12/01/2019 - 21:14

الانفتاح الاجتماعي في الصين: خطوتان للأمام وخطوة للخلف

ورغم التذمر من رقابة السلطات المتزايدة وسيطرتها على المعلومات ودمغ المنتقدين بـ"عدم الوطنية"، إلا أن المجتمع يسير بـ"مسار صحيح" على مبدأ "خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف".

الانفتاح الاجتماعي في الصين: خطوتان للأمام وخطوة للخلف

هذه الصورة وجميع الصور أدناه من تصوير Giulia Marchi

في ما يلي ترجمة بتصرّف خاصّة بـ"عرب 48"، وهي جزءٌ ثانٍ لسلسة عن التحولات السياسيّة والاجتماعية في الصين، بعد "هجينٌ فريد من نوعه... الاستبداد ذو الخصائص الديمقراطية":


في إحدى سفوح التلال المُغبرّة، ضمن أفقر مناطق الصين، تستيقظ جونغ وانبينغ، عند الخامسة من صباح كلّ يوم، لجلب مياه الآبار، وتحضير الفطور لابنها، لتقوم، بعد ذلك، بغسل قدميه بينما يُلصق رأسه في كتب اللغة الإنجليزية والكيمياء، وتضربه بمجرد نظره إلى هاتفها النقال حتى لو خلسة.

فبالنسبة لهذه الأم (51 عاما)، التي اضطرت للخروج من المدرسة في جيل مُبكر، فإن مستقبل ولدها لي شوساي (17 عاما)، هو الهدف الأسمى. فإن نجح في امتحان القبول للجامعة، وحصل على مكان في إحدى أفضل الجامعات، واستطاع تحقيق حلمه بأن يصبح مديرًا تنفيذيا في شركة للتكنولوجيا، فعندها سيتغير كل شيء.

"إنه طريقنا للخروج من الفقر"، هكذا وصفت جونغ ولدها.

ومن أجل تحقيق كل هذا، "عقد" جونغ، مثل ملايين الصينيين غيره، اتفاقًا غير مُعلن عنه مع الحزب الشيوعي الحاكم، تتعهد الحكومة بموجبه بمنح حياة جيّدة لأي شخص، شريطة أن يعمل بجد، حتى وإن كان ينحدر من عائلة فلاحين.

وبالمقابل، تتوقع الحكومة من هؤلاء الأشخاص عدم التدخل بالشؤون السياسية، وغض أبصارهم عن تسلق المتظاهرين لأسطح المنازل رافضين هدمها القسريّ، وقبول ملصقات الترويج للحزب المنتشرة في أنحاء المدينة.

وقالت جونغ، المعتزة بنجاح اقتصاد بلادها، راغبةً في الحصول على حصةٍ منه، "لا أهتم للحكام، وهم لا يهتمون لي"، مؤكدة أن لا علاقة لها بالسياسة.

لقد اعتقد محللون غربيّون كثر على مدار سنوات طويلة، أن الصينيين الذين عانوا الأمرّين في العقود تحت قيادة ماو تسي تونغ، سوف يتحملون حكم الحزب الواحد مقابل زيادة دخلهم واتساع مساحة حرياتهم الاجتماعية. بل وصل هذا الادعاء إلى القول إن الأمة المزدهرة الجديدة، سوف تطالب، أيضًا، بالحريات السياسية.

لكن العكس حصل، فقد تصاعدت مستويات الدخل باطّراد مع تعاظم قوة حكام الصين الاستبدادين وهيمنتهم على السلطة. وقد يبقى الرئيس شي جي بينغ، في منصبه إلى مدى الحياة، ورغم مطالب الشعب الصيني المستمرة من الحزب، إلا أن الافتراض القديم بأن الازدهار سيؤدي حتما إلى الديمقراطيّة، يواجه تحديًا حقيقيًا.

ويتضح أن هذا العقد غير المعلن عنه الذي يربط الشعب بالحكومة هو أكثر تعقيدًا، فيعود جزئيًا، إلى أن الصين لا تزال عازمة على معالجة السؤالين الأساسيين اللذين طرحتهما منذ نحو قرن، قبل الثورة الشيوعية عام 1949. ما الذي جعلها بهذا الضعف (حينها) وردع تقدمها بعكس الغرب؟ وما الذي يجب أن تفعله لكي تدفع بنفسها إلى الأمام؟

في ذلك الوقت، لام الصينيون الثقافة التقليدية المحافظة، التي تُشدد على الهرمية، وتثبط عزيمة المبادرة الفردية وتهتم بالتعاليم الكونفوشية الكلاسيكية أكثر مما تهتم بالمواضيع العملية كالرياضيات والعلوم. وسعى الشيوعيون بعد ثورتهم، إلى تحطيم الثقافة السائدة عن طريق سياسات مستوحاة من الماركسية، إلا أن محاولاتهم انتهت بكارثة (فترة حكم ماو).

