31/08/2022 - 11:36

«Mo»... الفلسطينيّ المتعثّر في أرض الأحلام

«Mo»... الفلسطينيّ المتعثّر في أرض الأحلام

من مسلسل «Mo» | نتفليكس

 

بعيدًا عن العيون الملوّنة، والقوام الرشيق الجذّاب، يطلّ علينا الفلسطينيّ بطلًا لمسلسل من إنتاج «نتفلكس» بعنوان «Mo»، يقدّم الكوميديّ الفلسطينيّ محمّد عامر المشهور بلقب ’مو‘ (اختصارًا لاسم محمّد)؛ في هذا المسلسل ذي الحلقات الثماني ملامح من سيرته الذاتيّة، بصفته فلسطينيًّا وصل الولايات المتّحدة لاجئًا سياسيًّا من الكويت بعد حرب الخليج. بقالب كوميديّ جميل، نعيش مع عائلة نجّار المؤلّفة من الأمّ يسرى، والأبناء سمير ومحمّد وناديا، ونتابع يوميّات حياة العرب والمسلمين المركّبة في أماكن هجرتهم، الّتي تزداد تعقيدًا بكونهم فلسطينيّين.

يُطرد ’مو‘ من عمله لأنّه لا يملك مكانة رسميّة تمكّنه من العمل، منذ صغره زُرعت فيه فريضة الاعتناء بالعائلة في غياب والده، يحاول ’مو‘ ذلك بطرق عديدة تقوده مرغمًا إلى المتاعب الّتي تزداد حدّتها شيئًا فشيئًا، لكنّها جميعًا مواقف ساخرة صُنعت باحترافيّة؛ لنفهم أنّ ’مو‘ نموذج البطل المهزوم، الملاحَق بالفشل، لكن كلّما تمعّنّا بالحيثيّات وجدنا أنّ الهزيمة ليست خيارًا. قد يكون البطل متسرّعًا في بعض تصرّفاته، لكن لا يبدو لنا أنّ نواياه هي ما تقوده نحو تلقّي الصفعات واحدة تلو الأخرى.

يشبه هذا البطل كثيرين من أقاربنا وأصدقائنا الّذين يعيشون في أمريكا وأوروبّا، يشبه حياة الكثير من الشخصيّات الناجحة البارزة الّتي لاقت مصيرًا مشابهًا قبل أن تتبدّل بها الأحوال.

يشبهنا المسلسل كثيرًا لأنّ شخصيّاته تعيش في ظلّ عاداتنا وممارساتنا، ينتقد بعضها ويعزّز أخرى، يتّخذ من الكوميديا وسيلة للانتقاد، ويطرح مواقف جدّيّة صارمة، ويقدّم رسائل سياسيّة مباشرة؛ من خلال حوارات قصيرة أجاد كتّاب العمل اختيار توقيتها.

 

نحن الفلسطينيّين نمضي قدمًا

ينجح العمل من تأليف محمّد عامر ورامي يوسف، وتمثيل محمّد عامر وفرح بسيسو وشيرين دعيبس، وكلّهم فلسطينيّون، إلى جانب المصريّ عمر إلبا؛ في أن يجاهر بالمواقف دون أن يكون مبتذلًا أو غارقًا في الكليشيهات أو الاستجداء والبكاء والعويل.

"هل تعتقد أنّي ووالدك بكينا عندما خرجنا من الكويت؟ هل تعتقد أنّ جدّتك جلست تبكي عندما هُجّرت وقت النكبة؟ نحن الفلسطينيّين نمضي قدمًا"، تقول الأمّ لابنها في محاولة لحثّه على عدم الاستسلام. لعلّ في هذا المشهد رسالة إلينا وإلى العالم عن تعدّد مفاهيم المقاومة؛ إذ يعيش الفلسطينيّ حياته دون أن تنال منه الظروف المحيطة، وأنّنا لن نقف متفرّجين منتظرين الخلاص، بل نحن نخلق فرصًا للخلاص، هي رسالة إلى كلّ فلسطينيّ بأنّ في هذا الشعب من القوّة ما يجعله قادرًا على التحدّي والنضال.

