08/01/2023 - 21:44

«Wednesday»... الخير في قلب الجنون

«Wednesday»... الخير في قلب الجنون

من مسلسل «Wednesday»

 

يمكن التفكير بمسلسل «Wednesday» بوصفه رحلة شيّقة إلى عالم مُوازٍ مليء بالأسرار، تنفجر خلالها البديهيّات، وترتبك المفاهيم الراسخة والمتجذّرة؛ إذ يطرح تساؤلات حول المعايير الّتي تُحدّد ما هو الطبيعيّ والعاديّ، في سياق غير طبيعيّ. إضافة إلى تناوله جدليّة الحقّ والباطل، الشرّ والخير، حيث يمكننا أن نرى الأخير في هيئة شيطانيّة سوداء متمرّدة، بخلاف الصورة الملائكيّة الّتي اعتدنا أن نراه فيها.

يُصَوَّر المسلسل داخل مدرسة للمنبوذين، تضمّ مراهقين يمتلكون قوّة خفيّة خارقة مثل المستذئبين ومصّاصي الدماء وغيرهم، في ما تفصل جدران هذه المدرسة بين الأشخاص العاديّين والمنبوذين. مع الوقت تبدأ هذه الحدود الفاصلة بالذوبان على المستوى المفاهيميّ، وليس على مستوى جدران المدرسة فحسب؛ ليصبح هذا المسلسل محاولة لرؤية العالم من وجهة نظر المنبوذين، ومعرفة السرديّة الأخرى الّتي لطالما طمسها التاريخ. يشبه الأمر تلك المحاجّة القائلة: كلّنا نعرف قصّة «ليلى الحمراء»، لكن ماذا لو سمعناها من وجهة نظر الذئب؟

 

الجحيم هو الآخر

يبدأ المسلسل بطرد وينزداي آدمز، البطلة الرئيسيّة للمسلسل، من مدرستها؛ إثر إلقائها أسماكًا مفترسة في بركة المدرسة، حيث يسبح بعض الفتية، وذلك انتقامًا من تنمّرهم على شقيقها الأصغر، ومن ثَمّ انتقالها إلى أكاديميّة «نيفرمور» الّتي درس فيها والداها من قبل، وهي مدرسة لمن يُطْلَق عليهم جزافًا بالمنبوذين. تبدو عائلة اَدمز مألوفة لنا؛ فقد ظهرت للمرّة الأولى على صفحات مجلّة «نيويوركر»، على يد الرسّام الشهير تشارلز اَدم، ومن ثَمّ ظهرت في عدد لا بأس به من الأعمال الفنّيّة المتنوّعة، وصولًا إلى هذا المسلسل الّذي يحاكي شخصيّة الابنة البكر للعائلة: وينزداي؛ فتاة ترتدي دائمًا ملابس سوداء تعبيرًا عن مزاجها الحادّ السوداويّ، تميل إلى العزلة والسخط، منغمسة في هواجسها الخاصّة بعيدًا عمّا يهتمّ به أبناء جيلها، من قضايا متمثّلة بالعلاقات والحفلات الصاخبة وصورة الذات؛ فوينزداي لا تهتمّ حقيقة برأي الآخرين فيها، وهذا ليس مجرّد ادّعاء أو قناع ترتديه لتخفي هشاشة ما، إنّها مراهقة متجاوزة دوائر القبول والرفض، بل تستمتع سرًّا بهذا الرفض؛ لأنّها تعلم أنّه دليل على صواب مسارها المختلف؛ فلطالما أظهرت بغضها لثقافة القطيع والمشي مع التيّار، ولخّصت فلسفتها بالعلاقة بالآخرين، مقتبسة جُملة الفيلسوف الفرنسيّ جون بول سارتر (1905 - 1980): "الجحيم هو الآخر".

 

 

مع ذلك تكسب وينزداي في النهاية علاقات صداقة حقيقيّة ومتينة؛ فرغم أنّها تُشبه أبطال دوستويفسكي أو كافكا، من حيث السوداويّة والسخط، إلّا أنّها ليست عدميّة، بل من هؤلاء الّذين يرون في الحياة جدوى وجوديّة وقضيّة يجب الدفاع عنها. إنّها ببساطة معترضة على قوانين حياة المجتمع وشرائعها، وتعيش مع شكّها في الطريقة الّتي يمشي بها العالم نحو اللاعدالة. تشقّ طريقها مع الكثير من الاطّلاع والفضول، إضافة إلى امتلاكها لقوّة خارقة تمكّنها من رؤية الغيب؛ إذ تأتيها رؤًى على هيئة نوبة تستمرّ لثوانٍ، ترى من خلالها أحداثًا تبدو بالبداية طلاسم للمُشاهد ولوينزداي ذاتها، لكن مع الوقت تبدأ هذه الرؤى بالاتّضاح، تساعد من خلالها وينزداي على حلّ جرائم قتل محلّيّة، وعلى الكشف عن هويّة الوحش الخفيّ.

