21/09/2018 - 11:22

"واجب": خفّة الظلّ وبصريّة التناقض

من اليمين: صالح بكري، محمّد بكري، ماريّا زريق

 

في إطار اجتماعيّ، يعود الابن من الخارج في زيارة قصيرة؛ لمعاونة أبيه في توزيع دعوات حفل زفاف الأخت، حسب ما جرت العادة في مدينة الناصرة الفلسطينيّة المحتلّة. من هنا انطلقت آن ماري جاسر بفيلمها الروائيّ الطويل الثالث "واجب"، الّذي أُنتِج عام 2017، وعُرِض في محافل دوليّة عدّة، مثل "مهرجان تورونتو السينمائيّ الدوليّ"، وقد مثّل فلسطين في جوائز الأوسكار لعام 2018.

 

ثلاثة أقسام

يدور الفيلم في يوم واحد، قسمته المخرجة ثلاثة أقسام، نجح أوّلها في تعريفنا بالشخصيّات وأصل الحكاية وإطارها العامّ؛ إذ كان بناؤه موفّقًا؛ فقد تكوّن من مجموعة من "الإسكتشات" القصيرة، الّتي تربط بينها رحلة الشخصيّتين الرئيسيّتين في السيّارة، وهما في طريقهما إلى بيوت الأقارب، كذلك تفاعلهما مع الأقارب والأصدقاء في تلك الزيارات القصيرة، الّتي تعكس مواقفها الوضع الحاليّ لسكّان المدينة، وما يلقونه في حياتهم اليوميّة، وتعكس أيضًا بعدًا إنسانيًّا يرتبط بعلاقة تلك الشخصيّات بالمدينة نفسها.

 

 

أمّا القسم الثاني، فقد ركّز بشكل أساسيّ على تطوّر العلاقة بين أفراد الأسرة، وما آل إليه الوضع، بعد عدم قدرة الأمّ على القدوم لحضور زفاف ابنتها الّتي تنتظرها بفارغ الصبر، وانتقاد الأب لعلاقة ابنه بابنة أحد القادة السياسيّين دون زواج، ونظرة الابن إلى أبيه على أنّه مستسلم للظروف دون مقاومة؛ وهذا سبب ما آلت إليه الأسرة.

أمّا القسم الثالث الّذي بدا قصيرًا للغاية، فقد عكس ردود أفعال الشخصيّات، على ما بدا في لحظات المصارحة، وقد كان خير نهاية للفيلم.

 

حسّ الفكاهة

ارتكز الفيلم في بنائه الدراميّ على شخصيّتين رئيسيّتين، هما الأب الّذي مثّل دوره الفنّان القدير محمّد بكري، وقد أبدى تميّزًا وحساسيّة شديدة في أداء الدور، والابن الّذي جسّده صالح بكري، الّذي قدّم دوره بنضج شديد وحرفيّة عالية، ثمّ تأتي مجموعة الشخصيّات الثانويّة، الّتي بدت متنوّعة وعكست روح المدينة وأهلها.

 

 

تميّز الفيلم بشكل عامّ بحسّ الفكاهة والمشاهد خفيفة الظلّ، الّتي أسّس لها التناقض الدائم بين بطلَي الفيلم، وسوء الفهم المتكرّر بينهما، وأضاف إلى ذلك خفّة ظلّ الممثّلين، والبناء المنطقيّ والمحكم للشخصيّات بما فيها الشخصيّات الثانويّة، الّتي لم نر بعضها على الشاشة إلّا ثواني معدودة، ومع ذلك صارت عالقة في الأذهان بردود أفعالها، وجملها الحواريّة.

وتُعَدّ الأمّ إحدى الشخصيّات المحوريّة رغم عدم ظهورها في أحداث الفيلم، لكن ثمّة دائمًا حديث عنها وعن فرارها من الأسرة، وعن حلم الابنة بقدومها لتعاونها في ليلة العمر، فيأتي مشهد من أقوى مشاهد الفيلم، في متجر بيع فساتين الزفاف؛ حيث تكون المكاشفة بعدم قدرة الأمّ على القدوم، في الوقت الّذي يعين الأب والأخ العروس في اختيار فستانها.

 

مونولوجات دخيلة

لم يخلُ الفيلم من تلك الجمل الرنّانة والمونولوجات الطويلة، ذات الطابع السياسيّ، والمنتقدة للحياة تحت الاحتلال، على لسان الابن ذي الشخصيّة المتمرّدة، صاحب النشاط السياسيّ السابق، وذلك على الرغم من نجاح الصورة، وتسلسل أحداث السيناريو في عكسها بشكل واضح، دون الحاجة إلى مثل تلك المونولوجات الّتي بدت دخيلة دون مبرّر.

 

 

وقد شاب الفيلم نمطيّة الحكاية رغم انطلاقها من لحظة فريدة، لم يجرِ تناولها من قبل بهذا التركيز، وهي رحلة توزيع دعوات الزفاف، وهو طقس اجتماعيّ مميّز، ويعكس نوعًا من التمسّك بالعادات والتقاليد، في مدينة يسعى الاحتلال بشكل ممنهج إلى طمس هويّتها العربيّة، إلّا أنّه لم يسلم من الوقوع في فخّ نمطيّة العلاقة بين الأب والابن، ونمطيّة تناول الخلاف بينهما دراميًّا؛ إذ نرى الابن العائد من أوروبّا يرفض كلّ ما هو عشوائيّ وتقليديّ، والأب المحافظ الرافض لعلاقة دون زواج بين ابنه وصاحبته، ومقارنة تلك العلاقة بعلاقة الزواج "الشرعيّة" بين ابنته وفراس، زوجها المستقبليّ، الّذي يرى الأب أنّه "ابن أصول". وعلى الجانب الآخر خلافهما على دعوة أحد الإسرائيليّين، الّذي تربطه بالأب علاقة عمل.

 

تحدّي الصورة

الصورة في فيلم "واجب" أحد العناصر المتميّزة، وذلك رغم التحدّي الصعب الّذي واجهته المخرجة؛ كون معظم أحداث الفيلم يدور داخل سيّارة؛ ورغم ذلك، كانت التنويعة البصريّة غنيّة بالمعاني والجماليّات. لقد أخذتنا المخرجة في رحلة بين أرجاء المدينة وأزقّتها وبناياتها، في قصيدٍ بصريّ يبرز التناقض بين ما هو تراثيّ يعكس الهويّة التاريخيّة للمدينة، وما هو حداثيّ مصطنع. برز ذلك في اللقطات الّتي تجمع بين البيوت القديمة والبنايات الحديثة، وبين الأحياء التاريخيّة والمستوطنات.

 

 

تميّزت تجربة آن ماري جاسر في فيلم "واجب"، بكونها استطاعت صنع توليفة دراميّة حيويّة خفيفة الظلّ، وصورة مميّزة وإيقاع متوازن، واستثمار جيّد لخبرة ممثّل بحجم محمّد بكري، وحيويّة الابن صالح بكري، في فيلم يدور معظم أحداثه في مساحة صغيرة بين شخصيّتين، عكستا الفجوة الفكريّة بين الأجيال، في ظلّ وضع سياسيّ معقّد.

 

 

التعليقات