صرخ في وجه الطبيب: بماذا وعد الله النساء في الجنّة؟

إذًا، فالفيلم يقدّم بذلك الصورة التي ترغب المؤسّسة الصهيونيّة في تقديمها، لا أكثر ولا أقلّ.

'فلا تستغرب...'

نستخلص من ذلك كلّه، أنّ الإجابة عن سؤال الطبيب المفصليّ: لماذا فعلت زوجته ذلك؟ أنّ هذه المرأة المسيحيّة تحمل خطابًا دينيًّا وطنيًّا يقول إنّ الطفل الإسرائيليّ البريء والجميل يجب أن يُقتل، لأنّ الأرض التي يعيش عليها ملك للمسلمين وللمسيحيّين، وقد كانت الصورة البائسة للمجتمع الفلسطينيّ ملازمة دائمًا للتفسير الدينيّ، أي أنّ هؤلاء الناس لا يحتفلون بالحياة لأنّهم يحتفلون بالآخرة، وهذا في ظلّ حضور باهت لممارسة الاحتلال، إن كان في مشهد سريع لاعتقال الشبّان الفلسطينيّين، العنيفين أيضًا، ومشهد سريع لبيوت مهدّمة بلا أيّ ارتباط تصويريّ بينها والدبّابة الإسرائيليّة، وكذلك انعدام تامّ لصورة جريمة القتل الجماعيّة التي يرتكبها الاحتلال ضدّ الإنسان الفلسطينيّ الجميل، والبسيط، والطيّب.

لماذا أرفض مثل هذا الفيلم؟ لأنّني مع آخر مشهد كنت راغبًا في الدخول إلى السيناريو والصراخ في وجه الطبيب: 'إنّك حين تحاصر الأحلام، وتغلق في وجهها كلّ سبل الأمل، فلا تستغرب أبدًا إذا فجّرت الأحلام نفسها... كلّ الذين ماتوا في حادث التفجير هم قتلى'!

فارس سباعنة

 

شاعر وإعلاميّ. يعمل مسؤولًا عن العلاقات العامّة والشراكات المحلّيّة في مؤسّسة محمود درويش. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ 'يصدقني الكمان' (2016)، و'كأنّها سحابة' (2012). ساهم في العديد من المبادرات والحملات والمهرجانات الأدبيّة والثقافيّة، مشاركةً أو تنظيمًا، منها مبادرة 'بسطة شعر' (2009 – 2010). يكتب المقالة  في منابر فلسطينيّة وعربيّة. أعدّ وقدّم برنامج 'الناظم' المختصّ بالشعر العربيّ الكلاسيكيّ على فضائيّة القدس التعليميّة.

التعليقات