26/05/2018 - 23:59

نداء الـ "واجب" لتحرير أبو شادي من دور الضحيّة

نداء الـ

صالح بكري، ومحمّد بكري، وماريّا زريق

 

موسم يتلوه موسم، وأمّي تبقي على واحدة من أغرب عاداتها؛ تصرّ على جمع دعوات الأعراس، تودِعها برويّة في علبة بلاستيكيّة بيضاء كبيرة، مخبّأة بوضوح إلى جانب دزّينة كؤوس مطرّزة الأطراف، في خزانة يتربّع عليها التلفاز.

تكدّست الدعوات الورقيّة الملوّنة وباتت أسلوب أمّي في أرشفة تاريخ مجتمعنا الصغير؛ لكلّ بطاقة قصّة وذكرى، وأجملها تلك العائليّة الخاصّة التي تسرد حكايات ليلة كَتْب المكاتيب، واجتماع العائلة حول قوائم المدعوّين المكتوبة على دفتر مدرسيّ مخطّط، وربطات مطّاطيّة، يحتجز فيها بعض إخوة العريس، وأخواته، وأعمامه، وأجداده، حفنة دعوات لعدد من الأعزّاء الذين يودّ لو يشاركونه الفرح.

كلّما هممتُ بالتخلّص من محتوى العلبة استشاطت أمّي غضبًا وقالت: شو مأثّر عليكي، خلّيهن... ذكرى.

 

 

لكأنّ أحدهم عبث بعلبة الذكريات هذه وتناول منها دعوة وحاك حولها قصّة عرس، لبّى خلالها شادي وأبوه نداء الـ "واجب"، وخرجا في رحلة نحو الذات والآخر، رحلة مَنْ لم ينجح في أن يبلغ قمّتها، في فيلم آن ماري جاسر الروائيّ الطويل (2017).

 

تقشير

يخرج أبو شادي (محمّد بكري) وابنه، شادي، العائد للتوّ من إيطاليا (صالح بكري)، في جولة لتوزيع دعوات عرس الابنة أمل (ماريّا زريق)، كأيّ عائلة فلسطينيّة تزجّ بالبطاقات في علبة كرتونة وتقسّمها جغرافيًّا، حسب تسلسل الحارات.

من هنا بدأ مشوار الأب والابن، تتخلّله وقفات جديرة بالتأمّل مع الأهل والجيران، مشوار يكشف طبائع الناس وعلاقاتهم بأهل العرس، ويقشّر بعضًا من الطبقات الهشّة التي تستر جزئيّات من علاقة الأب بابنه.

 

 

تدور أحداث الفيلم في الناصرة، حيث يجوب شادي وأبوه حارات المدينة من قلب السوق إلى أطراف المدينة، حيث حيّ شنلّر، مارّين بالمستوطنة المحاذية، لدعوة شخصيّة إسرائيليّة، وهنا تتقافز الأسئلة في أذهاننا، محاولين فهم بعض السياقات التي غابت. فشادي العائد من إيطاليا، حيث يعيش بعد إنهاء دراسته، يسأل: مَنْ يسكن هذه المستوطنة؟ فيجيب أبوه: نصّ الناصرة. منذ متى غاب شادي؟ ألم يسكن العرب "نتسيرت عيليت" منذ السبعينات؟ ألا يعي شادي أزمة السكن الخانقة التي تُفرغ المدينة من الأزواج الشابّة إلى المستوطنة "الجارة"؟!

 

صور للمجتمع

خلال مراوغة بين الجدّ والهزل، بين الدراما والكوميديا اللاذعة، نعيش حوارات شادي وأبيه، ونستشفّ منها صورًا عن المجتمع النصراويّ الآنيّ؛ مجتمع تندمج فيه الشخصيّات المحافظة، والمغامرة، والمنفتحة، بصورة هجينة!

كلّما طرقوا بابًا لدعوة أصحابه، تكشّفت أمامنا صور عن نماذج مجتمعيّة؛ فهؤلاء غير مكترثين، وآخرون حِشَريّون، وهذا استعلائيّ، وآخر شعبيّ، وتلك التي تخشى "داعش"، وهذه التي تجترّ قصص النميمة... وكلّهم بعيدون عن السياسة، بعيدون عن صورة فلسطين التي تحتلّ حيّزًا كبيرًا في ذهن شادي، الذي نقامر بتوقّعاتنا أنّه توجّه للدراسة في الخارج بعد اعتقاله، وسجنه، وإغلاق أبواب الجامعات في وجهه!

