31/03/2018 - 23:32

في مديح البحر: عن فيلم "نادي غزّة للتزلّج"

في مديح البحر: عن فيلم

إبراهيم، الشخصيّة المركزيّة في الفيلم

 

التعريف الثالث

بعيدًا عن كليشيه القول بسورياليّة أشكال إرادة الحياة في غزّة، لما في هذا القول من تواطؤ مع الحرب والحصار والدمار، وهؤلاء لا سورياليّة فيهم جميعًا، لكن ثمّة دواعٍ للحديث عن السورياليّة، استهلالًا، في ما نراه بالفيلم الوثائقيّ، "نادي غزّة للركمجة/ للتزلّج" (Gaza Surf Club) (2016)، من إخراج فيليب غنادت وميكي يامين. فصناعة المشاهد والمعنى في الفيلم تحمل ما يصفه جورج باطاي بـ "التعريف الثالث" في كتابه، "قصّة العين" (1928)، ويردّ فيه على الحركة السورياليّة في الفنّ، التي تقوم على الثنائيّات: جميل وقبيح، خارق واعتياديّ، واعٍ وغير واعٍ، جميل وقبيح، وغير ذلك. يطرح باطاي في "التعريف الثالث" نموذجًا لآليّة صناعة المعنى في الفنّ، تستلزم وجود الثنائيّات بشكل منفصل، ضمن عمليّة صناعة المعنى، لكنّها حاضرة أيضًا، على أن يتكوّن "التعريف الثالث" من الحضور والانفصال معًا.

ولنتعمّق قليلًا في هذا القول؛ يمكن لمتلقّي الفيلم (ولن أقول المتفرّج لضمان الإشارة إلى التورّط في بناء المعنى)، وعلى طول مشاهده، أن يرى دمجًا في الصورة (بصفتها مستوًى أوّل في الصناعة السينمائيّة) وفي المعنى (بصفته مستوًى ثانٍ) بين ثنائيّة: الحياة والموت، أو الأطلال والعمران، أو الجمود والحركة، فما من مشهد تقريبًا في الفيلم إلّا وبه دمار ما وحياة، معًا. ولعلّ هذا ما أشار إليه باطاي في نقده للسورياليّة. وعلى ما في هذا الدمج من انفصال بين الثنائيّات، إلّا أنّ المعنى والمشهد يتولّدان من المسافة البينيّة بينهما، ما يكسبهما زخمًا.

هذا "التعريف الثالث" للمعنى في مشاهد الفيلم، المنبعث من الحياة الغزّيّة، يسير على منوال "موت الفنّ" الذي وقّعه هيغل، مرورًا "ببؤس الفلسفة" الذي وصفه ماركس، وصولًا إلى "تحطيم العقل" كما يقول لوكاتش؛ فالحياة الغزّيّة بكلّ مظاهرها المقاومة والمتجاوزة لقيد الثنائيّات، أعلنت تساميها عن الفنّ، فلا فنّ في حجز السلطات الإسرائيليّة لألواح الركمجة/ التزلّج، وصناعة تلك الألواح بموادّ بسيطة إنّما هي تجاوز لفلسفة الدولة الحديثة التي فقدت عقلها إلى هذا الحدّ، فقدان يجعلها تتآكل في مواجهة أخشاب بسيطة، وأحلام أبسط.

أجساد ممنوعة

على طول الفيلم تقريبًا، تحضر في الخلفيّة أصوات الموج، إمّا بشكل واضح تستحضره المشاهد، أو بشكل مستتر يفرضه المعنى، كما الصمت هو الصوت، في خلفيّة كلّ صوت. ولعلّ لهذا الأمر دلالته، ولا سيّما في السياق الغزّيّ؛ فالبحر انفتاح المدن على تواضعها وثوراتها، طالما أنّها أدركت قربها من تألّهه وبساطته. في غزّة البحر ساحة حرب أيضًا، يغدو الجسد أداتها وهدفها في آن، كما المدن.

 

 

وإذ يخضع البحر لسلطات الدولة والطبيعة، فهو أيضًا له تحيّزاته الجندريّة، التي تحضر في النقاش على طول الفيلم؛ فأجساد الشباب الممنوعة من ركوب الأمواج، باسم الحصار والحرب وانعدام الموادّ اللازمة لصناعة الألواح، كذلك أجساد الفتيات التي حُرمت، للعوامل تلك وأكثر منها، من الحقّ في البحر، والحقّ في الجسد، بل والحقّ في المدينة/ المكان أيضًا، على الرغم ممّا ينقله السرد من بهجة في الحديث عن العلاقة بين الجسد الأنثويّ والبحر الإله. فالعلاقة بين البحر والجسد الأنثويّ علاقة الحرم المقدّس، كالرحم؛ تلك البيئة المائيّة الأولى للإنسان. البحر مَنْ أعطى إحدى الصبايا مساحة للخروج عن ترسّمات ورموز الجسد الأنثويّ في المجتمع الغزّيّ، بأن منحها مساحة التحرّر من الحجاب، وآلهته المعلّقة في أطرافه.