بقدر ما يبدو هذا جنونًا إلّا أنّه يغدو منطقيًّا في ما لو خلقنا مقاربة نظريّة بينه وبين الواقع الّذي نعيشه، بل أكثر من ذلك أنّه يضع الأخير في مساءلة صعبة، حيث يجعلنا نتساءل عن حدود الجنون والعقل، الّتي تُؤْخَذ معايير للإقصاء والنبذ.

 

الأحمق المتمرّد 

في كتاب «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ» (1961)، يروي فوكو قصّة سفينة الحمقى، الّتي ظهرت في القرن الخامس عشر، ليدلّل من خلالها على فكرة الاستبعاد والإقصاء؛ إذ أُرْسِل ’المجانين‘ بعيدًا على متن سفن تجوب الأنهار الأوروبّيّة، من دون وجود قبطان. لم تكن سفينة الحمقى هذه حالة أوروبّيّة فريدة، بل كانت تمثيلًا لكلّ مجتمع يتحوّل فيه الإقصاء والنبذ إلى أسلوب حياة، يتبنّى الرؤية الفرديّة الّتي تجعل مجتمعًا بأكمله يقدّم جزءًا منه قربانًا لصالح الباقين. هنا، يجادل فوكو بأنّ الجنون يمكن أن يكون الخروج عن المعايير الاجتماعيّة؛ فالحدّ الفاصل بين الجنون والعقل هو معيار القيم الاجتماعيّة. من ثَمّ؛ فالجنون وصف ’اجتماعيّ‘ اعتباريّ غير حقيقيّ، وبالتالي فإنّ التغيير في المعايير الاجتماعيّة والقيم والأصول المتّبعة في المجتمع سيؤدّي إلى تغيير وصف الجنون، فالجنون في زمن ليس جنونًا في آخر[1].

في إحدى لقطات المسلسل، تسأل أم إيند، صديقة وينزداي ورفيقتها بالسكن "ألا تريدين أن تتحوّلي إلى ذئب وتصبحي طبيعيّة أخيرًا؟". يمكن لهذه العبارة أن تكون كوميديّة للمشاهدين، لكنّها تحمل تلميحًا ذكيًّا لما يريد المسلسل قوله عن اختلاف تأويلات ماهيّة الطبيعيّ.

يجادل كلٌّ من دولوز وغاتاري في كتابهما «الرأسماليّة والشيزوفرينيا» (1977) في مفهوم الفصاميّ، ويشيرون إلى أنّ الفصاميّ يمكنه أن يكون ببساطة الشخص الّذي يرفض الواقع بما يحمل من بنًى قهريّة، وبهذا فإنّه يمكن أن يكون الفنّان والمفكّر المتمرّد والممتنع عن التصنيف، لكنّ النظام طوّع العلاج النفسيّ لخلق الشخص الفصاميّ وزجّه داخل غرف العلاج[2]. رأينا الأخيرة كثيرًا خلال المسلسل، عندما كانت وينزداي تزور معالِجتها النفسيّة قسرًا، كانت المعالِجة تحاول أن تحفر في شخصيّة وينزداي، محاوِلة إيجاد ’البياض‘ الإنسانيّ الّذي تعتقد أنّه مُغطّى في ملابس وينزداي السوداء؛ حيث كانت تشجّعها على إقامة العلاقات الاجتماعيّة والصداقات، والانفتاح على تجارب جديدة، لكنّ وينزداي كانت في مكان اَخر، منشغلة بهواجسها الوجوديّة الخاصّة؛ فعلى الرغم من أنّ المعالِجة كانت تبدو أحيانًا قادرة على قراءة أعماق وينزداي، وما تمارسه من حيل دفاعيّة متجلّية بإنكار مشاعرها ومشاعر الآخرين، لكنّها لم تنجح تمامًا في كسر هذا الجليد بقلب وينزداي، ربّما لأنّه يحتاج إلى شيء أكثر عمقًا ليُكْسَر، فقد رأيناها تلفّ ذراعيها وتعانق صديقتها للمرّة الأولى خلال المسلسل، بعدما تعاونتا من أجل القضاء على الوحش، بعد مرّات عدّة رفضت فيها العناق.

