28/01/2021 - 19:22

فيلم «ليلة سقوط بغداد»... قراءة في الرمز الجنسيّ

فيلم «ليلة سقوط بغداد»... قراءة في الرمز الجنسيّ

من مشهد اغتصاب الجنود الأميركيّين لسلمى في فيلم «ليلة سقوط بغداد»

 

دائمًا ما يربط المؤلّف والمخرج المصريّ محمّد أمين قصص أفلامه بالحاجة الجنسيّة لدى الإنسان، من زاوية نفسيًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا. تجلّى هذا الربط - وخاصّة السياسيّ - في فيلمه «ليلة سقوط بغداد». الفيلم ربط العجز الجنسيّ بالخوف من الاحتلال واستبداد العدوّ، ووضع سؤالًا محيّرًا لدى المشاهد، ألا وهو: هل انتفاء الاستقلال يعني عجز فعاليّة القضيب لدى الرجال، أو بمعنًى أكثر جرأة: سقوط القضيب؟ لم يكن هدف أمين الأساسيّ من الفيلم ربط العجز الجنسيّ لدى الرجال بمخيال الاستبداد القادم إلى بلادهم، بل كانت إشارة ضمن اليافطة الرئيسيّة، وهي القلق العارم لدى الشعوب العربيّة من الإمبرياليّة الأميركيّة الّتي تحتلّ بلادهم.

أحاول في هذا المقال تناول هذا الطرح من خلال تفسير مشاهد الفيلم، وعلى ضوء بعضٍ من النظريّات الّتي تناولت الجنسانيّة وتاريخها، وصلته بما يمسّه أو يدور حوله، وعلاقته برمزيّة القضيب نفسيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، ومدى علاقته أيضًا بالنظام السياسيّ القائم، وهل يتأثّر به حقًّا.

 

هيمنة الذكورة

منذ شهور، في منطقة مدينة نصر بالقاهرة، انتشر فيديو عبر فيسبوك لفتاة سودانيّة يحاصرها ستّة شباب، يتحرّشون بها ويتحسّسون جسدها، كان بينهم شابّ، لا يتحرّش بيده، بل يأتي من خلفها، ويحكّ قضيبه في مؤخّرتها، ويرجع، ثمّ يعاود تكرار هذا الفعل. حكّ القضيب هنا، ليس فعلًا شهوانيًّا، فهي ليست علاقة حميميّة، بل العضو الذكريّ للمتحرّش في نظره يمثّل قوّته، ليس فقط في علاقاته الحميميّة، بل حتّى في الفضاء الاجتماعيّ العامّ، لإضفاء سيطرته على جسد الفتاة المُعْتَدى عليها[1].

 

 

يمنح عالم النفس الشهير سيجموند فرويد العضو الذكريّ لدى الرجال رمزيّة نفسيّة واجتماعيّة خاصّة؛ فقد كتب عن نظريّته المعروفة بـ «حَسَد القضيب»، أي أنّ المرأة تحسد الرجل لأنّه يمتلك قضيبًا وهي لا تمتلك[2]. في ما بعد، عارضته إحدى تابعيه في علم النفس، الألمانيّة كارين هوري، بالكتابة عمّا سمّته «حَسَد الرحم»، أي النظريّة المعاكسة، الرجل هو الّذي يحسد المرأة لأنّها تمتلك رحمًا من خلاله تستطيع تربية الجنين حتّى ميعاد ولادته، وبغضّ النظر عن جدال الأعضاء التناسليّة والرمزيّة النفسيّة لهم، لدى النفس والمجتمع، ومدى استحقاق أيّ منهما، القوّة والاستفحال والتباهي[3]، إلّا أنّ القضيب ثبت صحّة مكانته النفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، على مرّ تاريخ الأمم والحضارات القديمة والحديثة، بدءًا من زمن الفراعنة والإغريق إلى وقتنا هذا.

