31/08/2023 - 12:46

مسلسل ’Watchmen‘... أوقفوا العنصريّة، استمرّوا بالاستعمار

مسلسل ’Watchmen‘... أوقفوا العنصريّة، استمرّوا بالاستعمار

 

نشر الفنّان والكاتب الأمريكيّ ألان مور القصّة المصوّرة «Watchmen»، في الحقبة ’التفكيكيّة‘ السوداويّة للقصص المصوّرة في الثمانينات، وذلك بعد صحوة اليمين الدينيّ الغربيّ في حقبة الرئيس الأمريكيّ الأسبق رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانيّة مارغريت تاتشر.

تتحدّث قصّة التاريخ البديل هذه، الّتي تخلط الواقع التاريخيّ بالفانتازيا، عن حادث علميّ يؤدّي إلى تحويل العالم الفيزيائيّ النوويّ ’جوناثان أوسترمان‘ إلى مخلوق خارق يُدْعى ’الدكتور مانهاتن‘، "استعارة إلى القوّة الذرّيّة الأمريكيّة"، الّذي ساعد الأمريكيّين على الفوز في حرب فيتنام، بل احتلالها وضمّها ولايةً أمريكيّة ثانية وخمسين، في ما يؤدّي هذا النصر إلى إعادة انتخاب ريتشارد نيكسون رئيسًا للولايات المتّحدة مرّات عدّة حتّى الثمانينات.

 

الطبقة الوسطة الأمريكيّة الرأسماليّة

في عام 2019، نشرت منصّة «HBO» مسلسلًا بذات العنوان؛ في محاولة لتناول الصحوة اليمينيّة الجديدة العرقيّة البيضاء، بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتّحدة، علمًا أنّ ألان مور عارض هذا التبنّي لروايته.

لا يعيد هذا المسلسل سرد أحداث القصّة المصوّرة بالثمانينات، بل يتناول قصّة على هامش هذا العالم لعائلة ’إيبار‘ الأفريقيّة-الأمريكيّة، الناجية من مجزرة مدينة تولسا في ولاية أوكلاهوما، في العشرينات من القرن العشرين، على يد عصابات الفوقيّة البيضاء، الّتي اقترفت جريمتها بدافع تدمير الطبقة الوسطى الغنيّة السوداء في مدينة تولسا؛ أي أنّ المسلسل منذ بدايته، يحاكي مشاغل الطبقة الوسطى العليا السوداء، وخوفها من فقدان مكانتها في المجتمع الرأسماليّ الأمريكيّ، وليس الطبقة المدقعة السوداء الّتي تعاني تمييزًا مزدوجًا، طبقيًّا وعرقيًّا.

في ردّ فعل على النجاة من المجزرة وما رافقها من صدمات، يحاول آباء هذه العائلة تعويض ما فقدوه واستعادة القوّة في المجتمع العنصريّ الرأسماليّ الأمريكيّ، عن طريق الانضمام إلى واحدة من ثلاث فئات؛ فئة الشرطيّ الأمريكيّ، وفئة الجنديّ الأمريكيّ، وفئة البطل الخارق الأمريكيّ. وإذا أردنا أن نفكّك فئة البطل الخارق في السياق الرأسماليّ، فهو صاحب الموهبة الطبيعيّة الّتي تجعله قويًّا مشهورًا ومحبوبًا وصاعدًا في الطبقات الاجتماعيّة، كالفنّان والإعلاميّ والرياديّ والعبقريّ والرياضيّ والملياردير.

الإشكاليّة في المسلسل تكمن في أنّه لا يفكّك وينتقد ردّات فعل العائلة، بل يباركها ويشجّعها، وكأنّ المسلسل يقول: العودة إلى الطبقة الوسطى الأمريكيّة دائمًا مفتوحة، طالما يتوافق فلا يشكّل هذا الانفتاح تهديدًا للمنظومة بأسرها.

 

 

الآخر الشرّير

يلتحق الجيل الثاني من عائلة ’إيبار‘ بالجيش الأمريكيّ، ومن ثَمّ يذهبون في حقبة السبعينات، مستوطنين، إلى المستعمرة الفيتناميّة، ويقطنون هناك إلى أن يقتل المنتقمون الفيتناميّون معظم أفراد العائلة. يتعمّد المسلسل مساواة المجزرة العنصريّة البيضاء قبل عقود بالعمليّة الّتي يقوم بها الفيتناميّون، فيصبح الآخر الفيتناميّ الرافض للحكم الأمريكيّ شرّيرًا بقدر الآخر العنصريّ الأبيض الأمريكيّ في السياق المحلّيّ. ليس فقط العنصريّة البيضاء الّتي تهدّد بإخراج الأفريقيّ الأمريكيّ من طبقته الوسطى، بل ذلك العالم الشموليّ الخطير الموجود خارج أمريكا ’الحرّة‘.