لكن الشعب الصيني وقادته استمروا في البحث عن أجوبة حول التركيبة الناجحة للازدهار، في حين أن الحزب خلق أجوبة جديدة أُسست على إعادة صياغة الثقافة التقليدية دون رفضها بشكل قاطع.

وقدمت الحكومةُ التعليمَ على أنه مسار للحراك الجماعي، وأطلقت العنان لمشاريع القطاع الخاص عبر إزالة الأفكار الكونفوشية والماركسية التي تعادي طبقة التجار، وأرست مفهومًا جديدًا للوطنية، يتلخص بمزيج من الكبرياء والذل في سردية استعادة عظمة الصين.

ولكن شرائح واسعة من الصينيين، يعتبرون المعادلة المحفزة هذه، جزءا من حساباتهم فقط، فتؤخذ بالحسبان، أيضًا، تكاليف رفض "العقد" الذي يقدمه الحزب، فقد وسع الأخير، خلال أعوامه في السلطة، قدراته على القمع.

فللبعض، كأقلية الإيغور العرقية في شين جي يانغ، فإن تحول البلاد نحو الاستبداد المتشدد، أدى إلى تدمير عائلات بأكملها، وتحطيم ممارسات ثقافية ودينية كانت تتّبِعُ طريقتها للحياة، أما للبعض الآخر، فيبقيهم الخوف من القمع مصطفّين في الطابور.

لا يُمكن حصر عدد الصينيين الذين يعارضون النظام، لكن الكثيرين في الطبقة الوسطى، عبروا على المستوى الشخصي، عن استيائهم من بعض الأمور كطريقة تعامل بكين مع الحرب التجارية الدائرة بينها وبين الولايات المتحدة مثلا، إلا أن القليلين منهم، يجرؤون على الإفصاح عن هذا الاستياء.

لقد شكلت ذاكرة المجاعات والاضطرابات السياسية، جيل السيدة جونغ، ويتم تمرير هذه الذاكرة للأجيال الجديدة على شكل تحذيرات هامسة " الصين يسكنها الكثير من الناس. الصين ليست مستعدة للديمقراطية. ابق خارج السياسة. لا تسأل أسئلة".

لكن تصاعد الشعور بالكبرياء لدى الصينيين، والمتمثل جزئيا بالإحساس بالفرص، طغى على الإحباط والخوف، أو على الأقل حتى الآن، بسبب القوة الهائلة التي اكتسبها وطنهم في فترة قصيرة نسبيا.

كان الغرب يوما جذابًا إلى حد لا يُمكن مقاومته، أما الآن، فقد عاد صينيون كُثر من أوروبا والولايات المتحدة، بعد أن درسوا فيها، إلى بلادهم، متلهفين لتعليم أولادهم عن الصين القوية والمعتزة بنفسها.

ويواجه العديد من المحللين والدبلوماسيين اليوم، احتمال أن تكون غالبية افتراضاتهم بشأن تغيير الصين، بادعاء أنها سوف تُصبح أقرب إلى الغرب، خاطئة.

وقال المؤرخ والكاتب الصيني الذي يعيش في بكين، شو تسي يوان، إن "العقلية الصينية عملية للغاية. فمنذ جيل صغير، نتعلم ألا نكون مثاليين، وألا نكون مختلفين. ويشجعوننا على البقاء والتنافس والتفوق من داخل المنظومة".

الحلم الصيني

ربما يكون التعليم أكثر شيء مُرتبطٍ بالحراك الاجتماعي في الصين، وخصوصا امتحان دخول الجامعة المعروف باسم "جاوكاو". ومع أن هذا الامتحان هو رمز "الفرصة" لدى الصينيين، إلا أنه أداة للسيطرة، أيضا، إذ يقول الباحثون إنه أسلوب حكم ذكي مشتقّ من نظام الكيجو الذي أُسس على الثقافة الكونفوشية، واستُخدم لتحديد المسؤولين الحكوميين في الصين على مدار أكثر من 1300 سنة.

وأضفى هذا النظام في عصر الإمبراطورية الصينية والحكم الملكي، على الحكومة السائدة وقتها، هالة حكم الجدارة (ميريتوقراطية)، فقد كان مُتاحا لجميع الرجال. لكنّ واحدًا في المائة من المتقدمين له فقط، استطاعوا أن ينجحوا بعلامات عالية جدا، خصوصا أن قلة هم الذين امتلكوا المال والوقت الكافيين، لتحضير أنفسهم.