 

من وحي اللامنتمي

كان صعبًا على وينزداي أن تتأقلم حتّى في مدرسة المنبوذين، الّتي كلّ من فيها غير قادر على التأقلم مع العالم ’العاديّ‘. كما أنّها رفضت أن تتشبّه بوالدتها، وأن تكون نسخة عنها، وهي بذلك تذكّرنا بشخصيّة ’اللامنتمي‘ في كتاب كولن ولسون «اللا منتمي» (1956)؛ ذلك الشخص الّذي لا يجد في العالم برمّته مكانًا مناسبًا للعيش.

إنّها تدرك مدى هشاشة الإنسانيّة تمامًا مثل اللامنتمي الّذي يمتلك حساسيّة أكثر من المتفائلين أصحاب العقول؛ فالعالم عند اللامنتمي مكان فوضويّ وليس منظّمًا، الأمر الّذي يجعله قادرًا على فهم الواقع بطريقة أعمق من الآخرين الّذين ينشغلون بتفاصيل الحياة اليوميّة. كما أنّه يواجه الفوضى ويعترف بحقيقتها؛ ممّا يجعل إمكانيّة التغيير والإصلاح متاحة، وهو ما يبعث فيه شعورًا كئيبًا لأنّه ملتزم بقول الحقيقة دون مواربة. وتلك سمة أخرى في شخصيّة وينزداي؛ إذ طرحت الكثير من القضايا خلال المسلسل على هيئة جُمل عابرة تقولها في أثناء حواراتها، تُدلّل نحو الأيديولوجيا الّتي تتبنّاها، والزاوية الّتي ترى العالم من خلالها؛ فهي تمتلك موقفًا من الأشياء، مثل عدم استعمالها للهاتف الذكيّ مثلًا، واعتقادها أنّ التكنولوجيا تستعبد الإنسان وتضعه في خانة ضيّقة من العالم، كما أنّها تنتقد شريكتها في السكن ’إيند‘، الّتي تستعمل منصّة «إنستغرام»، وتعتبر أنّ هذه المنصّة مضيعة للوقت.

 

من مسلسل «Wednesday»

 

 ليس ذلك مفاجئًا؛ فمن أبرز الصفات في شخصيّة وينزداي عدم اكترثها لرأي الناس، وهي بذلك متخفّفة من هوس الإنسان الحديث في الظهور والبروز، خاصّة أنّها فتاة مراهقة، وهي المرحلة الّتي يكون فيها الإنسان في أوج هذا الهوس؛ إذ يبدأ بتكوين صورة الذات الاجتماعيّة ويقوم بسلوكيّات من شأنها تلميع هذه الصورة ليحظى بالاهتمام والحبّ والقبول، ما يبدو تافهًا بالنسبة إلى وينزداي. في إحدى لقطات المسلسل، بعدما ترتدي وينزداي فستانًا، وتقرّر الذهاب إلى حفلة ما مع المدرسة، يراها شريكها في الرقص، وتبدو عليه علامات الاندهاش، فتُقاطعه واصفة نفسها بأنّها تبدو مثل النساء اللواتي يُسَلعِنّ ويُشَيئِنّ ذواتهنّ، وهنا لا يظهر الجانب النسويّ الماركسيّ الّذي تتبنّاه فحسب، بل أيضًا يظهر خوفها من أن تكون مبتذَلة، وربّما تكون هذه الصورة الوحيدة الّتي تخشى أن يراها الآخرون فيها.

 

الحقيقة مقابل وهْم السعادة 

في حوار بين وينزداي ومديرة مدرستها، الّتي تريد أن تحافظ على الاستقرار والأمن العامّ للمدرسة بأيّة طريقة، تقول مديرة المدرسة لوينزداي، بعدما أحرقت الأخيرة تمثال ’كراكستون، الّذي كان له تاريخ طويل في محاربة المنبوذين، تقول إنّها تتسبّب في المشاكل، فتُجيب وينزداي: "إن كانت المشاكل تعني مواجهة الأكاذيب، وعقود من التمييز، وقرون من معاملة المنبوذين كأنّهم مواطنون من فئة دونيّة أو أسوأ، فليكن"؛ فتُجيبها مديرة المدرسة بأنّ ثمّة دائمًا فرصة لتصويب الأخطاء، وإمكانيّة بداية جديدة من العلاقات بين المنبوذين والعاديّين، وبأنّ قلبًا سعيدًا وأذنًا مصغية سيسمحان للبلدة بتحقيق أيّ شيء. ترُدّ وينزداي بحذاقة: "يهلك من ينسون التاريخ لأنّهم يكرّرونه، فإمّا أن يكتبوا قصّتنا وإمّا نكتبها نحن".

