11/03/2017 - 21:13

شبح المادية: الصراعات القادمة من الأسفل

منذ صدوره في عام 2013، أحدث كتاب فيفيك تشيبر "النظرية ما بعد الكولونيالية وشبح رأس المال" العديد من النقاشات في الأوساط البحثية، إذ يقدم المجلد الجديد "الجدل حول كتاب النظرية ما بعد الكولونيالية وشبح رأس المال" بعضاً من هذه النقاشات الجدل

شبح المادية: الصراعات القادمة من الأسفل

ترجمة خاصة: عرب 48

منذ صدوره في عام 2013، أحدث كتاب فيفيك تشيبر 'النظرية ما بعد الكولونيالية وشبح رأس المال' العديد من النقاشات في الأوساط البحثية، إذ يقدم المجلد الجديد 'الجدل حول كتاب النظرية ما بعد الكولونيالية وشبح رأس المال' بعضاً من هذه النقاشات الجدلية.

يهدف كتاب تشيبر إلى الكشف عن الثغرات النظرية والواقعية ضمن 'دراسات التابع  subaltern studies'، وهي إحدى أهم المساحات البحثية في النظرية ما بعد الكولونيالية. ومن خلال ذلك، يتحدى تشيبر الافتراض الأساسي في نظرية ما بعد الكولونيالية القائم على اعتبار الغرب والشرق مختلفين بشكل كامل، وما ينبني على ذلك من التعامل مع النظريات التي نشأت في الغرب – كالماركسية مثلاً – كنظريات لا يمكن تطبيقها في كل العالم.

يجد تشيبر ثلاثة محاججات على الأقل في أدبيات 'دراسات التابع' تدعم هذا الافتراض، أولى هذه المحاججات هي القول بوجود اختلاف ظاهري في الاستراتيجيات التي تتبناها الطبقات، وأعني هنا البرجوازية، في كسب وتحقيق السلطة. حيث يفترض رواد تلك النظرية أن البرجوازية في أوروبا قد سيطرت مع وجود حالة من التراضي، بينما اعتمد الأمر في الهند على الإكراه.

وتنبع المحاججة الثانية من الأولى، وهي أنّ الرأسمالية تتشكل بطريقة مختلفة بناء على طريقة حكم البرجوازية. ففي أوروبا، قامت الرأسمالية بتغيير كافة العلاقات الاجتماعية بحسب فلسفتها، في حين أبقت الرأسمالية في الهند على بُنى سابقة عليها.

وتدور المحاججة الثالثة على ادعاء وجود اختلاف في التركيبة النفسية للفاعلين الاجتماعيين، حيث يمتلك الفلاحون والعمال في أوروبا 'وعياً برجوازياً' يجعلهم شديدي الحساسية تجاه مصالحهم المادية؛ في حين لا يظهر مثل هذا الوعي في الهند، بمعنى أن الهنود لا يُقلِقون أنفسهم بمصالحهم في سياق القضايا الاقتصادية والسياسية بشكل خاص.

يحاجج تشيبر وبقوة ضد هذه الافتراضات أو المحاججات الثلاث القائمة في دراسات التابع.

فيفيك تشيبر

يذكرنا تشيبر ابتداءً، أن الاعتقاد أن الرأسمالية كانت تتضمن مبادئ الديمقراطية ثم نالت قبول الجماهير ما هو إلا خرافة، ففي معظم نظريات الرأسمالية – في أوروبا أو خارجها – كان التراضي والقبول أمراً غائباً تماماً، فالمؤسسات الديمقراطية جاءت فقط من الصراعات القادمة من الأسفل، لا بفضل الطبقات المتنورة الرأسمالية.

ثانياً، أنه في حين تشير دراسات التابع ونظريات الاختلاف الأخرى بشكل صحيح إلى كون الرأسمالية لم تظهر بشكل واحد عبر العالم، إلا أن تشيبر يُؤكّد أن الماركسية لا تنكر هذه الحقيقة.