’أنجيلا إيبار‘، ابنة الجيل الثالث المتبقّية من العائلة، هي الشخصيّة الرئيسيّة في المسلسل، تتعاون مع الشرطة الاستعماريّة في فيتنام لإيجاد قاتل عائلتها، وتوافق على إعدامه خارج القانون، بل تطلب منهم أن تشهد على إعدامه. بعد ذلك، يقرّر أحد أفراد الشرطة الّذين نفّذوا الإعدام تجهيز ’أنجيلا‘ وتدريبها عندما تكبر؛ كي تصبح شرطيّة في المستعمرة الأمريكيّة في فيتنام.

مرّة أخرى، لا يفكّك المسلسل خيارات الشخصيّة الرئيسيّة، بل يهنّئها على قراراتها، ويكافئها على تلك الخيارات؛ بأن تتعرّف على ’الدكتور مانهاتن‘ في حدّ ذاته، الّذي يقرّر التقاعد كبطل خارق، والزواج منها. وكأنّ المسلسل يقول: إذا اخترت لك حياة تسلّق وظيفيّ في المؤسّسة الأمريكيّة، فلربّما تصبح رئيسًا يملك مفاتيح ترسانتها النوويّة، مهما كانت أصولك العرقيّة.

في حقبة ما بعد الألفيّة، تعود ’أنجيلا‘ مع زوجها إلى تولسا، مدينتها الأصليّة بعد تولّي الديمقراطيّين السيطرة على المؤسّسة الأمريكيّة، وإصدارهم قوانين لتعويض ضحايا المجازر العنصريّة. هنالك، تكمل عملها شرطيّة في الصباح، ومحارِبة سرّيّة للجريمة في المساء، وتحيا حياة مريحة في ضاحية للطبقة الوسطى. إلّا أنّها تصبح هدفًا لتهديدات من قِبَل ’الآخر‘ المحلّيّ الجديد؛ جماعة من المتطرّفين البيض من ناحية، والآخر الأجنبيّ الجديد؛ امرأة أعمال مليارديرة آسيويّة ’فيتناميّة‘ الأصول. بل إنّ المسلسل لا يألو جهدًا في استظهارها امرأة أعمال قاسية، تشتري ممتلكات وأراضي الأمريكيّين البيض ’المساكين‘.

كلّ هؤلاء الأشرار الّذين يهدّدون بغزو ضاحية الطبقة الوسطى الأمريكيّة، يهدفون إلى شيء واحد؛ استخلاص قوّة زوج ’أنجيلا إيبار‘، ’الدكتور مانهاتن‘؛ من أجل السيطرة على الولايات المتّحدة والعالم. المتطرّفون البيض يريدون استعادة أمريكا البيضاء، وامرأة الأعمال الآسيويّة تريد القوّة الكافية لإقامة حكم شموليّ؛ من أجل ما تراه الخير الجماعيّ للبشريّة. في النهاية، يفشل الطرفان وتفوز ’أنجيلا‘ المواطنة الأمريكيّة المعتدلة المطيعة صديقة المؤسّسة، الّتي لا تؤمن بالحلول والنظريّات الراديكاليّة.

 

بطولة سوداء

هذا المسلسل، وإن كان شديد الإرباك من الناحية المعرفيّة، هو قطعة أثريّة ثقافيّة تعيننا على دراسة الزمن الّذي صدر فيه؛ فترة الهستيريا الجماعيّة من قِبَل الطبقة الوسطى الليبراليّة الأمريكيّة، في ردّ فعلها على انتخاب دونالد ترامب.

هذه الهستيريا الجماعيّة وقعت في تناقض الحديث المتكرّر عن العرق والجندر، مع الإصرار على فصلهما، في ذات الوقت، عن مسألة الاستغلال الطبقيّ والاستعمار والمؤسّسة الإمبرياليّة. والدافع من وراء هذا الفصل كان محافظًا وانعزاليًّا ورجعيًّا؛ إذ تمثّل بالعودة إلى زمن كانت فيه الولايات المتّحدة أجمل، أي زمن الإدارة النيوليبراليّة للرئيس باراك أوباما.

