25/07/2020 - 22:17

فيلم "الجمال العظيم"... انتحار ساكني الفردوس

فيلم

من فيلم "الجمال العظيم"

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"الجمال العظيم - The Great Beauty"، فيلم حائز على جائزة "الأوسكار" لأفضل فيلم أجنبيّ عام 2013، للمخرج الإيطاليّ باولو سورنتينو، الّذي نال استحسان النقّاد في الكثير من المهرجانات والسينمات العالميّة، يسلّط الضوء على الانحدار الجماليّ في مدينة مفعمة بالجمال، روما.

 

من الجمال ما قتل!

يطرح الفيلم إشكاليّات وأسئلة تخصّ مضمونه كما تخصّ القالب والشكل الفنّيّ له؛ ففي الناحية الأولى نحن أمام فيلم كلاسيكيّ من مقوّماته التجوال في النفس البشريّة: هواجسها وخطراتها، آلامها وأفراحها. مع الحرص على أن يجيء هذا وسط مدينة روما، وتصوير آثارها، وخاصّة التماثيل المنحوتة والسور العتيق ونهر التيبر، أمّا الإطار الفنّيّ الّذي صاغ ما مضى فهو العبث، ومن هنا يجيء التناقض الحادّ في الفيلم.

 

 

يتناول الفيلم شخصيّة كاتب في الخامسة والستّين من عمره مفتقر للإلهام، أعزب يعيش على سطح إحدى البنايات قبالة "الكولوزيوم"، وهو أثر جميل من تلك الآثار الأركيولوجيّة التاريخيّة الرائعة الّتي يتدفّق السيّاح لمشاهدتها في العاصمة الإيطاليّة. هناك يحدث أمر مثير؛ إذ إنّه في أحد المشاهد يموت أحد السيّاح اليابانيّين فجأة خلال تأمّله ذاك الأثر، يموت بالسكتة القلبيّة، في انزياح سينمائيّ رهيب تساعده حركة الكاميرا المرنة والشاملة المتتبّعة تفاصيل المكان الساحرة والقاتلة في آن معًا، وكأنّ المخرج الإيطاليّ يقول باختصار: من الجمال ما قتل!

 

ما الّذي تحبّه حقًّا في الحياة؟

يبدأ الفيلم بحفلة عيد ميلاد صاخبة ومترفة لجيب قامبرديللي، الكاتب الستّينيّ، مع موسيقى مصاحبة تمنح مساحة رائعة للحشد الراقص على سطح أحد المباني الشاهقة في روما الكبيرة. وهكذا تستمرّ الكاميرا في الحركة خلال الحشد، ملتقطةً مشاهد عفويّة وعبثيّة في بعض الأحيان، لكنّها رمزيّة جدًّا. الحفل الّذي يبدو مفعمًا بالسعادة والمرح، ولا سيّما أنّه أقيم للاحتفال بميلاد هذا الكاتب، ينتهي بمقطع شاعريّ يُظْهِر حجم البؤس واليأس في روح جيب قامبرديللي، يقول: "على هذا السؤال، كأطفال، أعطى أصدقائي الإجابة نفسها: ‘الفَرْج‘، في حين أجبتُ: ‘رائحةُ بيوتِ المُسنّينَ‘.

السؤال كان: ‘ما الّذي تحبّه حقًّا في الحياة؟‘.

مقدَّر لي أن أكون هشًّا، مقدَّر لي أن أكون كاتبًا، كما كان مقدَّرًا لي أن أكون جيب قامبرديللي".

 

بحثًا عن قيمة للوجود العبثيّ

يقوم الفيلم على تسلسل مستوحًى من جولات الكاتب الليليّة في المدينة، وزياراته المتعدّدة إلى أصدقاء معيّنين؛ فهو مثلًا يلتقي في إحدى السهرات نخبة المثقّفين في روما، الّذين يبدون مثل ممثّلين تعساء على خشبة مسرح رثّة. مزاجيّة الكاتب الآخذ في الانحدار، وضيقه بالأقنعة الكثيفة حوله، يدفعانه إلى محادثة وحشيّة كاشفة وصارمة مع إحدى الكاتبات، الّتي ينتهي بها الأمر منتحرة في أحد مشاهد الفيلم.

يقوم الفيلم على تسلسل مستوحًى من جولات الكاتب الليليّة في المدينة، وزياراته المتعدّدة إلى أصدقاء معيّنين؛ فهو مثلًا يلتقي في إحدى السهرات نخبة المثقّفين في روما، الّذين يبدون مثل ممثّلين تعساء على خشبة مسرح رثّة...

وفي جولاته الطويلة، باحثًا بائسًا عن روحه أو أيّ قيمة يمكن منحها لوجوده العبثيّ، يتداخل العالم الواقعيّ بالسورياليّة والوهم، من خلال لقائه أمًّا تبحث عن طفلة لا وجود لها في كنيسة، وصديق ساحر يتمكّن من إخفاء زرافة وسط مبنًى أثريّ، وطيور هائلة ملوّنة تستجيب لنفخ راهبة تجاوزت المئة من عمرها.