فعندما يدعي الماركسيون أن أدواتهم المفاهيمية تنطبق على مختلف تمظهرات الرأسمالية في العالم، فإنهم يشددون على مجموعة أساسية من الخصائص التي تنطبق على أي مجتمع رأس مالي، مثل دافع الربح وأجرة العمل والتنافس. كيف تتمظهر هذه الخصائص أو ما هي الديناميكيات الاجتماعية والثقافية التي ترافقها وتحافظ على استمرارها؛ هذه الأسئلة غائبة عن وعي النظرية الماركسية.

وأخيراً، يوظِّف تشيبر دلائل من المدونة التاريخية لدراسات التابع لينقد من خلالها افتراض أن البشر لا يكترثون لمصالحهم المادية إلا إذا نشؤوا على المعايير الغربية بشكل صحيح. إن الفلاحين والعمال الهنود يمتلكون تصوراً واضحاً عن المخاطر والتكاليف المرتبطة بالنشاط الجماعي بنفس الدرجة الموجودة عند نظرائهم الفرنسيين والإنجليز. وفي الحقيقة، يختلق رواد دراسات التابع جهلاً استشراقياً من خلال تصوير الفاعلين الشرقييين وكأنهم ذوو طبيعة مغايرة ومختلفة تماماً عن الغربيين.

ولكن نقد تشيبر لدراسات التابع يتصل أيضاً وبشكل مفيد بعدد من الجدليات المعاصرة في علم الاجتماع والاجتماع التاريخية والدراسات الثقافية والمساحات البحثية ذات الصلة. وهو أمر مهم فيما يتعلق بتطوير نظرية ماركسية اجتماعية معاصرة وغير متزمتة ومجابهة للنزعة الثقافوية الرائجة والمبالغ بها – سواءً تجلت بنظريات ما بعد البنيوية أو ما بعد الماركسية أو، ويا للسخرية، في بعض المدارس المادية الجديدة.

من خلال إعادة ترتيب النظرية الماركسية مع جذورها المادية، يضع تشيبر السلوك الإنساني لا في مركز الرأسمالية فحسب، بل في قلب المقاومة.

أي نوعٍ من المادية؟

كارل ماركس

افتخرت الماركسية بنفسها منذ البدايات باعتبارها تتبنى المادية بشكل كامل، والتي تطورت من خلال المعارضة القوية للتنويعات المختلفة للمادية مثل الفردانية المنهجية واللاتاريخية – والتي توصف عادة بالابتذال وبضعفها واختزاليتها ونزعتها التأملية وميكانيكيتها الصارمة. وبالرغم من رفض ماركس لهذه المدارس، إلا أنه قدم نظرية مادية واعية بذاتها، كالمادية التاريخية.

من بين أشياء أخرى كثيرة، هذا يعني أن الماركسية تصوِّر البشر ككائنات تتحصل على وعي وجسد؛ وأن وعي البشر متضمن فيهم بشكل أساسي. هذا هي السمات التي تميز التكوين البشري؛ القدرة على الوعي الذاتي، والقصدية، والتفاعل، والعقلانية، وذلك بالإضافة للحاجات المادية والنشاطات المعنوية والاستقلالية الشخصية.

باختصار، ما تعنيه المادية في النظرية المادية التاريخية أن للطبيعة دوراً أساسياً بالإضافة إلى الظروف التاريخية، والبنى الاجتماعية التي تمكِّن وتمنع وتحفز النشاط البشري.

إن التوازن الذي حققته الماركسية بين المذهب الطبيعي الكلي والبراديغم التاريخي قد فقد أجزءاً كبيرة منه في النصف الثاني من القرن العشرين، فكما يشير سيبستيانو تيمبانارو في عام 1966، 'يمكن القول أن الخاصية الوحيدة المشتركة بين جميع التنويعات على النظرية الماركسية في الغرب هي – مع استثناءات بسيطة – سعيها الحثيث للدفاع عن نفسها ضد اتهامات الماديين. ماركسية غرامشي و بالميرو تولياتي، والماركسيين الهيجليين- الوجوديين، والماركسية الوضعية الجديدة، والماركسية الفرويدية أو البنيوية، بالرغم من الخلافات العميقة بينها والتي تجعلها في حالة انقسام، إلا أنها تشترك في رفضها التورط بنزعة مادية 'تقليدية' أو 'ميكانيكية'؛ وهي تقوم بذلك بحماسة تزدري النزعة المادية؛ بسبب تقليديّتها وآليّتها'.