قصّة أخرى، وسؤال آخر أجاب عنه النفسانيّ الأميركيّ أبراهام بريل، عندما سأله إدوارد بيرنيز، مسؤول البروباجندا في الولايات المتّحدة الأميركيّة بعد الحرب العالميّة الأولى، عن السجائر إلامَ ترمز، فأجاب "أنّها ترمز إلى قضيب الرجل وهيمنته وقوّته الجنسيّة"، وذلك في رحلة بيرنيز البحثيّة لإقناع النساء بتدخين السجائر، لتحقيق مزيد من الأرباح لشركة التبغ الأميركيّة الّتي يملكها جورج واشنطن هيل؛ وبذلك وجد بيرنيز مدخلًا نفسيًّا لإقناع السيّدات بالتدخين، وذلك لتحقيق قدر من القوّة في نضالهنّ النسويّ ضدّ الذكوريّة. إذن، كان القضيب هنا مصدر قوّة نضاليّة لاستحقاق المكانة المجتمعيّة!

ظاهريًّا، ربّما تحرّرت المجتمعات الغربيّة الحديثة، من مصطلحات كالفحولة والذكورة، وذلك لنشاط حركات تقدّميّة ليبراليّة أو نسويّة على مرّ عقود فائتة، بدورها فكّكت هيمنة الرجل القديمة المستفحلة على المرأة، ومكّنتها الدخول في الأسلاك التعليميّة والدبلوماسيّة، وأعطتها حرّيّتها المطلقة، وإن كانت الحرّيّة في أحيان غالبة مُسَلَّعَة في منظومة رأسماليّة مستفحلة، تتصدّرها صناعة البورن وتسليع الجسد ودمج ثقافة قوّة القضيب من خلالها؛ إذ يقبل الرجال بأعداد كبيرة على إجراء عمليّات جراحيّة لتكبير أعضائهم الذكريّة[4].

 الجسد - ولا سيّما الجزء المقدّس منه نفسيًّا، والدالّ على الفحولة (القضيب) - لم يستطع تلبية احتياجات النفس وإرضائها، بل تسبّب في كسرها وانحدار مقامها أمام الذات والبيئة المحيطة...

مع تلك التنافسيّة الغربيّة بشأن الرمزيّة النفسيّة والاجتماعيّة للقضيب، إلّا أنّ هذا الاستفحال ما زال موجودًا في المجتمعات العربيّة، ولا سيّما الّتي تحتفظ بقوانين دينيّة وعرفيّة تقليديّة، أو على الأقلّ الّتي تطبّق مفهوم القوامة بالخطأ، حين نجد عند الرجال اضطرابًا نفسيًّا لمَنْ أصابتهم مشكلة في هذا العضو، سواء إثر حادث نفسيّ أو بيولوجيّ، كما حدث مع طارق (الفنّان أحمد عيد ) في فيلم «ليلة سقوط بغداد»، عندما فشل في مضاجعة زوجته في ليلة الدخلة؛ وهو ما سبّب له شعورًا بالحرج والضعف، بعد إخبارها سابقًا بأنّه رجل مميّز مع المرأة وكلّ ما يخصّها.

هنا تتجلّى العلاقة بين النفس والجسد كما يصفها الفرنسيّ ميشيل فوكو، الجسد - ولا سيّما الجزء المقدّس منه نفسيًّا، والدالّ على الفحولة (القضيب) - لم يستطع تلبية احتياجات النفس وإرضائها، بل تسبّب في كسرها وانحدار مقامها أمام الذات والبيئة المحيطة[5].

 

سلطة المُحْتَلّ

تنفجر قنبلة في العراق، وتحتلّ القوّات الأميركيّة بغداد، وتستعرض فحولتها في العاصمة، فيعجز قضيب أحد الرجال في القاهرة، ربّما هذا طبيعيّ جدًّا؛ لأنّ القلق طبّيًّا وبشكل عامّ أحد أسباب الضعف الجنسيّ للرجل، وهذا ما حدث تمامًا في الفيلم، حيث عجز الرجال المهتمّون والقلقون بشأن قضيّة التحرير عن مضاجعة زوجاتهم، بسبب خوفهم من مخيال الاحتلال القادم لا محالة.

هذا العجز أيضًا تقابله طرديًّا قوّة جنسيّة أخرى تفرضها الإمبرياليّة أو السلطة السياسيّة الجديدة، على مَنْ يقاومونهم، أي أسراهم الجدد؛ إذ تُعَدّ القوّة الجنسيّة إحدى القوى الّتي تستخدمها أيّ سلطة جديدة، لمزيد من إضفاء قوّتها واستعراضها.