 

 

يكشف الاحتكاك بين شادي وأبوه صورة عن الأجيال الفلسطينيّة، ما بين تلك التي تحاول التكيّف والتعايش، وتلك الرافضة المتحدّية في المقابل.

لماذا يصرّ أبو شادي على علاقته مع آفي - التي يرفضها شادي بحجّة كونه رجل شاباك – هل لأنّ الأخير يغذّي مطامع أبو شادي في إدارة المدرسة فقط؟ أم لأنّه يخشاه كما تخشى أمّهاتنا الحديث في السياسة؟

 

ولو امرأة واحدة!

منصف هذا الفيلم في إظهار النساء بصفتهنّ نصف المجتمع، حضورهنّ واضح، لكنّ قولبتهنّ سلبيًّا واضح أيضًا! فأمّ شادي تركت زوجها وأولادها وهربت مع عشيقها إلى أمريكا، وأمل عروس خاضعة، والعمّة استغلاليّة، وأخرى مزعجة لعدم ضبطها طيورًا تربّيها في البيت، والجدّة تلهث وراء ركب التكنولوجيا، وشابّة تعتدي بهورموناتها على شادي، ومصفّفة الشعر نمّامة – كما تجيد ذلك مصفّفات الشعر! وزميلة دراسة كبيرة في السنّ تغازل أبو شادي، والبائعة في المتجر امرأة تستثمر أنوثتها لإغواء الوسيم الجالس أمامها، وابنة العمّ المتعلّمة المثقّفة كانت تُساكن رجلًا دون زواج، لكنّه هجرها إلى أخرى!

 

 

ألم يكن جديرًا تقديم شخصيّة امرأة واحدة خارج هذه القولبة السلبيّة؟! امرأة يمكنها إدارة حوار مثر، امرأة ليست ضحيّة للرجل، ليست خاضعة، لا تثير الشفقة ولا السخرية، امرأة لا يقتصر دورها على إعداد القهوة وتقديم الشراب؛ صديقة، أو قريبة، أو حماة، تبدي من العاطفة ما يجعلها ترافق العروس لاختيار فستان الفرح، أليس هذا من عادات العرس؟!

بين جحافل النساء القويّات يبرز الرجل الضحيّة، أبو شادي، الرجل المهجور، ذلك الذي فضّلت زوجته الهرب مع آخر تاركة وراءها زوجًا مسكينًا يربّي، وحده، ابنًا وبنتًا، ومعلّمًا يكاد يجاور الستّين من عمره ولا يزال يعيش على أمل الفوز بمنصب مدير المدرسة، وابنه شادي، الذي يتفوّق عليه بكونه ضحيّة سياسات المحتلّ وقمعه.

 

تعثّر النصّ

في جوهره، يحمل الفيلم الكثير من معاني الحبّ والألفة، الحرّيّة والقيود، السماح والغفران، الغيرة والهجران والخذلان، لكنّها جميعًا تعثّرت بسطحيّة النصّ وتكرار بعض الحوارات.

إنّ أفلام السفر والترحال التي يخرج فيها الأبطال في رحلة تنتهي بنضوج فكريّ ونفسيّ شخصيّ وعاطفيّ، تمثّل فرصة للتأمّل وتحرير الذات من خلال حوارات عميقة، لكنّ رحلة أبو شادي وابنه لم تنجح في ذلك، إلّا في موضعين فقط، كما أرى، أترك للمشاهد مغامرة إيجادهما.

 

 

هذا الفيلم قريب بعيد عن المجتمع الذي أعرف؛ فهل يصوّر المجتمع النصراويّ حقًّا؟

هذا ممّا حضر قليلًا وغاب كثيرًا، حين غابت عن النصّ سلاسة الحديث اليوميّة والترنّح بين الـ "بِسيدِرْ" (בסדר = حسنًا)، والـ "بْكاكيمْ" (פקקים = أزمة السير)، وحين غابت حيويّة الناس وعجقة البلد، إذ اقتصرت زياراتنا على بيوت معظمها مثقل بالإتيكيت، وكذلك حين غابت الحارات أيضًا، لأنّنا لم نسمع جارتنا أمّ محمّد تصلّي ع النبي، متى عرفت أنّ أمل صارت عروسًا!

 

سماح بصول

 

تسكن في الرينة، شمال فلسطين. صحافيّة، محرّرة 'دوغري نت' بالعربيّة، ومركّزة مشروع الإعلام العربيّ في مركز 'إعلام'. حاصلة على البكالوريوس في اللغة العبريّة وأدبها، طالبة ماجستير في ثقافة السينما.

 

 

 

التعليقات