يمكن أن نرصد ظاهرتين على الأقل تعبران عن هذا التحول، الأولى هي أن معظم التنويعات على الماركسية تحاول بصعوبة أن تنأى نفسها عن المادية الستالينية التقليدية، والثانية – وربما الأهم – هي محاولة العديد من المفكرين النزوع نحو مباحث اللسانيات والثقافة في الأطر الأكاديمية.

انتشر في فترة ما بعد الحرب العالميّة انتقاد بارز ضد الماركسية. ويمكن الانتقاد في أنّ الماركسيّة تجعل من الثقافة والبنى الفوقية مجرد غطاء لحماية عجلة الإنتاج الاقتصادية – باعتبارها أهم المجالات الاجتماعية. وكنتيجة لذلك، كانت معظم التنويعات الجديدة على الماركسية تحاول تصحيح أي تعامل غير مناسب مع المجال الاقتصادي الاجتماعي، إما من خلال رفضها بالكامل أو التعديل على مقولات البنى الفوقية.

على الرغم من أنّ مفاهيم مثل الثقافة، والخطاب، والسياسة، والأيدولوجيا، والهيمنة، والنوع الاجتماعي (الجنس)، والعرق كانت مهمّة دوماً بالنسبة للماديّة التاريخيّة، فإنّها في تلك الحقبة أصبح شعارات للماركسيّة. اتكأت الماركسية كثيراً على الاتجاه الثقافي الذي بدأ يعزل نفسه بشكل تام ساحباً الدراسات الثقافية من يد النزعة المادية. مرة أخرى يعود تيمبانارو في عام ١٩٦٦ ليصور لنا هذا النزوع الجديد:

'ما تفعله الماركسية المعاصرة اليوم يشبه كثيراً ما يقوم به شخص يسكن الطابق الأول في عمارة، ثم يذهب للمستأجر في الطابق الثاني ليقول له: 'هل تظن أنك مستقل؟ وأنك تدعم نفسك بنفسك؟ أنت مخطئ! إن شقتك صامدة في مكانها فقط بسب استنادها على شقتي، وإذا انهارت شقتي فستنهار شقتك أيضاً'؛ فيرد عليه المستأجر ليقول: 'ما الذي تحاول قوله؟ أنني أعتمد عليك وتسندني؟ ما هذا الوهم الذي تتحدث عنه! إن الطابق الأول موجود فقط لأن الطابق الأرضي يسند شقتك، وإذا أردت الحديث بصراحة، الطابق الأرضي الحقيقي هو الطابق الأول، وشقتك ما هي إلا مجرد قبو أو سرداب، حيث لا وجود حقيقي لها.' في الحقيقة، يمكن ملاحظة علاقة بين الماركسية وبين المستأجر في الطابق الثاني في كثير من الأحيان، لا بسبب أن المستأجر يعرف 'استقلاليته'، ولكن لأن الماركسية قللت من قيمة ادعاءاته، وأثبتت أن الطابق الثاني مستقل بشكل كبير عن الأول، أو أن كلا الطابقين 'يدعمان بعضهما البعض'. ولكن الازدراء الموجه لساكن الطابق الأرضي أصبح واضحاً بشكل كبير.

يمكن أن نجد مثل هذا ' الازدراء الموجه لساكن الطابق الأرضي' في ميل رواد الماركسية والنظرية الاجتماعية النقدية لرفض وإقصاء علم الأحياء والنظرية المادية من أطرهم التحليلية.

تعمل ديانا كولي وسمانثا فروست على تقديم مجموعة من المقالات في 'المادية الجديدة' من خلال وصف ' كسوف المادية في النظريات المعاصرة' والتوجه نحو 'الدراسات الثقافية التي تركز على اللغة والخطاب والثقافة والقيم.' وبشكل محدد، يلاحظ كيران دوركين في كتابه عن إريك فروم عام ٢٠١٤ أن 'الحديث عن الطبيعة البشرية أو جوهر الإنسان قد أصبح ينظر إليه كأمر مخجل اليوم،' كما لو أنّه مرتبط بمشروع علم الاجتماع الحيوي.