 

جنود أميركيّون يعذّبون أسرى عراقيّين في «سجن أبو غريب»، نُشِرَت عام 2004

 

صوّر الفيلم حوادث الاغتصاب الّتي قامت بها القوّات الأميركيّة في حقّ العراقيّين رجالًا ونساء؛ ولذلك كان الهاجس الأكبر لشاكر (الفنّان حسن حسني)، تصوّره في خياله أنّ الإمبرياليّة عندما تصل كقوّة محتلّة سيأخذون ابنته ويغتصبونها أمامه، كما يحدث للعراقيّين.

بين 12 و50 ألف امرأة بوسنيّة اغتُصِبْنَ في حرب البوسنة والهرسك،  بين عامَي 1992 و1995، هكذا تقول الأعداد؛ فقد كان الجنود من الصرب والكروات ينفّذون كلّ يوم اغتصابات جماعيّة للنساء المحتجَزات لديهم أسيرات حرب. قبل ذلك بـ 5 عقود في ألمانيا، إبّان انتهاء الحرب العالميّة، اقتحم الجيش السوفييتيّ المدن الألمانيّة الّتي كانت تخلو بشكل شبه كامل من الرجال، حيث كان معظم الرجال الألمان مجنَّدين في الجيش، واستفرد السوفييت بالنساء، وحدث ما يُعْرَف بعمليّات الاغتصاب الجماعيّة لمئات الآلاف من النساء الألمانيّات، ولمئات المرّات للمرأة الواحدة؛ فالاغتصاب وسيلة متعارف عليها لأيّ سلطة محتلّة أو منتصرة في حرب ما، لفرض الهيمنة والسيطرة على الأجساد المأسورة أو المغلوبة.

ليست أجساد النساء فقط محلّ الاستهداف، بل الرجال أيضًا؛ فعندما يكون الرجل أسيرًا أو قيد التحقيق، لا مانع لدى السلطة المتحكّمة في جسده في اغتصابه وهتك عرضه. مؤخّرًا، تحدّثت تقارير عن اغتصاب النظام السوريّ للمعتقلين المحتجَزين لديه، وسيلةً ضمن عشرات الوسائل من التعذيب المعتمد. وخرجت تقارير أيضًا عن اغتصابات مُمَنْهَجَة تحدث في ليبيا، عند احتجاز الفصائل المسلّحة المتنازعة أسرى بعضهم بعضًا.

وسائل التعذيب أيضًا لا تنفكّ عن القضيب؛ فمن حديث الشهادات أنّ الجهة المُعَذِّبة تربط القضيب وهو مثبَّت بحبل من طرف، والطرف الآخر معلَّق بباب الغرفة، فَيُفْتَح ويُغلق الباب، فيتألّم القضيب وينزف دمًا. وفي أوقات يُمْنَع القضيب من التبوّل، غير تعرّضه المستمرّ لجرعات الكهرباء؛ فيتسبّب بعد ذلك في إخصائه أو عجزه تمامًا عن الفعاليّة الجنسيّة[6].

تعطي السلطة هنا تعريفًا خاصًّا بأجساد أسراها، تُهَنْدِسُها من جديد[7]، وتعرف ما يتميّز به الجسد وفقًا للعُرْف النفسيّ والمجتمعيّ، فتحاول القضاء عليه أو تعجيزه ضمن إستراتيجيّات الإهانة والخضوع...

تعطي السلطة هنا تعريفًا خاصًّا بأجساد أسراها، تُهَنْدِسُها من جديد[7]، وتعرف ما يتميّز به الجسد وفقًا للعُرْف النفسيّ والمجتمعيّ، فتحاول القضاء عليه أو تعجيزه ضمن إستراتيجيّات الإهانة والخضوع. تبيّن هذا ضمن مشاهد الفيلم، كان طارق يراهن رجلين من المخابرات الأميركيّة على فعاليّة السلاح الّذي اخترعه، وهو عبارة عن غلاف جوّيّ يفجّر الطائرات عند محاولة المرور من فوقه. خسر طارق الرهان أوّل مرّة، فذهب إلى المرحاض حيث كان يضع مجسّمًا لجنديّ أميركيّ اسمه جاك، وجلس أمامه في وضع المضاجعة، وقال له: "أنا مكاني قدّامك". في إشارة إلى أنّ الرابح هو الّذي يُضاجع، أو الّذي يمتلك فعاليّة القضيب، أو الّذي له سلطة على القضيب. إذن، القضيب في السلطة السياسيّة هو رمز للانتصار والهيمنة.