ليست صدفة أن يقرّر ’الدكتور مانهاتن‘، الأمريكيّ ذو الأصول الألمانيّة-اليهوديّة، أن يستخدم قواه الخارقة لكي يتنكّر في مظهر رجل أفريقيّ؛ لكي يتقاعد مع زوجته في ضاحية الطبقة الوسطى. هذه دلالة تحوّلات في الطبقة الحاكمة الأمريكيّة، والجيل الثالث من عائلة ’إيبار‘، يشبه إلى حدّ بعيد عائلة ’أوباما‘ - المثال النموذجيّ الّذي يُحْتَذى به للعائلة الأفريقيّة الأمريكيّة.

أمّا المستوطنة الخياليّة المتعدّدة الأعراق والجندريّات، في فيتنام المتخيّلة في الرواية والمسلسل، والحقيقيّة في غيرها على أرض الواقع، فهي تمثيل لما يُسَمّى بالإمبراطوريّة المُعَوْلَمَة الأمريكيّة، الّتي تعطي غطاء أمميًّا حقوقيًّا لمجمّع الصناعة العسكريّة، الّذي لا يؤدّي فحسب إلى تدمير حياة الآخرين حول العالم، بل تدمير حياة الأمريكيّين القاطنين خارج ضاحية الطبقة الوسطى في حدّ ذاتهم.

 

استعمارٌ لا بأس به

يثبت المسلسل بشكل لاعقلانيّ أنّه بإمكانك أن تتظاهر بجذريّة مناهضة التمييز العنصريّ والجندريّ محلّيًّا، بينما يُعاد إنتاج علاقات الاستغلال عالميًّا. هذه المحلّيّة الانعزاليّة هي نقيض الأمميّة الّتي أنتجت أبطالًا وبطلات سودًا حقيقيّين في الغرب، ناهضوا وناهضن الغزو الإيطاليّ الفاشيّ لأثيوبيا، وحاربوا وحاربن إلى جانب الأفريقيّين الجنوبيّين ضدّ الاستعمار والفصل العنصريّ. والأهمّ من ذلك كلّه، أنّ هؤلاء لم يأتوا على ظهر حاملة الطائرات النوويّة، بل كانوا على الطرف الآخر من فوّهة البندقيّة، عندما اقتحموا مواقع التجارب النوويّة الاستعماريّة في الجزائر؛ من أجل الاحتجاج ضدّها ووقفها.

يثبت المسلسل بشكل لاعقلانيّ أنّه بإمكانك أن تتظاهر بجذريّة مناهضة التمييز العنصريّ والجندريّ محلّيًّا، بينما يُعاد إنتاج علاقات الاستغلال عالميًّا...

إذا كان ’الدكتور مانهاتن‘ في المسلسل قد عثر على المعنى؛ عن طريق الوقوع في الحبّ في سياق الطبقة الوسطى الأمريكيّة، فهو في قصّة ألان مور المصوّرة، يفقد اهتمامه بالإنسانيّة والعالم، ويذهب للعيش في الفضاء ساخرًا من الكون والوجوديّة. هنا، تمثّل شخصيّة ’الدكتور مانهاتن‘، أبيضَ كان أو أسودَ أو أزرقَ، ما تحدّث عنه خالد عودة الله، حين قال إنّ "فلسفات ما بعد الحداثة بقدرتها التفكيكيّة الهائلة، ما هي إلّا الوجه الآخر لأسلحة الدمار الشامل عند القوى الاستعماريّة؛ فلا يضير متفلسفًا، أفرنسيًّا كان أم ألمانيًّا أم أمريكيًّا، أن ينظر إلى ما بعد الحداثة وانتهاء اليقين والحقيقة، ما دام يتفلسف في ظلّ دولة تحميه، بطائراتها المقاتلة وبارجاتها الحربيّة".

من المذهل هنا كيف تتشابه الحالة الاستعماريّة في هذا المسلسل، مع الحال الفلسطينيّ اليوم في القرن الحادي والعشرين؛ إذ لم نَعُدْ بمواجهة المستعمَرة العسكريّة التقليديّة للأوروبّيّ الأشكنازيّ الأبيض فحسب، كما كان الأمر حتّى نهاية الستّينات، بل أصبحنا في مواجهة المستعمَرة النوويّة ذات الحواجز العسكريّة للجنديّ الأثيوبيّ، ووعود «الحزب الشيوعيّ»، وناشطيّة النسويّة الإسرائيليّة، ومسيرات الفخر الكوزموبولتيانيّة، ومظاهرات إنقاذ ’الديمقراطيّة‘.

 


 

فخري الصرداوي

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.

 

 

التعليقات