ويشترك في هذا الاعتقاد العديد من العلماء المؤثرين من ريتشارد رورتي وكليفورد غريتز وحتى ستيورات هول وجوديث بتلر وميشيل فوكو وغيرهم من الباحثين. يكتب هول – استناداً على فوكو – أنه ينبغي تعريف الجسد الإنساني كـ'جسد مرن توافقي بشكل لا نهائي'. وبالتالي وكما يستنتج تلامذة 'فوكو ودولوز وإيرجاري،' فإننا نتجه نحو 'رفض جميع أشكال الكونية، بما في ذلك التنويعات الاجتماعية'.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو

ولكن هذا الخطأ غير الموفق – كما تشير لينا جونارسون – لم يعمل إلا على تدعيم المنطق القائم خلف علم الاجتماع الحيوي، 'بالرغم من أنّه يبدو أن هدف إنكار علاقة البعد البيولوجي بالشؤون الاجتماعية هو وضع آخر مسمار في نعش الحتمية البيولوجية، إلا أن هذا يعتمد على تصور حتمي للبيولوجيا. إن السعي لتجنب الحتمية البيولوجية من خلال تجنب البيولوجيا ذاتها لا يؤثر سلباً على مدرسة علم الاجتماع الحيوي التي تقوم على أنه إذا ما تم إقرار وجود أساس بيولوجي وظيفي في الإنسان، فهذا يعني الحكم على حتمية السلوك الإنساني...  هذا الموقف الراديكالي يبدو أنه يعارض الحتمية البيولوجية لدرجة كبيرة، ولكنها تنشأ على تخوم موضوعات ومسائل هذه الأخيرة، ولكن بطريقة معاكسة. ما يتصف به كلا الطرفان هو الاختزالية، فبقدر ما يكون واقع الأشياء متشابكاً بين أبعاد بيولوجية واجتماعية، فإنه يتم اختزال المسألة إلى حالة حتمية بيولوجية أو اجتماعية'.

يكشف تشيبر ببراعة الإزدراءات غير المبررة للمادية والبنيوية المفرطة في الفصلين السابع والثامن من كتابه. ومع ذلك يظهر هذا الميل في العديد من الانتقادات التي وجهت له منذ صدور الكتاب.

العقلانية في ظل الرأسمالية

يشير تشيبر في كتابه إلى المآزق الكامنة في التحليل المادي، فالتأكيد على وعي وعقلانية الفاعلين الاجتماعيين وإثبات دور المصالح المادية في تحقيق الدافعية لبعض جوانب نشاطاتها، كل ذلك قد يؤول إلى مآلات سيئة بعدة طرق: إذا ما صورت الفاعلين ككائنات نفعية أو – وهو الأسوأ – كائنات متمركزة حول ذاتها؛ إذا أنكرت دور السلوك الاعتيادي والتكراري؛ إذا ما أنكرت أن معظم أشكال النشاط الإنساني – إن لم يكن كله – تتوسطه الثقافة، ويتضمن معانٍ اجتماعية، ويعبر عن نفسه بتنوع وفي أوضاع مختلفة؛ إذا ما أنكرت أن جوانب كثيرة من حياة الإنسان تتأسس من خلال الثقافة؛ إذا ما أسقطت من حسابها السلوك اللا عقلاني، أو حتى النظام اللا عقلاني، الذي يكون موجوداً في فضاءات محددة في الحياة؛ وهكذا.

بعد توضيح هذه المزالق، يوظف الكاتب دلائل تاريخية مستقاة من نظرية التابع ليشرح موضوعه المتعلق بالنزعة المادية. وعلى عكس التأكيدات المبسَّطة لأهم رائدين في دراسات التابع، وهما بارثا تشاترجي وديبيش شاكرابارتي، تظهر هذه الدلائل أنه عندما تتعرض استقلالية الأفراد وراحتهم النفسية للخطر، فإنه يقدرون على إدراك ما يحدث، بغض النظر عن العلاقة الثقافية المتعلقة بالوعي الأوروبي أو الوعي البرجوازي.