قد تبدو تلك الكثافة البصريّة/ المشهديّة للوهلة الأولى، افتراضات جماليّة يائسة للإجابة عن أسئلة الكاتب، لكنّها في النهاية تظهر بقيمة أقلّ، بالمقارنة مع العالم الموازي الّذي قد لا يكون له وجود فعليّ، إلّا في مخيّلة الكاتب المصابة بالوهن.

 

صلاة إلى إله مختلف

عندما يقع في الحبّ مع راقصة تعرٍّ في محاولة لإنقاذها أو إنقاذ نفسه، وبينما هما في السرير يغرق الكاتب في تأمّل السقف الأزرق فوقهما، والاستماع إلى الصوت البحريّ العميق القادم منه. حتّى تلك العلاقة كانت تبدو بلا أمل؛ فعندما تتظاهر الفتاة بالموت يستمرّ الكاتب في تأمّل جثّتها ببلادة وإذعان رهيبَيْن، وكأنّه لم يكن يتوقّع حقًّا أيّ لحظة سعيدة حقيقيّة تبثّ فيه الحياة مرّة أخرى.

هذا يحيلنا إلى التجربة الصوفيّة والروحانيّة الّتي يمثّلها الفيلم؛ فبالإضافة إلى مشهد الحفل الراقص في البداية، لا تمثّل حمّى الرقص المجنونة في الحشد أكثر من محاولة منهم جميعًا لهروب ما، حتّى لو كان مؤقّتًا من حالة قنوط عامّة، وخاصّة حين تتوقّف الكاميرا في لحظة تأمّل رهيبة لإحدى الراقصات، في مكعّب زجاجيّ صامت، تبدو منفصلة تمامًا عمّا حولها كأنّما في صلاة لكن إلى إله مختلف، مشوَّه وحداثويّ.

 

الرواية في الفيلم

الفنّ الروائيّ كان حاضرًا في الفيلم بشكل قويّ، من خلال تقنيّات السرد المتعدّدة، والمشهديّات الّتي تبدو مفكّكة، لكنّ خيطًا خفيًّا في اللاوعي يمنحها شرعيّة وجاذبيّة ما. يتذكّر الكاتب أيضًا الرواية الّتي كانت قد نُشرت له منذ 17 سنة، وحقّقت له شهرته الّتي يتمتّع بها الآن، لكنّ هذه الشهرة هي ما دفعته تدريجيًّا إلى العزوف عن الكتابة.

يحيلنا الفيلم إلى كتّاب وأدباء مثل سيلين وفلوبير ومارسيل بروست وجيمس جويس، مستفيدًا من تيّار الوعي في الرواية الحديثة، من ناحية تداعي الذكريات في الفيلم، بل إنّ الفيلم يبدأ بكلمة مأخوذة عن رواية "رحلة إلى آخر الليل" للأديب الفرنسيّ سيلين...

يحيلنا الفيلم إلى كتّاب وأدباء مثل سيلين وفلوبير ومارسيل بروست وجيمس جويس، مستفيدًا من تيّار الوعي في الرواية الحديثة، من ناحية تداعي الذكريات في الفيلم، بل إنّ الفيلم يبدأ بكلمة مأخوذة عن رواية "رحلة إلى آخر الليل" للأديب الفرنسيّ سيلين، يقول فيها ما معناه أنّ الحياة مجرّد لحظات قليلة من السعادة، الّتي نصنعها بمحض خيالنا في الحاضر.

"الجمال العظيم" فيلم يستحقّ المشاهدة والبناء عليه سينمائيًّا وأدبيًّا، ومن وجهة نظري، الأثر الّذي يتركه على المشاهد يشبه إلى حدّ ما ذلك الأثر الّذي تتركه رواية مختلفة لهاروكي موراكامي مثلًا. إنّه مرآة ملغَّزَة لواقع متآكل.

ثمّة جمال حقيقيّ يجده التعساء في التعاسة والقنوط، مقابل الفراغ الّذي ينتهي إليه السعداء غالبًا، وثمّة جمال حقيقيّ في المدن الّتي ليست مكرّسة تمامًا له، مقابل الضجر الّذي تبعث عليه المدن الّتي ينتهي بها الأمر كمتحف!

 

 

عمر زيادة

 

شاعر ومترجم من مواليد نابلس عام 1987. حاصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في اللغويّات التطبيقيّة والترجمة من جامعة النجاح الوطنيّة. يعمل مترجمًا في اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّ. له مجموعة شعريّة بعنوان 'كلاب عمياء في نزهة' (2017)، صادرة عن الدار الأهليّة للنشر والتوزيع، بتوصية من لجنة تحكيم 'جائزة الكاتب الشابّ' لعام 2015، التابعة لمؤسّسة عبد المحسن القطّان.

 

 

التعليقات