05/09/2023 - 12:21

’أوبنهايمر‘... الفيزيائيّ مدمّر العوالِم

’أوبنهايمر‘... الفيزيائيّ مدمّر العوالِم

كيليان ميرفي في دور عالم الفيزياء الأمريكيّ أوبنهايمر، من فيلم «أوبنهايمر» (2023)

 

لصناعة فيلم سينما عن لحظة ملحميّة بتاريخ البشريّة الحديث، لا بدّ من الاستناد إلى عناصر فنّيّة وجماليّة مغايرة للسرد المعتاد في توثيق هذه اللحظة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الرهان في مثل هذه الأفلام لا يكون على القصّة ذاتها أو أبطالها فقط، بل على كيفيّة سرد هذه اللحظة أو كيفيّة صناعتها. هكذا يبدو كريستوفر نولان؛ المخرج السينمائيّ المنحاز دومًا نحو صناعة صورة سينمائيّة تأتي من عالم داخليّ، يحاور العلم والجمال - أو الفنّ - في صيغة غير تقليديّة؛ فينطلق في فيلمه الجديد «أوبنهايمر» (2023) من جماليّات مختلفة تعتمد على عناصر تقليديّة؛ ليأتي بصورة غير تقليديّة للملحمة؛ إذ يتحدّث الفيلم الجديد، من كتابته وإخراجه، عن سيرة عالم الفيزياء النظريّة الأمريكيّ جي روبرت أوبنهايمر، بالاعتماد على كتاب السيرة الذاتيّة «بروميثيوس الأمريكيّ» (2005)، الحاصل على جائزة «بوليتزر»، للكاتبين كاي بيرد ومارتن ج. شيروين، وعن لحظة اختراع القنبلة الذرّيّة، وما تلاها من نهاية العهد القديم للحروب.

 

مجموع أجزاء العالِم

في محاولة فهم هذه المحاولة الإبداعيّة، يمكن العودة إلى الحوار الأخير الّذي أجراه كاتب «نيويورك تايمز» دينيس أوفرباي، بعد أيّام قليلة من عرض الفيلم الجديد لأوّل مرّة؛ إذ يتحدّث نولان فيه عن صناعة الفيلم، وعن الأسلوب الفنّيّ المتّبع فيه، مصرّحًا باختياره عرض قصّة هذا العالِم الفيزيائيّ عبر اختيار ثيمة واحدة، يمكن الاشتغال عليها في الفيلم "ليكون مجموع الفيلم أكبر من مجموع أجزائه"، أو بصورة أخرى؛ لتكون مكوّنات هذه الشخصيّة أكبر من مجموع أجزائها، أي أكبر من العالِم نفسه؛ الأمر الّذي يمنح هذه الشخصيّة بُعْدَها التراجيديّ والدراميّ المستحقّ.

 

 

يتجلّى التحدّي في صناعة هذا النوع من الأفلام السيريّة التوثيقيّة في أمرين واضحين: الأوّل أنّ القصّة معروفة ومدروسة، وقد عُمِلَ عليها في وسائط مختلفة. والثاني في أنّ هذه اللحظة الإشكاليّة هي معضلة أخلاقيّة، قد تفترض من صنّاعها انحيازًا معيّنًا قبل البدء في طرحها؛ فكيف يمكن لصانع الفيلم أن يقف على حياد الأخلاق - أو الفلسفة الأخلاقيّة - في طرحه لقضيّة شائكة، كانت يمكن أن تودي بالبشريّة كلّها ذات يوم؟

 

بروميثيوس الأمريكيّ 

جاء فيلم نولان في ثلاث ساعات مكثّفة، طوّع فيها العِلْم أداة جماليّة لإنتاج الصورة؛ فانطلق في هذا الفيلم من فهمه لفيزياء الكمّ نحو إنتاج صورة مختلفة. وما أعنيه بذلك، هو ما يمكن للمشاهد ملاحظته من حركيّة المشاهد في الفيلم، حيث اعتمد على مشاهد انشطاريّة (ذرّيّة، إن صحّ التعبير)، تتوالد من بعضها بعضًا بسرعة عالية، وبحوارات قصيرة ومكثّفة، وصخب لونيّ وصوتيّ بتواتر عالٍ، يجعل المشاهد داخل مفاعل كيميائيّ، معتمدًا على موسيقى من إنتاج لودفيغ غورانسون، كمسدّس عليّ يُطْلَقُ على النواة (الصورة/ المشهد) ليفجّرها ويحفّزها على الانشطار؛ مولّدًا بذلك طاقة مشهديّة عالية. وممّا يستحقّ الذكر أن يتمكّن الفيلم من الحديث عن قنبلة ذرّيّة دون أن يكون ثمّة صوت انفجار عنيف مباشر، وإنّما عبر سلسلة تفاعلات انشطاريّة بين المشاهد والصورة.