يتلخص موقف تشيبر الدفاعي عن المادية في بدهية مفادها: أنه عندما يواجه الأفراد ظروفاً ضاغطة، فإنهم يدركون واقعهم ولا ينسجمون معه.

وهذا لا يعني بالطبع أن المُستَغلّين سيندفعون تلقائياً إلى الانخراط في صراع فعلي، لأن رفض الاستغلال والاندفاع لمجابهته أمران مختلفان، صحيح أن الأول يجب أن يأتي قبل الثاني، ولكن السلوك الاجتماعي يعتمد على عوامل أخرى إلى جانب تجربة وإدراك واقع الاستغلال.

الصراع الفعَّال يحتاج إلى مصادر مادية وغير مادية كافية لحمل الحراك الاجتماعي؛ فالحراك يواجه مخاطر جسيمة ولا بدّ من موازنة هذه المخاطر مع فرص النجاح؛ كما ينبغي أن يولد التضامن أو الهوية الثقافية المشتركة بين المُستَغلّين والمستضعفين. ومن الضروريّ الإشارة أن هذه العوامل ذات صلة حقيقية بمصالح الأفراد وعقلانيتهم.

لا تتفق بعض انتقادات تشيبر مع هذه النقطة. يطلق عليها ويليام سيويل 'العقلانوية' و'هي قريبة جداً من نظرية الخيار العقلاني، كتلك التي يتبناها بروس روبينز وستين سندستول إركسون. بالنسبة لسيويل، فإن ماركسية تشيبر تفتقد لـ'الحساسية الثقافية'.

ينظر جوليان مورفيت بتشكك لفكرة تشيبر عن 'كون الفرد يمحِّص مصالحه ليتخذ قرارات حول وجوده'. يخطو جورج ستينميتز خطوة أبعد ويدّعي أن 'تشيبر يدافع بشكل ضمني عن تصور غير واقعي عن الإنسان باعتباره كائناً عقلانياً.' وأثناء استضافة محطة الراديو السلوفيني لتشيبر، وجه المذيع له سؤالاً ناقداً (بالرغم من كونه مبهماً) حول نقطة مشابهة:

'إن اختزال الإنسان إلى تكوينه الطبيعي المحض يخلق حياة مجردة، مما يعني أنها لا يمكن أن تولِّد تغيراً اجتماعي لأنها فصِلَت عن المجتمع. لا يمكن للحياة المجردة – والتي يمكن تعريفها إنسانياً أو حيوانياً – أن تكون هي التي تجمع الناس سوية كفاعلين سياسيين في الحراكات العمالية'.

يمكن أن نتوافق مع سيويل الذي يعتبر أنه كان يجب على تشيبر أن يخطو خطوة للأمام ويقدم بدائل في علم الاجتماعي السياسي وعلم الاجتماع التاريخي في العالم ما بعد الكولونيالي لينتقد بها رواد دراسات التابع، ولكن هذه الانتقادات الموجهة لمكانة فكرة العقلانية في كتاب تشيبر تسيء فهم مقصد الفكرة.

إن ادعاء أن تشيبر يتبنى دفاعاً عن التعامل مع الناس ككائنات عقلانية أو أنه يختزل الإنسانية إلى معطيات طبيعية – أو الحياة المجردة، أياً كان معنى هذه الكلمة – لا يحرف فقط مقصود الكتاب، بل يكشف أيضاً عن حالة إزدراء المادية التي أشار إليها تيمبانارو.

توجد ثغرتان أساسيتان في هذا الموقف، الثغرة الأولى هي أنها خاطئة على الصعيدين النظري والواقعي، فالبشر المظلومون والمضطهدون في كل مكان يدركون دائماً فداحة واقعهم ويشعرون بالظلم الواقع عليهم. وكما يدلل كتاب Verso Book of Dissent، فإن الإنسانية تنظم وتقاوم وتحد التغيير عبر التاريخ؟

كيف يمكن أن نفسر ذلك من دون اسناد السلوك الإنساني إلى المصالح المادية وقدرة البشر على إقامة مسافة نقدية عن القواعد التي تحاول تبرير الاستغلال والظلم؟ إذا كان البشر مجرد كائنات 'مطواعة بشكل كامل' للبنى الاجتماعية والثقافية، فإنه سيرضخون ببساطة للأيديولوجيا المسيطرة؛ لا مساءلتها وتحديها وإسقاطها. ولأنّ البشر ليسوا مجرد كائنات 'مطواعة بشكل كامل' فهذا الذي يجعلهم يتأثرون ويتضايقون ويتعرضون للأذى من الممارسات والاجتماعية والثقافية.