 

كَبْت

الكبت الجنسيّ، أي عجز القضيب عن فعاليّته مع الجنس بشكل عامّ، يُحْدِث اضطرابًا عقليًّا، قلقًا دائمًا وخمولًا عن الثورة. كان النفسانيّ فيلهلم رايش يُنظّر بأنّ الثورة الجنسيّة هي الطريق إلى الثورة السياسيّة، وخروج الناس من عباءة الاستبداد، وبدايات التحرير. ربّما يجسّد طارق نظريّة رايش في الفيلم، عندما قال لشاكر إنّ الكبت الجنسيّ يمنعه من التفكير والإبداع من أجل اختراع سلاح الردع، أي يمنعه من التفكير الجيّد في وسائل التحرير والاستقلال عند رايش، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث نشأة الطبع الإنسانيّ تحت وطأة الاستبداد السلطويّ، تكون جزءًا أساسيًّا في الطاعة والخضوع للنظام المسيطر[8].

تقارب فوكو مع رايش في تأصيله للجنسانيّة الجماعيّة وهويّتها؛ إذ يحاجج الأوّل بأنّ السلطة، من خلال فرض خطابها وتعمّقه، عن طريق الأدوات المنهجيّة في التعليم ومؤسّسات المجتمع العلميّة، تُرَسِّخ خطابًا معيّنًا بشأن الجنس ورمزيّته في عقول الشعوب، بل إنّها تخلق هويّة جنسيّة على المدى البعيد في مخيال شعبها، سواء كان متعارف على أنّ تلك الهويّة سويّة أو منحرفة.

 

مشهد جاك يضاجع طارق في فيلم «ليلة سقوط بغداد»

 

في مصر، يقدّس الخطاب الرسميّ وغير الرسميّ رمزيّة القضيب لدى الرجل في العلاقة الجنسيّة، بل يعطيه أحقّيّة في الفحولة على المرأة؛ لذلك تكون العواقب وخيمة حين تتعطّل إمكانيّة ذلك القضيب لأيّ سبب، وعلى المستوى الهويّاتيّ أو النمطيّ؛ فالجنس في مصر والمجتمعات العربيّة معروف بالنمط المستقيم؛ لذلك أيّ هويّة جنسيّة أخرى كالمثليّة أو البادزميّة مرفوضة قانونيًّا وعُرفيًّا، ويلجأ أصحابها إلى حيلولات أخرى لتفعيل هويّاتهم، بعيدًا عن رقابة السلطة والمجتمع[9].

.....

إحالات:

[1] فيديو تحرّش جماعيّ بفتاة سودانيّة بمدينة نصر بمصر، قُبِض على الجناة، خيرات بلدنا، شوهد في 30/09/2020، في: https://bit.ly/37AMNXt

[2] Toward a general theory, Encyclopedia Britannica | Britannica, https://bit.ly/2HRt9NQ

[3] Karen Horney, Encyclopedia Britannica | Britannica, https://bit.ly/36mGozt

[4] “Man Dies From Penis Enlargement Surgery in Sweden,”The Independent, 31/07/2017, https://bit.ly/39tWkBS.

[5] ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانيّة - الانشغال بالذات، ترجمة محمّد هشام، ط1 (المغرب: عمل إفريقيا الشرق، 2004)، ص 136.

[6] "تقرير.. اغتصاب معتقلين رجال في سجون النظام السوريّ"، ارفع صوتك، 12/03/2019، شوهد في 27/01/2021، في: https://bit.ly/3odbY99

[7] ميشيل فوكو، كتاب المراقبة والمعاقبة - ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، تقديم مطاع صفدي، ط1 (بيروت: مركز الإنماء القوميّ، 1990) ص 158، 161.

[8] “Michel Foucault: Feminism,” The Internet Encyclopedia of Philosophy, https://bit.ly/2HQqPqi

[9] بـول أ. روبنسون، اليسار الفرويدي، ترجمة عبده الريّس، ط1 (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005)، ص 29 - 79.

 

 

أحمد عبد الحليم

 

 

 

كاتب وباحث مصريّ في قضايا الاجتماع، له العديد من المقالات والدراسات المنشورة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة في عدد من المؤسّسات البحثيّة والمنابر العربيّة. مؤلّف كتابي «الحارة العربيّة» و«أجساد راقصة».

 

 

التعليقات