12/07/2023 - 17:20

«Succession»... الصباح التالي بعد سقوط الأبويّة

«Succession»... الصباح التالي بعد سقوط الأبويّة

من مسلسل «Succession»

 

في الساعة الرابعة مساء الخامس والعشرين من كانون الأوّل (ديسمبر) عام 1989، أُعْدِم الرئيس الرومانيّ الشيوعيّ الأخير نيكولاي تشاوتشيسكو وزوجته إيلينا، في قاعدة عسكريّة قريبة من العاصمة بوخارست؛ بناء على قرار محاكمة عسكريّة شكليّة دامت ساعة واحدة. كان ثمّة أسباب جذريّة سياسيّة-اقتصاديّة وراء الانهيار، إلّا أنّ العديد من المؤرّخين والصحافيّين صاغوا نظريّة وراء الأسباب الثقافيّة للثورة المعادية للشيوعيّة في رومانيا: مسلسل «دالاس» (1978-1991) الأمريكيّ.

كان شاوتشيسكو هو الّذي سمح بعرض المسلسل الّذي يتحدّث عن حياة عائلة أيوينج الثريّة الأمريكيّة المالكة لشركة نفط في تكساس، حيث ابتغى شاوتشيسكو أن يُري شعبه رؤية الرأسماليّين الغربيّين الفاسدة المليئة بالمؤامرات والخيانة والكآبة، إلّا أنّ النتيجة كانت معاكسة، قطاعات واسعة في رومانيا وفي العالم الاشتراكيّ والعالم الثالث والعالم العربيّ وقع في حبّ عائلة أيوينج، وحياتهم الراقية والمترفة.

سوف أعترف هنا، في فترة ما بعد حرب العراق وسقوط صدّام، وانتشار الفضائيّات والمسلسلات والأفلام الأمريكيّة، كنت قد وقعت في حبّ عائلة المحامي ’ساندي كوهين‘ في مسلسل «سنوات المراهقة» (The O.C)، الّتي تملك بيتًا فاخرًا على شاطئ نيوبورت في مقاطعة أورينج في كاليفورنيا. ’ساندي‘ على الأقلّ كان رجلًا عصاميًّا وُلِدَ فقيرًا، ويحرص على ألّا يُظْهِر حياة الترف أمام والدته عندما تزوره من نيويورك. باختصار، كثيرون مدانون بتهمة رغبة حياة الترف والثراء والقوّة (وأن نبقى نبلاء في معظم الأحيان بينما نحيا هذه الحياة)، كثيرون أرادوا أن يصبحوا مثل هذه العائلة أو تلك في المسلسلات الأمريكيّة، الّتي هي بالفعل ’سلاح‘ ثقافيّ ناعم للمؤسّسة الإعلاميّة الأمريكيّة.

 

ما بعد الأبويّة 

يأتي مسلسل «Succession» في ذات الفئة من المسلسلات الأمريكيّة المليئة بمظاهر الثراء والترف والقوّة، منذ عام 2018 وحتّى 2023، لكنّ المميّز في المسلسل لا يكمن فحسب في نفورنا من حياة عائلة ’روي‘، الثريّة المالكة لشركة إعلاميّة ضخمة في أمريكا، حيث يظهر آباء هذه العائلة وأبناؤهم، وموظّفو هذه الشركة، مجموعةً من الشخصيّات الغبيّة والنرجسيّة والانتهازيّة والمثيرة للشفقة؛ بل إنّ ما يميّز هذا المسلسل على وجه الخصوص، هو كابوس أنّنا جميعًا بالفعل مثل عائلة ’روي‘، من دون أن نحلم أو أن نبذل أيّ مجهود.

 

 

قيام الممثّلة الفلسطينيّة هيام عبّاس بدور ’أمّ أمير‘، الزوجة الثالثة لرأس العائلة ’لوجان روي‘، لم يكن الشيء الوحيد الّذي سهّل تخيّل هذه العائلة عائلةً قويّة فلسطينيّة مدينيّة، تعمل في القطاع السياسيّ أو الخاصّ أو غير الحكوميّ، بل لأنّ المسلسل يتمحور في مواسمه الأربعة حول مَنْ سوف يرث الأب ويصبح رئيسًا للشركة، لن نحتاج إلى مخيّلة واسعة لكي ندرك أنّ قصّة عائلة هذا المسلسل مثل قصص عائلات مجتمعنا، الّتي انتقلت قسرًا وطوعًا من حياة الريف إلى حياة المدينة، وشهدت على ’موت‘ رأس العائلة، وانتقال إرثه مرّات عدّة، من النكبة إلى النكسة، إلى حقبة الانفتاح النيوليبراليّة من السبعينات إلى الألفيّة.

بتنا في حالة انتقال مؤلمة بين الأبويّة المسؤولة (في حقبة تعلّق نظام العائلة بالأرض والريف) إلى الأبويّة المتهوّرة...

المخيف بالفعل في شخصيّة ’لوجان روي‘ وعلاقته المسيطرة بالأدوات الناعمة والخشنة مع أولاده الأربعة، كيندال ورومان وشيف وكونور، هو ليس ’أبويّته‘ القاسية، بل أنّه يمثّل تحوّلًا آخر ’ما بعد أبويّ‘ أكثر فظاعة ورعبًا من الأبويّة في حدّ ذاتها. في مقال في مجلّة «كومباكت»، تقول الكاتبة والأكاديميّة البريطانيّة نينا باور، إنّ النظام الاجتماعيّ الآتي ما بعد الأبويّة هو ليس نظام المساواة والعدالة والتحرّر، بل هو نظام ’الأخ المنافس‘ المشاكس واللئيم.