وفي الصين الحديثة، حيث ينتشر الفساد، يُنظر إلى امتحان "جاوكاو" على أنه عادل نسبيا، وغير قابل للإفساد، مما يعني أن الذين يفشلون بالنجاح به، لن يلوموا الحكومة.

وهو يشرعن ادعاء السلطات بأنه "إذا كنت فاشلا، فلا يمكنك إلقاء اللوم على أحد سوى نفسك، فأنت لم تعمل بما يكفي لكي تنجح".

وأُسس امتحان "جاوكاو" عام 1952، في ظل حكم ماو، وسُمح في بداية الأمر للطلاب المنحدرين من طبقات "ملائمة شيوعيا"، خوضه. وتم إيقاف الامتحان في فترة "الثورة الثقافية"، وهي الفترة المضطربة التي ضُرب فيها المُدرسون وأُغلقت المدارس، ليُعاد اتباعه عام 1977 بعد موت ماو.

وعلى مدار العقود الماضية منذ إعادة اعتماد الامتحان وإتاحته للجميع، انتشرت معرفة القراءة والكتابة والحساب، وصقل المواهب التقنية العليا، ما أدى إلى مكاسب اقتصادية لا حد لها. لكن في الوقت ذاته، أثار "جاوكاو" استياء كبيرا، لكونه يعبر عن منظومة الصين التعليمية التي ترتكز بشكل أساسي إلى المبالغة بالتركيز على حفظ المواد، وغرس قيم الطاعة والرضوخ، بدل أن يُشجع على التفكير النقدي.

أما بالنسبة للحزب الشيوعي، فقد شكل الازدياد الحاد بعدد خريجي المدارس والجامعات، ضغطا على حكومته، لتوفير فرص عمل تتلاءم مع حجم الطلب، فيما تُتهم المنظومة بعدم منح فرص متكافئة لطلاب الريف.

ولا تزال حصص دخول الجامعات النسبية، تُفضل النخب المدنية، بفوارق كبيرة عن نظرائهم ذوي التعليم الثانوي في المناطق الريفية. كما أن الأخيرين يواجهون مصاعب في إيجاد وظيفة بعد تخرجهم.

لذلك يختار البعض طريقًا أخرى للتقدم في المجتمع، تقديم طلب انتساب للحزب الشيوعي.

حب دون زواج

استطاع رجل الأعمال جيمس ني أن ينجح دون الانتساب للحزب، رغم أنه ترعرع في بلدة صغيرة في مقاطعة جيانغسو عام 1975، ولم يكن التعهد الخاص قانونيا في تلك السنوات، لكن الدولة فتحت المجال لاحقا عام 1979.

ويحاول ني، الذي تُقدر ثروته الخاصة بنحو 400 مليون دولار، أن يُبقي على علاقات بعيدة مع المسؤولين، رغم أن آخرين يستفيدون جدا من علاقات مماثلة.

وبالنظر إلى الصين على مر التاريخ، فإن تبنّي نظام ريادة الأعمال يُعتبر أمرا مُدهشا مقارنة مع النفور الكونفوشي التقليدي من التجّار الباحثين عن الربح.

تقبل الحزب الشيوعي آليات السوق والأفكار الرأسمالية لكي يواكب تقدم الغرب، لكن ليس كغاية بحد ذاتها، بل وسيلة يستطيع فيها أن يُحقق ثروة وقوة قومية.

وخشي قادة الحزب من تطور الشركات الخاصة إلى قوّة اقتصادية رأسمالية مستقلة، والتي تنبأ البعض في الغرب، أنها سوف تُكون مثل حصان طروادة داخل الصين، إلا أن تُجبرها على المرور بعملية دمقرطة.

لكن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع، فعلى سبيل المثال، فإن ني كرجل أعمال ومليونير رفض الانتساب للحزب، يحتفظ بوطنية شديدة، ويحب الصين، ويؤمن أن قادة الحزب يريدون الأفضل للصين.

وأجرى الحزب تحولًا جذريًا عام 2001، عندما سمح لرأسماليين أن ينتسبوا إليه، الأمر الذي عزز "من الاعتماد المتبادل بين نظام الحزب والاقتصاد الخاص"، بحسب ما قاله عميد العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، كيلي تساي.

ومر ني بمصاعب كثيرة في طريق إنشاء شركاته، بسبب عدم دعم الحكومة له، والذي تمثل، أيضًا، في انعدام القروض، ما جعله يبدأ طريقه عبر جمع المال من أقاربه.

يذكر أن شبكة الثقة (العائلية) هذه، تسيطر على لب الاقتصاد "الرمادي" الصيني، والذي يعمل من خارج المؤسسات الرسمية والبنوك، ليمنح محرك استثماري للقطاع الخاص.