 في ذات النقاش تقول المديرة إنّ العالم ليس أبيض وأسود، بل درجات من الرماديّ. فتردّ عليها وينزداي: "بالنسبة إليك". يبيّن لنا هذا الحوار صراعًا بين فلسفتين: الأولى متخاذلة ومُخبأة خلف مفاهيم متفائلة مثل السعادة والأمن، والثانية تُفضّل النضال من أجل  الحقيقة حتّى لو كان طريقها وعِرًا ومليئًا بالمشاكل والمتاعب. هنا، يتّضح للمشاهد أنّ هذه السوداويّة الّتي تحملها وينزداي، وهذا الغضب والسخط الّذي في داخلها، ما هو إلّا أعراض جانبيّة للوعي النقديّ الّذي تتحلّى به، والّذي يرفض بعناد أن يتجاهل ما يحدث من قهر تحت شعارات السعادة والأمن العامّ.

 

 

 تُشبه وينزداي شخصيّة «النسويّات القاتلات للبهجة» الّتي تحدّثت عنها الباحثة سارة أحمد في مدوّنتها الّتي تحمل ذات الاسم، وهي الشخصيّة الّتي تعترض طريق سعادة الآخرين، من خلال إشارتها الدائمة نحو الظلم والقمع. فهي بذلك تعكّر صفو المزاج العامّ، وتورّطهم في تحمّل أعباء النضال والحقيقة الّتي يحاولون تمييعها في سبيل الحفاظ على الثبات والتوازن. في هذا الصدد تطرح كلمة ’Wretched‘، الّتي تعني ’بائس‘، كلمةً تمتلك أصولًا خاصّة آتية من كلمة ’غريب‘ أو ’المنفى‘ أو ’المنبوذ‘، وكيف تطوّرت هذه الكلمة في اللغة الإنجليزيّة ليصبح معناها "الشخص الحقير"، ويُقال إنّها تعكس الحالة المزرية للشخص المنبوذ. هنا يمكن إعادة التساؤل الّذي طُرِح في البداية، عن إمكانيّة إعادة كتابة تاريخ السعادة من وجهة نظر ذلك الشخص الحقير، بوصفه بائسًا أو منبوذًا.

 

لماذا أَحبّ المشاهدون المسلسل؟

احتلّ مسلسل «Wednesday» المركز الأوّل في عدد ساعات المشاهَدة؛ فقد حقّق رقمًا قياسيًّا بلغ 341.23 مليون ساعة مشاهَدة في أوّل أسبوع من عرضه على منصّة «Netflix». يعود هذا لأسباب عدّة يمكن أن يكون لها علاقة بضخامة الإنتاج والتقنيّات المستخدَمة في تصوير المسلسل، وربّما أيضًا لأنّ عائلة اَدمز بدت مألوفة لنا نحن المشاهدين؛ إذ ظهرت في العديد من المسلسلات والمسرحيّات من قبل. لكنّ السبب الأهمّ قد يتمثّل في شخصيّة وينزداي الّتي نتوق إلى وجودها في ظلّ عالم مليء بالأكاذيب والتهريج الاجتماعيّ، والنفاق السياسيّ والتاريخيّ؛ شخصيّة قويّة وشجاعة، ممتنعة عن التصنيف والقولبة، تتلفّظ الحقيقة دون تردّد، ولا تريد إلّا أن تناضل من أجل قضيّتها، وتكتب التاريخ من جديد؛ فعلى الرغم من سوداويّتها، إلّا أنّها تبعث مشاعر التفاؤل والإرادة والخير، الّذي اعتدنا أن نراه دائمًا في هيئة لطيفة ومُحبّة وبألوان زاهية.

 


إحالات

[1] جلولي وعبد الحكيم، مفهوم الجنون عند ميشيل فوكو، دراسات إنسانيّة واجتماعيّة، العدد 11 (2022) ص 40-29.

[2] Deleuze, G., Guattari, F. Plateaus, A.T. Capitalism and schizophrenia (Vol. 1) (New York, NY: Viking Press, 1977).

 


 

غدير محاجنة

 

 

 

باحثة وطالبة ماجستير في برنامج «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت». كتبت في عدد من المجلّات والمنصّات العربيّة.

 

 

التعليقات