 

الزيت الشافي

قد يزرع الأمريكيّ شجر الزيتون لكنّ حاميه فلسطينيّ، عندما تُسرق أشجار الزيتون يخاطر ’مو‘ بحياته من أجل إعادتها إلى أرضها. ليس هذا مجرّد موقف ضاحك آخر يدفع بالبطل نحو المزيد من المشاكل، بل له معنًى آخر يتمثّل بالعلاقة الأبديّة بين الفلسطينيّ والزيتون. كذلك؛ ليس غريبًا أن تعتبر الأمّ زيت الزيتون علاجًا شافيًا لكلّ الأمراض الجسديّة والنفسيّة. وهذه نصيحتها لابنها. تحمل الأمّ معها قارورة زيت زيتون أينما ذهبت، زيت عصرته بيديها، وهي رمزيّة أخرى توازي مقولة "وطن يعيش فينا لا وطن نعيش فيه". تحمل يسرى نجّار وطنها معها إلى كلّ مكان، تخلق لها وطنًا من زيت الزيتون، وبه تقاوم الفقر والبطالة والاندماج في المجتمع الغريب.

 

من مسلسل «Mo» | نتفليكس

 

اللاساميّة في ظروف محايدة

لا يمكن للفلسطينيّ أينما كان ألّا يرتطم بالصهيونيّة ومُخرجاتها؛ ففي مشهد ظريف يقوم ابن ناديا شقيقة ’مو‘، وهو ابن لأمّ فلسطينيّة وأب أمريكيّ ويحمل اسم أسامة؛ وهو ليس اسمًا محايدًا في السياق الأمريكيّ – العربيّ؛ بضرب كرة البيسبول فتصيب رأس غريمه. تتكشّف عن الإصابة هويّة الطفل الغريم اليهوديّ، الّذي ما تلبث عائلته أن توجّه اتّهامًا باللاساميّة لأسامة وعائلته. هذا المشهد هو النسخة الساخرة لكلّ ما يحدث اليوم في العالم؛ من نشاط مناهض للصهيونيّة والاحتلال والأبرتهايد. كلّ شيء موصوم عنوة باللاساميّة، ولو حدث صدفة في ظروف ’محايدة‘.

 

العودة إلى الأصل

رغم أنّ 90% من العمل باللغة الإنجليزيّة إلّا أنّ اللغة الأمّ تتسلّل أينما يجب لها أن تكون، في الأحاديث العائليّة بين الوطن والمهجر؛ في الحديث عن الدين؛ في الشتائم، والغضب والمشاعر. تعود الأمّ للأصل العربيّ الإسلاميّ في تعاطيها مع وشم ابنها، ينصبّ تركيزها على الحرام متغاضية عن المعنى العاطفيّ الّذي يحمله الوشم؛ عن الابن الّذي يحمل والده على جسده الكبير ولا يفارقه، تتغاضى عن المسؤوليّة الّتي تثقل كاهل ابنها بعد وفاة والده، لم يخرج هذا الابن من جلباب الأب؛ فقد ورثه إلى الأبد تمامًا كالوشم.

’مو‘ شخصيّة سريعة الغضب، تلجأ إلى السباب والشتم والعنف كلّما تحلّقت حولها الأزمات، قد يكون في هذا بعض من الأفكار المسبقة، لكنّ بناء الشخصيّة في هذا العمل كان جميلًا إلى درجة النجاح في خلق توازنات بين الغضب والحبّ. فـ ’مو‘ محبّ لوالده؛ لأخيه المصاب بالتوحّد، محبّ لصديقته الّتي ينوي بناء عائلة معها، ومقابل موجات الغضب العارمة نراه خائفًا، وقلقًا، وباكيًا، كأيّ إنسان طبيعيّ.