لم يتدخل المسؤولون في عمل ني، بسبب توظيفه لنحو 3 آلاف عامل، والتزامه بالقانون والحد الأدنى من أهداف الإنتاج، التي تعود بالفائدة على المسؤولين المناطقيين. وحتى عندما طلب منه بعض المسؤولين فتح خلية للحزب داخل مصنعه، استطاع أن يرفض ذلك، حيث أن هناك مجالًا لرفض بعض أوامر الحزب.

لكن فترة الرئيس الحالي، شي جي بينغ، تبدو أنها سوف تُقلص مساحة المناورة، وقال باحثون يساريون ومدونون ومسؤولون حكوميون، في الأشهر القليلة الماضية، إن شي يُبعد الصين عن سياسات السوق الحرة. ورغم المديح الذي وجهه للقطاع الخاص، إلا أنه يتجه نحو تفضيل القطاع المملوك للدولة.

ويعتقد أستاذ الدراسات الصينية في جامعة هارفارد، وليام كيربي، إن الصين لديها اليوم "أكبر بيروقراطية في التاريخ، مع القدرة على التدخل في أي شيء. إنها ليست مجرد أيديولوجية. هناك الآن أعداد هائلة من مجموعات الضغط التي لا تحب المنافسة".

ويحتذي لي بأغنى رجل في الصين، مؤسس مجموعة "علي بابا"، جاك ما، الذي نصحه في يوم من الأيام، باقتصار علاقته بالحزب، على نحو: "دع نفسك تقع في الحب، لكن لا تتزوج".

الدافع للعودة إلى الوطن

شعرت الصينية التي تلقت تعليمها في بوسطن، هوو جين تاو، بالحنين إلى الوطن على مر الزمن، وبعد أن حصلت على وظيفة استشارية ووقعت في حب ثقافة الـ"بوب" الأميركية في العقود التي قضتها في الولايات المتحدة، قررت عام 2007 العودة إلى الصين.

وامتزجت أسباب عودتها بين الفرصة الممتازة التي تلقتها للعمل بإحدى شركات بكين، وبين رغبتها العميقة بمساعدة بلدها للحاق بالغرب وأن تُعيد ارتباطها بجذورها الصينية.

وسرى الاعتقاد بأن جيل الصينيين الأوائل الذين تعلموا في الغرب، والذين تنتمي إليهم هوو (44 عاما)، سوف يُحدث تغييرا سياسيا جذريا في الصين جرّاء انكشافه على الليبرالية الديمقراطية في الدول الأوروبية والولايات المتحدة.

وفي حين أن هوو تشعر، مثل عائلات كثيرة في الطبقة الوسطى الصينية، بالقلق إزاء القمع والنزعة المادية المتعاظمة في المجتمع الصيني، لكن هذه العائلات ذاتها، تُريد لأطفالها أن ينشؤوا على الانتماء للصين أكثر من أي شيء آخر.

لقد وحد الإحساس بالوطنية الصين على مدار قرون في تاريخها، خصوصا في الفترات الصعبة، والذي يتجلى في زمننا، بدمج الفخر بالإرث الثقافي للحضارة الصينية، مع النقمة الشديدة على الإذلال الذي تعرض له الصينيون على أيدي المُحتل الأجنبي في الحقبة الاستعمارية. وهو مزيج غير مستقر، يتلاعب به الحزب بمهارة لإثارة الشعور بأن الصين بحاجة أن تقف بوجه العالم.

بل أن بعض المحللين يدعون أن نجاح الصين كان سببه الأساسي مرونة شعبها، أكثر من الحزب الشيوعي وسياساته، فقد كان القادة بارعين في تشكيل قومية مسيسة ترسخ أولوية الحزب، وتدافع عن النموذج السلطوي باعتباره الحصن المنيع أمام الفوضى.

ووصف بروفيسور إدارة الحكومات بكلية كليرمونت ماكينا، مين شين بي، القومية الصينية بأنها "تربط الناس بالدولة وليس ببعضهم البعض".

وبعد أن خسرت الأيديولوجيا الشيوعية جاذبيتها أمام الجمهور، يحاول الرئيس الصيني اليوم، التركيز على الثقافة الصينية، من أجل تعزيز الفكرة بأن الدولة تحتاج لقائد قوي يستطيع منع الفوضى وحمايتها أمام الغرباء. الأمر الذي يثير المخاوف حول احتمال عودة الصين إلى فترة انعزالية أخرى.

ورغم تذمر هوو من رقابة السلطات المتزايدة وسيطرتها على المعلومات ودمغ المنتقدين بـ"عدم الوطنية"، فإنها لا زالت مقتنعة أن المجتمع يسير بمسار صحيح على مبدأ "خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف".

التعليقات