بالإضافة لكل ذلك، فإن إنكار وجود مصالح مادية لدى الأفراد وإنكار أن هذه المصالح تحفز الفاعلين – من داخل الثقافة – في ظروف معينة، يجعل من المستحيل بالنسبة لنا فهم المظاهر الأساسية والبارزة في الرأسمالية. فلماذا إذن يضحي العاملون الكادحون في كل مكان لتحصيل وظيفة؟ ولماذا يتنافسون ضد زملاءهم من العمال؟ ولماذا يعمل الرأسماليون باستمرار على تقليص التكاليف وتعظيم الأرباح؟

هل كل ذلك ما هو إلا مجرد نتائج للأيديولوجيا والعادات والمعايير الثقافية؟  هل المصالح العقلانية والمادية  - والمرتبطة بالحاجات الإنسانية والتي يتم حجبها من خلال التوزيع غير العادل للموارد- ليست ذات علاقة بسلوك العاملين والرأسماليين؟ إذا كان هذا صحيحاً، فلماذا نرى ذات الممارسات على اختلاف الأوضاع الثقافية؟ ومن أين تأتي القواعد والمعايير التي تدعم هذه البنى؟ وما الذي يجعل البشر يصوغون ذات المعايير في جميع الدول الرأسمالية؟

إنه لمن المعقول المحاججة بأن الرأسماليين يسعون لتقليل التكاليف وتعظيم الأرباح لكي تتنافس مع رؤوس الأموال الأخرى، لأن رفض الالتزام ببروتوكولات الرأسمالية سيجبرهم على الإفلاس، وبالتالي سيفقدون إطمئنانهم على موقعهم الطبقي الذي تمنحهم الراحة المادية والاستقلالية. وبنفس الطريقة، يسعى العمال للوظائف وللتنافس مع بعضهم لأنه في حال لم يحدث ذلك فإن لن يتم إشباع حاجاتهم الأساسية.

يدعي ستينمينتز أن 'المحاججة في مسألة العقلانية ليست جزءاً من محاججات تشيبر عن طبيعة الرأسمالية.' ويقول إركسون أمراً مشابهاً لذلك: 'ليس واضحاً ما نجنيه من إصرارنا على عقلانية الفاعلين.' ولكني أملك تصوراً مختلفاً، فمحاججة تشيبر عن العقلانية لا تعتبرها مجرد أمر ضروري بل ربما تكون هي الجزء المركزي في تحليله لآليات عمل الرأسمالية.

الثغرة الثانية هي أنها تغفل أن المادية تنزع السلاح عن السياسات الاشتراكية التي تؤكد أهمية الصراع من الأسفل، فإذا أراد الناس تحرير أنفسهم – بدلاً من التحرر من فوق – فإنه ينبغي أن يكونوا عقلانيين بطريقة ما، كما ينبغي أن يحددوا بعض الاهتمام الكونية التي تجمعهم. حيث لا يستطيعون من دون العقلانية تصور الظروف السيئة التي يعيشونها، ولن يتمكنوا من تنسيق نشاط جماعي مناسب يدفعهم قدماً لمستقبل اشتراكي.

وفي الحقيقة، إذا لم تكن المصالح المادية موجودة أو مجرد أمر هامشي، فلماذا إذن لا يقوم الرأسماليون والعاملون على العيش بسلام والتعايش مع الأمر الواقع؟ فإذا لم يكن هناك مصالح، فلن يكون ثمّة صراع حولها: فلماذا يظهر الصراع والاحتجاج؟

طريقة أفضل للنقد

تشارلز تايلر

يصف العديد من نقاد تشيبر أعماله أنها ليست ماركسية بما فيه الكفاية كما أنها ليست ماركسية بشكل كامل، وهذه محاججة لا يمكن أن تكون مفيدة: على النقاد أن يحددوا مواضع الثغرات في العمل، لا مجرد تصنيفها وافتراض أن الموضوع قد تم حله. ومن باب الإنصاف، فإن معظم نقاد تشبر لا يتجاوزون حالة التصنيف والتسمية. ومع ذلك، فإن واقع تعرض كتاب تشيبر للعديد من المواقف النقدية يشير إلى القيمة التي تقدمها محاججاته وأفكاره.