من جهة أخرى، استند الفيلم في صناعته للملحمة على لحظتين أدبيّتين عالميّتين؛ ليبدأ من اقتباسه المباشر لقصّة بروميثيوس من الميثولوجيا الإغريقيّة؛ مقاربًا بها لحظة الإله الأسطوريّ ’بروميثيوس‘؛ منقذ البشريّة الّذي مَنَّ عليها بهديّة النار المسروقة من الأولِمْب، بلحظة صناعة القنبلة الذرّيّة، وإنهاء الحرب العالميّة الثانية بمأساة ناغاتزاكي وهيروشيما. وفي ذلك إشارة إلى نقطة انطلاقه في العمل على الفيلم من كتاب «بروميثيوس الأمريكيّ»، السابق الذكر، وإشارة أخرى إلى أهمّيّة التناصّ مع الملحمة لصناعة بطل تراجيديّ بقضيّة إشكاليّة كهذه.

 

مدمّر العوالِم كلّها

اللحظة الأدبيّة الثانية الّتي سينسج منها نولان جماليّات جديدة، فهي الاقتباس المباشر من الكتاب الهندوسيّ المقدّس «البهاغافاد غيتا» أو «نشيد الإله»، حين يصبح العالِم ملكًا للموت، ومدمّرًا للعوالم كلّها. ليس هذا الإسقاط إسقاطًا ارتجاليًّا، بل يعتمد على شخصيّة العالِم الّذي درس السنسكريتيّة، واهتمّ بعوالمها الأدبيّة المتجلّية في ملحمة الهند «المهابهارتا»، الّتي تتضمّن «نشيد الإله». ولفهم هذا الاقتباس الهندوسيّ؛ يمكن العودة إلى القصّة في ذلك النشيد، حيث يحاور كْرِيشْنا ’الإله‘، الملكَ المحارب أرْجونا، بطل ملحمة «المهابهاراتا»، عبر هذا النشيد؛ في سبيل إقناعه بضرورة خوض الحرب، وبأنّ الموت الّذي ستجلبه سيكون عدلًا وضرورة ملحّة.

لا يبرّر نولان للعالِم الفيزيائيّ فعلته، أو للأمريكيّين قنابلهم الذرّيّة، لكنّه يؤكّد ملحميّة هذه اللحظة البشريّة، وصعوبة فلسفتها الأخلاقيّة، بل يستعرضها لنا معلنًا بشكل مباشر مراجعه ونقاط استناده الفنّيّة؛ ليكون للمشاهد أن يسأل عن هذه اللحظة ويحاسبها؛ وهو ما يظهر في حوار أوبنهايمر مع زوجته وآينشتاين في موضعين مختلفين؛ فلا يبدو المذنب مذنبًا ولا يبدو بريئًا؛ إنّما نعيش معه المعضلة.


 

في كلتا اللحظتين الأدبيّتين، يعلن نولان رؤيته للفنّ من خلال اعتماده على أدب ’السرديّة التخييليّة‘ في صناعته؛ ليمنح فيلمه ما يستحقّه من عمق إنسانيّ وجماليّ عبر شعريّة الملحمة؛ متّخذًا ممّا هو شخصيّ في حياة البطل ليكون محورًا للملحمة. ذلك ما يفعله الأدب، أو ما فعلته النصوص التأسيسيّة الملحميّة في مختلف اللغات والثقافات.

 

 

أسئلة كبيرة

في هذا الدرس الجماليّ الّذي يقدّمه نولان في صناعة القصّة، أو الملحمة؛ عبر مشاهده المأخوذة من صلب نوع القصّة - أي مبنيّة بأسلوب ذرّيّ يشبه التفاعل النوويّ الّذي يتحدّث عنه - والألوان الصاخبة القادرة على إبراز الصراع الأخلاقيّ، وحواراته السريعة، واستناده المباشر إلى الأدب في صناعة الصورة، بهذه العناصر كلّها لا يمنح نولان الأيديولوجيا - أو الحكم الأخلاقيّ - المكانة الأساسيّة في تقديم القصّة، بل يعرضها كمَنْ يفتح صندوقًا قديمًا لتابوت الحقيقة من جهات مختلفة؛ فيقدّم لنا ما وصفه الفيلسوف والمفكّر الأمريكيّ مايكل ساندل - المهتمّ بأخلاقيّات العدل وممارساته في العلم - مفهوم الطموح البروميثيّ، الّذي ينشغل العلم فيه لتحسين حياة البشر من جهة، وتغييرها إلى الأبد من جهة أخرى، ولا يفعل ذلك إلّا باستخدام أدوات القصّة نفسها، وبمحاورة فيزياء الكمّ، وقوانينها.

فمثلما لا يمكننا وفقًا لقوانين الكمّ، ومنها مبدأ اللايقين للعالم الألمانيّ هايزنبرغ، أن نعرف خاصّيّتين من خواصّ جسيمات كمّوميّة كسرعتها ومواقعها في آن واحد، كذلك لا يمكننا أن نفهم الغاية الأخلاقيّة، ومحاكمة المتورّطين فيها من جهة، وأن نسرد هذه الملحمة في آن واحد من جهة أخرى. لذلك؛ سيترك المخرج لمشاهده أسئلة كبيرة تريد أن تعرف كيف لنا أن نسامح أو نبرّر للمجرمين الّذين صنعوا، ويصنعون، الحروب إلى يومنا هذا؟

 


 

موفّق الحجّار

 

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».

 

 

 

التعليقات