04/12/2019 - 18:14

"الزائر الخفيّ": ثلاثة سيناريوهات لفيلم واحد

شخصيّات فيلم "الزائر الخفيّ"

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ربّما لم يعتد المشاهد العربيّ العاديّ على متابعة السينما الإسبانيّة، ولذلك أسباب متعدّدة، من أهمّها الترجمة النظيفة، والإعلام الّذي يركّز على السينما الأمريكيّة أو ما يمكن اعتباره سينما اليانكي، وإن كان التعبير عسير الهضم أحيانًا.

لكنّ أفلامًا متفوّقة في الصنعة، من حيث النصّ والصورة والأداء والموسيقى، يمكنها أن تقفز فوق تلك الظروف، لتصل إلى مشاهدين أينما كانوا، ومن ضمنهم ذلك المشاهد الّذي اتّفقنا على أن نسمّيه المشاهد العربيّ العاديّ، وكي لا يتحسّس أحد رأسه؛ أريد أن أوضّح أنّ هذا التصنيف للمشاهد ليس منقصة، إنّما هو توصيف لذلك الشخص الّذي لا يسعى إلى البحث في مكتبات الأفلام، إنّما يذهب إلى الأفلام الأكثر انتشارًا وتحوز أكبر تفاعل، وهذا ليس مرتبطًا بتقصيره أبدًا.

 

ليونة

فيلم "الزائر الخفيّ" (بالإسبانيّة: Contratiempo)، واحد من تلك الأفلام الّتي استطاعت القفز عن الشروط، لتصل وتقف أمام المشاهدين بثقة. الفيلم الإسبانيّ الّذي أُنتج عام 2016، وأُطلق في إسبانيا عام 2017، فيلم جريمة وإثارة من إخراج أوريول باولو وكتابته.

 

 

وُلد باولو عام 1975 في برشلونة، ودرس التواصل السمعيّ البصريّ في "جامعة بومبيو فابرا"، والسينما في "كلّيّة لوس أنجلوس للسينما"، وتأثّر بأغاثا كريستي على مستوى النصّ، وبألفريد هيتشكوك على مستوى الصورة، بصفته مخرجًا لأفلام الجريمة، وقد أخرج 9 أفلام أغلبها من كتابته، وكان آخرها فيلم "سراب" عام 2018.

يبدو أنّ حياة باولو في برشلونة، منحت رؤيته ليونة الجُزر وإصرارها، هكذا تبدو نصوصه ليّنة في ظاهرها، ومعقّدة التفاصيل، إلّا أنّها مدهشة، كما حدث في فيلمنا.

الفيلم من بطولة ماريو كاساس، وباربارا ليني، وجوزي كورونادو، وأنا وجنر، وتدور أحداثه حول اتّهام رجل أعمال شابّ بارز بقتل عشيقته، وتدخّل محامين لتلقينه ما عليه قوله أمام المحكمة حتّى يضمن براءته، وذلك لأنّ حكايته حول ما حصل في غرفة أحد الفنادق النائية، تحتوي على فجوة تجعل الأمر ناقصًا وفيه خلل واضح؛ فتحرّيات الشرطة أكّدت عدم وجود شخص آخر غيرهما - هو وعشيقته - في الغرفة أثناء وقوع الجريمة، واقتحام رجال الشرطة لها بعد أن سمعوا ضجيجًا واستنجادًا يصدر من داخلها؛ إذ عثروا على المتَّهم وقد تعرّض لجرح في رأسه جرّاء صفعة بأداة حادّة، بينما يحاول إنقاذ عشيقته الّتي كانت قد غادرت الحياة فعلًا، مستلقية قرب حوض الاستحمام، وحولها أوراق نقديّة تطايرت.

 

ثلاث سيناريوهات للجريمة

الجريمة تلد جرائم أخرى، ليس بالمضيّ في القصّة الحقيقيّة، إنّما بالمضيّ في الفيلم، الّذي يراوح بين الأمام والوراء. المحامية الّتي تحاول أن تسمع القصص من المتَّهم، تكشف له عن صلة جريمته المتَّهم بها، بجريمة قتل شابّ في غابة، فيقرّ بها، لكن...