فإذا كان التحوّل السياسيّ-الاقتصاديّ النيوليبراليّ قائمًا على الانتقال من مرحلة الدولة الرأسماليّة المسؤولة (منذ عهد الصفقة الجديدة ودولة الرفاه) إلى الدولة الرأسماليّة المتهوّرة (الّتي تشكّل عبئًا على الإنسان دون أن تحتضنه)، فإنّنا قد بتنا في حالة انتقال مؤلمة بين الأبويّة المسؤولة (في حقبة تعلّق نظام العائلة بالأرض والريف) إلى الأبويّة المتهوّرة، حيث نستيقظ ونجد أنّ الأب قد بات الأخ المعادي المنافس الّذي يريد سرقتنا والإطاحة بنا.

 

النظام الفوضويّ الأخويّ

 هذا التحوّل يحدث إمّا بقرار من الأب الّذي أنزل ذاته إلى مرتبة الأخ الأكبر الشرّير، وقد تجلّى التحوّل المرعب ذلك عندما ضرب ’لوجان‘ حفيده ’إيفرسون‘ خلال لعبة قائمة على المنافسة بينهما، فبات ليس أخًا بل طفلًا. أو يحدث هذا التحوّل بموت الأب الفعليّ كما حدث بشكل مفاجئ خارج العدسة في الحلقة الثالثة من الموسم الأخير، الّذي كان الحدث الأخير الّذي استكمل تدشين النظام الفوضويّ الأخويّ ما بعد الأبويّ، الّذي أدّى إلى سلسلة من النزاعات والتحالفات بين الإخوة الثلاثة، كيندل ورومان وشيف، حتّى سقطوا هم أنفسهم من على عروش إمبراطوريّتهم.

الأخ المفضّل لديّ في المسلسل، الّذي كان متجهّزًا لمثل هذه الحقبة المظلمة، والّذي أدرك موت أبويّة عائلة ’روي‘ قبل عقود من موت والده بالفعل، هو ’كونور‘ الّذي قرّر أن يعيش حياة مختلفة، وأن يلبّي حاجته النرجسيّة بطرائقه الذاتيّة الغريبة. تبيّن ذلك الإدراك لدى ’كونور‘ عندما قال لإخوته: "ما هو جيّد في أن تكون لديك عائلة لا تحبّك هو أنّك تتعلّم العيش بدونها، أنتم ضعيفون كالإسفنج، توّاقون إلى الحبّ والاهتمام، أمّا أنا فنبتة تنمو على الصخور، وتعتاش على الحشرات الّتي تموت داخلي".

يشكّل «succession» تعرية للمدينة الّتي تقتلنا، وهو تفكيك واضح لطموح النجاح والثراء والقوّة والشهرة، وليس دعوة إلى التمرّد على الأبويّة...

لقد عشت داخل عائلة ’روي‘ - خاصّة بعد وفاة جدّي - والتقيت بعائلة ’روي‘ مئات المرّات في حياتي، التقيت بها محاميًا مع قراءتي في كلّ حصر إرث ووكالة دوريّة أسماء الورثة الإخوة والأخوات والأخوال والعمّات، الّذين يتجهّزون كلّهم للحياة الشرسة ما بعد موت الأب، التقيت بعائلة ’روي‘ في جوّ الطموح الشرس الّذي يسود الطبقة الوسطى، في مجال السياسة والإعلام والتجارة والعقارات، بل حتّى في مجال الناشطيّة الحقوقيّة والفنّ والثقافة.

 

ضدّ الانفتاح النرجسيّ 

بناء على هذا الأساس؛ لم يكن التحليل الحقوقيّ المناهض للأبويّة، الّذي ظهر قبل بضعة أعوام في السياق الفلسطينيّ، كافيًا بالنسبة إليّ؛ ذلك لأنّ علاقات القوّة داخل المجتمع الفلسطينيّ وعائلته المدينيّة، والقرويّة، والعالقة بين الريف والمدينة، كانت أكثر تعقيدًا من إلقاء اللوم على صورة الأبويّ الخياليّة: ذلك الشيخ الملتحي الّذي يقطن في مغارة ما في ريف الضفّة الغربيّة، ويكتب قوانينه العشائريّة الرجعيّة ضدّنا نحن الحداثيّين المتنوّرين المساكين.

بعكس الكثير ممّا سبقه، يشكّل «succession» تعرية للمدينة الّتي تقتلنا، وهو تفكيك واضح لطموح النجاح والثراء والقوّة والشهرة، وليس دعوة إلى التمرّد على الأبويّة، بل دعوة إلى التمرّد على المتمرّدين أنفسهم الّذين قتلوا الأب، فأصبحوا إخوتنا المزعجين، هو دعوة إلى التمرّد على جيل ’الانفتاح‘ النرجسيّ في السبعينات والثمانينات، الّذي فشل في أبويّته فأورثنا هذا العالم بخرابه، ذلك كلّه في سبيل اللحاق بحلم ’حياة الأكابر‘ في مسلسلَي «دالاس» و«Dynasty». 

 


 

فخري الصرداوي

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.

 

 

التعليقات