الملاقحة بين أجساد الشباب والبحر أثناء الركمجة/ التزلّج، في مشاهد غضبه، تثير التأمّل؛ ففي الأحوال العاديّة، حيث تشترط الركمجة/ التزلّج ثورة ما وهياجًا للموج، فإنّ جماليّة الركمجة تنحصر في المواجهة بين البحر والمتزلّج، لكن في السياق الغزّيّ ،ثمّة طعم مختلف للبحر، فغضبته من غضبة المحيط الغزّيّ، بين دولة تحتلّ البحر والأرض والسماء، إلى حصار يخنقهم معًا، وكأنّ جسد البحر وأجساد الشباب الغزّيّ تقول لنا معنًى مختلفًا في مواجهة غضبه، وغضب غيره. البحر والشباب ينتزعون حقّهم حتّى من الغضب، والبحر يتواطأ.

القساوة ونقيضها

قد تظهر في السرد قساوة البحر، إلّا أنّها كذلك احتوت نقيضها، فوالد الصيّاد الغزّيّ قال له: "ابتعد عن البحر، فهو لا يأتي إلّا بالفقر"، لكنّ البحر هو ما منح الصيّاد مساحة التحرّر والمقاومة التي يقرّ بأنّه يودّ توريثها لابنه، في هدم لهرميّة الأب والابن التي مرّ بها، ولو عادت به الأيّام - كما يقول - لأعاد الكرّة في حبّه للبحر، الذي بات رديفًا للبيت/ الدار في مواجهة حصار وحرب يستهدفان الجسد والبيت بصفته مظهرًا وجوديًّا للغزّيّ.

البحر فضاء تنفتح أمامه (فيه) الأمنيات، والرغبات، وكأنّه، وإن بات جهة للحصار، يحرّض بقدر ما يحاصِر. هو الفضاء الذي تستوي أمامه الثنائيّات، و"التعريف الثالث" الذي تندمج فيه النقائض، على تمام انفصال بينها، لبناء المعنى وانفتاحه على مفارقاته.

 

 

ومشهد انتصار "صباح" في الجزء الأخير من الفيلم، وهذه الاحتفاليّة الإنسانيّة البسيطة (السباحة)، خلقتها تلك المساحة التي منحها إيّاها البحر. تلك الاحتفاليّة التي يقابلها خواء الساحل البحريّ في هاواي، وغربة إبراهيم أمامه.

ينهار وجود "التعريف الثالث" بمجرّد أن يصل إبراهيم إلى هاواي، فيعود السرد إلى ثنائيّة حادّة وعاجزة عن فهم رمزيّة البحر والركمجة للغزّيّ المواجه للدولة الحديثة، بما تقوم عليه من ثنائيّات. فهاواي، بألوانها وأبّهتها وبهرجتها وإتاحتها، تبدو لإبراهيم لوحة سورياليّة متجاوزة لواقعه، وحتّى لمتطلّباته، ومحاولته لمنع ماثيو من التقاط حبّة جوز الهند، بحجّة أنّ تلك سرقة، تمثّل، أوّلًا، مواجهته الأولى – قبل البحر - مع جسد هاواي ووجوده هناك، وهي، ثانيًا، محاولة للتواطؤ مع المكان بحسب ما يفهمه هو منه، لا بحسب ماهيّة المكان الفعليّة، تلك المحاولة التي يعلن فشلها في آخر الفيلم. ولعلّ اختيار المخرج لمشهد الفلسطينيّ الذي لا يعرف هاواي – على الرغم من عشقه لرياضة ركوب الأمواج - تأكيد لتحرّر الفلسطينيّ الغزّيّ من الثنائيّات العنيفة، الشرقيّة والغربيّة.

إذا كانت الدول تهيمن على المادّة، إلّا أنّ الرمز سلاح مواجهتها. وفي غزّة؛ البحر مجاز الغزّيّ وسلاحه[2]. بئس المدن التي لا بحر لها!
والفيلم قصيدة في مديح البحر الغزّيّ، حصرًا!

 

.....

 

[1] المقال مهدى إلى شهدائنا من الصيّادين الغزيّين على أيدي جيش الاحتلال وجيش الحصار.

[2] لنا أن نتذكّر سلاح الغوّاصين لدى فصائل المقاومة الغزّيّة.

 

عبد الله البيّاري

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.

 

 

 

 

تنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2018.

 

التعليقات