كلّ سيناريو يبدو مقنعًا ومؤكّدًا، وهو ما لا يدع شكًّا لدى المشاهد، بصبّ سخطه على المجرم حسب السيناريو

يقدّم الفيلم 3 سيناريوهات للجريمة، كلّ سيناريو يبدو مقنعًا ومؤكّدًا، وهو ما لا يدع شكًّا لدى المشاهد، بصبّ سخطه على المجرم حسب السيناريو، الّذي كان في المرّة الأولى عشيقة رجل الأعمال، الّتي صنعت أفكارًا شرّيرة لإخفاء جثّة المقتول بحادث سير في إحدى الغابات، إلّا أنّ القصّة الثانية تصبح صادمة عندما تكشف ضعف العشيقة، ولؤم العشيق في أخذ سير الجريمة إلى مكان كهذا، مليء بالقسوة على المقتول وجثّته، والعشيقة أيضًا.

والد المقتول يظهر بطريقة سلسة، والدته أيضًا تدخل التفاصيل العميقة بشكل انسيابيّ، العشيقة تُقتل، بشكل مقنع ومدهش في آن، الرجل يقع في فخّ التحقيق مع المحامية الّتي ستنقذه، ويروي قصصًا لا تقتنع بها، فتضغط عليه من أجل قول الحقيقة الّتي تتغيّر طوال الفيلم، وتجعل المشاهد ينحاز في كلّ مرّة إلى أحد أطراف القصّة على حساب الآخر.

المحامية ليست محامية، لكن مَنْ هي؟ أسهل ما يمكن أن نذكر مَنْ تكون، لكن هذا سينزع الدافع لمشاهدة الفيلم، المهمّ أنّها خارج كلّ التوقّعات.

قلْب مجرى الأحداث ثلاث مرّات، كان من شأنه أن يُضعف الفيلم، من حيث تشكُّل حبكة رخوة في مرّة من المرّات، إلّا أنّ باولو نجح في خلق 3 حبكات متساوية القوّة والدهشة، على مستوى النصّ والصورة؛ وهو ما أجهد حسّ المشاهد وأثار فضوله؛ ليكافئه بهديّة في آخر الفيلم تجعله يصفّق بكلّ حواسّه المبذولة.

 

أنفاس متقطّعة

الصورة في الفيلم ليست اعتياديّة، الألوان معالَجة بطريقة يمكن أن تخدم غموض الفيلم، دون أن تؤذي مزاج العين، الألوان غامضة، لكنّها مريحة وجذّابة، الإضاءة كذلك. اختار المخرج أجواء شتويّة للأحداث بما يخدم جوّ التوتّر والمصاعب، ويتواءم مع الأحداث.

فرناندو فلاسكس اضطلع بالموسيقى، فأنتج أنفاسًا متقطّعة طوال الفيلم، جسّدت التعب والتوتّر الّذي يعيشه جميع أبطال القصّة

فرناندو فلاسكس اضطلع بالموسيقى، فأنتج أنفاسًا متقطّعة طوال الفيلم، جسّدت التعب والتوتّر الّذي يعيشه جميع أبطال القصّة؛ الأمّ والأب اللذان يبحثان عن جثّة ابنهما، ثمّ عن قاتله، في ظلّ تخلّي الشرطة عن المسألة، كما يحدث في العوالم القريبة من الشرق الأوسط دائمًا، رجل الأعمال المتَّهم بجريمة قتل أو اثنتين، العشيقة المهدّدة بفضيحة أمام زوجها وقضيّة قتل، المحاميان اللذان يواجهان خطر انهيار سُمْعتَيهما. الموسيقى تتحوّل في المشهد الأخير من أنفاس متقطّعة إلى نبض متصاعد، بما يكشف عن صدمة تتبلور أمام المشاهد.

يمكن اعتبار الفيلم مدخلًا أساسيًّا للسينما الإسبانيّة الحديثة، الّتي تقف بساقين؛ واحدة في البحر الأبيض المتوسّط، وأخرى في المحيط الأطلسيّ.

المنطقة المتوتّرة الّتي تتموضع فيها إسبانيا، وتاريخها المتشابك بين العرب والمسلمين وأوروبّا المسيحيّة، يجعلها خليطًا أساسيًّا لسينما مختلفة، تبشّر بالكثير.

 

 

سلطان القيسي

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ من قضاء يافا،  يحمل الجنسيّة الأردنيّة ويقيم في عمّان، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ "بائع النبيّ" عن دار موزاييك - عمّان، و'أؤجّل موتي' عن دار فضاءات - عمّان، وترجمة 'الوطن - سيرة آل أوباما' لجورج أوباما، الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، عن مؤسّسة العبيكان، الرياض.

 

 

التعليقات