22/03/2018 - 00:26

"مخدومين"... نخاسة الجيل الجديد

من فيلم "مخدومين" لماهر أبي سمرا

 

بينما نجلس في مقاعدنا آمنين، نتابع سيرورة الصفقات عبر الشاشة الكبيرة، ربّما تختار خادمة أخرى الهرب من ثِقل الواقع انتحارًا، بعد أن تركت سريرها الدافئ في شقّة أنيقة... هناك في بيروت.

"Non visible "، تصفهن السيّدة، وعلى هذه الشاكلة يقدّمهنّ الفيلم.

"Non visible"، نسمع أصواتهنّ ولا نراهنّ. تتسلّل العدسة نحو المساحات الصغيرة التي تتركها الأبواب شبه المغلقة لتشي لنا بما يختبئ هناك؛ نرى أطراف الأيادي، تتراءى لنا الخيالات، نسمع همس الدعسات وثرثرات فقط.

بهدوء ورويّة

ينطلق المخرج اللبنانيّ الشابّ، ماهر أبي سمرا، في فيلمه الوثائقيّ "مخدومين" (2016)، من سرد تجربته الشخصيّة، ليعرض قضيّة الخادمات في لبنان، بإيقاع هادئ مشبع بتفاصيل دقيقة تستنفد قوانا. 

 

فهذا الوثائقيّ لا يعتمد عددًا لا نهائيًّا من المقابلات، ولا يطرح على مسامعنا قصصًا وحكايات مجترّة، ولا يبتزّ عواطفنا بعرض عيون دامعة، بل ينصب عدسته في مواجهة الوجوه الواقفة خلف إتمام صفقات استقدام العاملات. ويتركنا بهدوء، من دون تدخّل كبير، نتابع مشاهد النخاسة العصريّة بوتيرة تحاكي صمت العبيد القابعين في الزوايا المظلمة، تاركة لخيالنا فضاءً واسعًا من أجل حياكة مشاهد تتماشى مع ما يقع على مسامعنا.

حوالي أربع دقائق تشدّ انتباهنا خلالها واجهات شقق جميلة في الخلفيّة، وسيّدة المجتمع الراقي تتحدّث بهدوء ورويّة عن خادماتها؛ حضورها يملأ الشاشة وحديثها صريح. وحين تصمت السيّدة، تدور بنا العدسة نحو الواجهات الخلفيّة للعمارات الشاهقة، حيث ضجيج المكيّفات ورتابة حبال الغسيل. هناك تمامًا حيث تتكدّس الكماليّات تعيش الخادمات.

كتالوج

حركة الكاميرا بطيئة في معظم المشاهد التي ترصد شرفات البيوت، تجعلنا نجتهد ونمعن النظر، علّنا نخطف لقطة تظهر فيها هنا أو هناك خادمة من وراء الزجاج الذي يكشف النزر القليل من خبايا البيوت، فنعود ونستذكر أنهنّ "Non visible"، لا جسد ولا كيان!

 

 

هذا الفيلم استثنائيّ بأسلوب طرحه للقصّة، فلا مؤثّرات في نقل الواقع، ولا مفاجآت، ولا تصاعد دراميّ، وثمّة اكتفاء بصوت المدينة ليلًا، لتكون موسيقى ترافق سرد الحكاية، بينما تغيب الموسيقى التصويريّة.

ليس عبثًا أن يتركنا المخرج نرافق الزبائن في اختيار خادمات جديدات، أو تبديلهنّ؛ تجلس السيّدات والسيّد لتصفّح الكتالوج، يدور الحوار بينهم بأسلوب لا يبعد في فحواه وشكله عن حوار اختيار سيارة أو كنبة.

مركّب هندسيّ

استقدام الخادمات في لبنان له نكهته الخاصّة، فهنا تزجّ الطائفيّة بنفسها بين المواصفات، ويُتداول موضوع دين الخادمة بصورة تهكّميّة قاتمة، كما الحقيقة ذاتها؛ وهناك أخبار عن تفجيرات وشهداء تقف عثرة أمام صفقة جديدة، وسط شكاوى الناس عن تبعثر نظام حياتهم بلا خادمة. تلك الخادمة التي تتّخذ مكانة جديدة في حياة المجتمع اللبنانيّ عندما تتحوّل إلى مركّب في معماريّة الشقق، تخصّها الخريطة الهندسيّة بمكان لا يتسّع لإنسانيّتها، لكنّه كافٍ، كما هو متوقّع، لسرير صغير يبتلع أحلامها عندما ينحصر في حيّز ضيّق متاخم للمطبخ!

 

 

تكمن قوّة هذا الفيلم في الحوارات، فالكاميرا تتجمّد لتتركنا نصغي لهول التفاصيل، والخادمة ملك السيّد، وهناك ثمن لكلّ ما يؤذيها، وبـ "التراضي" يتملّك السادة الأرواح والأجساد، وبعد وفاتهم تُدرج الخادمات ضمن الموروثات!

هادئ هذا الفيلم، طويل، يحتاج من الصبر والإنصات الكثير. يُقال فيه الكثير ممّا يجب أن يُقال عن الخادمات، ويغيب عنه ما كنّا نودّ سماعه من الخادمات!

 

سماح بصول

 

تسكن في الرينة، شمال فلسطين. صحافيّة، محرّرة 'دوغري نت' بالعربيّة، ومركّزة مشروع الإعلام العربيّ في مركز 'إعلام'. حاصلة على البكالوريوس في اللغة العبريّة وأدبها، طالبة ماجستير في ثقافة السينما.

 

 

 

تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2018.

 

التعليقات