تنعكس في هذا العمل صورة عن حياة الأقلّيّات، وقد نشعر بالتماهي معها، خاصّة أنّ هذا العمل لا يكشف النقاب فقط عن مآسي الفلسطينيّين ومصابهم في دول اللجوء، بل يقدّم نماذج من حياة أقلّيّات أخرى. المكسيكيّون الّذين يفصلهم جدار عن أمريكا، واللاجئة الهنديّة الّتي لا تزال ترى في غير الأمريكيّ الأبيض أقلّ شأنًا، والأفارقة الّذين قذف بهم النظام إلى الشارع، فشكّلوا فيه حياة وعصابات.

 

من مسلسل «Mo» | نتفليكس

 

فلسطينيّ في ’دريمزلاند‘

في عام 2009، قدّمت المخرجة الفلسطينيّة شيرين دعيبس فيلم «أمريكا»، من بطولة نسرين فاعور. بطلته منى فرح موظّفة بنك، تقرّر مغادرة الضفّة الغربيّة هربًا من ممارسات الاحتلال بعدما نجحت في الحصول على الـ ’جرين كارد‘. تلجأ هذه المرأة الّتي لم ينجح زواجها في الاستمرار إلى الولايات المتّحدة، أرض الأحلام والإمكانيّات؛ هربًا من التضييقات السياسيّة والاجتماعيّة. هناك، في أمريكا، تعيش أختها رغدة الحلبي وعائلتها حياة رغيدة منسجمة مع الحياة الأمريكيّة، مع حنين دائم للوطن. في رحلتها مع ابنها الوحيد فادي، تختبر منى مواقف لم تكن مهيّأة لها؛ فتختار بعقليّة الخوف اللامنتهي من الفقدان والخسارة أن تخبّئ أموالها في علبة ’كعك بعجوة‘، بيئة عربيّة ’حلوة‘ لأموالها الّتي تضيع لأنّ أمن المطار يرمي العلبة إلى القمامة.

تضطرّ منى إلى العمل في مطعم أمريكيّ للأكل السريع، وتلتقي هناك بزميل يهوديّ فتُشعل هويّاتهما نار العداء الّذي تركاه خلفهما على أرض فلسطين.

إنّ ما يقدّمه لنا كلّ واحد من هذين العملين هو دراما واقعيّة، سواء كانت كوميديا أو تراجيديا، فإنّ الأبطال يعانون خلال محاولات الاندماج في المجتمع الجديد. مهما كان شكل الاندماج وحجمه فإنّ الهويّة والوطن المحتلّ لا يفارقان الأبطال، في حياة كلٍّ منهم تفصيل مردّه إلى الأصل.

إنّ الاستثمار في القصّة الفلسطينيّة، الّذي تنتهجه «نتفلكس» في العام الأخير استثمار تجاريّ بحت. لكنّ مسلسل «مو»؛ الّذي بتنا ننتظر جزأه الثاني، ينجح في إيصال رسائل للعالم حول الحالة الفلسطينيّة بقالب جديد. صحيح أنّ حياة الفلسطينيّ في وطنه تختلف تمامًا عمّا هو حاله في المهجر، لكنّ الفلسطينيّ الإنسان، والقضيّة والهويّة والإرث والقوميّة، هو ذاته. إنّ استخدام الموسيقى التصويريّة لفرق من الداخل الفلسطينيّ – «فرقة ولّعت» مثالًا - الّذي يعود الفضل فيه إلى وجود الرابر اللداويّ سهيل نفار ضمن طاقم العمل؛ قد يفتح المزيد من العيون على منتجي هذه الموسيقى؛ وبذلك تكون اللوحة الفلسطينيّة الجامعة في هذا العمل قد أتت بالفلسطينيّين مواليد الكويت، ومواليد سوريا، ومواليد الضفّة الغربيّة والداخل، باختلاف جنسيّاتهم ولهجاتهم وتجاربهم، وحطّت بهم في عمل جميل ومتقن وممتع وهادف وصادق.

 


 

سماح بصّول

 

 

 

 

مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في الأدب المقارن  والماجستير في ثقافة السينما.

 

التعليقات