فعلى سبيل المثال، يؤكد تشارلز تايلر أن الكتاب يعد 'واحداً من النصوص الماركسية القليلة اللافتة والمثيرة للجدل' التي صدرت خلال السنوات الماضية، ويضمن كلامه بالإشارة إلى أنها لا يمكن اعتباره ضمن النظرية الماركسية بشكل كامل أو أنها ليست ماركسية بالمعنى الساذج للكلمة.

ويتحسر مورفين أيضاً على أن 'التحليل الفيبري الماركسي قد توِّج مع تشيبر' ويهنيء تشاترجي على 'قراراه التكتيكي لإخراج ماركس من الماركسية'، يشير مورفين هنا إلى شكوى تشاترجي التي عبَّر عنها في مؤتمر المادية التاريخية الذي عُقِدَ في نيويورك عام 2013 عن أن 'تشيبر ... يقدم تصوراً بديلاً عن الإنتاج الرأسمالي بطريقة لا تمت بصلة للتقليد الماركسي...  فتشيبر يرفض تعريف ماركس للعمل المجرد'.

يهنئ أودي تشاندرا تشاترجي، ويقول إنه 'تفوق في قراءة جهود تشيبر، بشكل نقدي، وكشف كيف أن هذا الأخير يكاد يميل إلى الليبرالية الرولزية التي تتمسك ببعض جوانب نظرية العقد الاجتماعي.' فبالنسبة له، فإن الإطار النظري لتشيبر ليس ماركسياً بما فيه الكفاية، وأنه يعتمد كثيراً على أسس غير دياليكتيكية وعلى التحليلات المتداولة عن مناورات البرجوازية، وهو ما لا يتفق مع ماركس، ويبدو أنه يستلهم من سوسيولوجيا فيبر وليبرالية رولز'.

يرى البعض الآخر أن تشيبر شديد الماركسية؛ بل ويرون ماركسيته ضيقة ومتزمتة. فسبيفاك تزدري كتاب تشيبر وتصفه بـ'ماركسية بريطانية مصغرة' وتدعي أن هدف الكتاب هو 'تفنيد أي محاولة توسيع لمجال الخطاب الماركسي العام.' و تؤكد سبيفاك أن تشيبر في النهاية لا يقدم شيئاً أبعد من 'مقولات الماركسية اليوتوبية الميكانيكية المعتادة'.

المذيع السولفيني الذي ذكرته أعلاه يشتكي من أن تشيبر 'يخلق حاجزاً منيعاً بين ما يتصوره كمادي وما هو غير مادي...  وهو ما يولِّد حالة من عدم الاتساق الكلّي بين الماركسية وللا ماركسية... ويجبرنا على اختيار طرف ما على أنه صحيح والتعامل مع الطرف الآخر على أنه خاطئ.' هذه هي دوغمائية تشيبر وتزمته الماركسي الذي يجعله يرفض قبول أي فكرة تأتي من خارج إطاره النظري الضيق.

والآن أيهما هو الصحيح؟ هل تشيبر ماركسي كثيراً أم قليلاً في أعماله؟ هل يرفض فعلاً قبول أي شيء من خارج الماركسية أم أنه يضمِّن العديد من النظريات غير الماركسية مثل فيبر ورولز؟ لا تجب عن ذلك: فالسؤال نفسه سخيف.

الانتماء لنسق معين لا يهم؛ ما يهم هو هل حجج تشيبر صحيحة على المستوى النظري والواقعي أم لا؟ وإنه لأمر غريب كيف ابتعد نقاد تشيبر الشرسون عن هذا السؤال المهم.

التعليقات