09/03/2019 - 22:00

التبعية والصمت.. شرطا الصين للاستثمار

بعد قرون من الضعف والانعزال، تستعيد الصين ما يعتبره قادتها "مصيرًا طبيعيًا"، وهو التفوّق في آسيا، وتلقي احترام باقي أجزاء الكوكب.... ما هي أبرز فصول التحدّي الصيني خارجيًا؟

التبعية والصمت.. شرطا الصين للاستثمار

هذه الصورة وجميع الصور أدناه من تصوير Bryan denton

في ما يلي ترجمة بتصرّف خاصّة بـ"عرب 48"، وهي جزءٌ ثالث لسلسة عن التحولات السياسيّة والاجتماعية في الصين، من سلسلة "الاقتصاد الذي لم ينجح بالفشل"


في منطقة نائية في الصحراء المصرية، يعمل عشرات العمال الصينيين تحت أشعة الشمس الحارقة، من أجل تحويل المنطقة إلى عاصمة جديدة. ويعمل هؤلاء لصالح أكبر مجموعة معمارية صينية، في عقد تبلغ قيمته 3 مليار دولار مع شركة مصرية، وبتمويل من البنوك الصينية، يبنون فيها 21 ناطحة سحاب.

وهذا الوجود العمالي الصيني على أرض مصر، يعبر عن طموحات الصين العالمية (التوسعية)، فبعد قرون من الضعف والانعزال، تستعيد الصين ما يعتبره قادتها "مصيرًا طبيعيًا"، وهو التفوّق في آسيا، وتلقي احترام باقي أجزاء الكوكب.

ومن خلال مشاريعها في مصر ودول أخرى، تستغل الصين نفوذها الاقتصادي الهائل لتوسيع نفوذها الجيوسياسي، وتوجيه الاستثمار لجذب الحكومات التي تسيطر على الأصول الحيوية.

وتُسيطر مصر، الحليفة التقليدية للولايات المتحدة، على قناة السويس التي تُعد معبرا ضروريا للسفن، يمكن أن يعيق الحركة الصينية التجارية على مستوى العالم في حال تهديد استخدام الصين له. وعبر بناء جزء مركزي من العاصمة المُستقبلية لمصر، تشق الصين طريقها عبر استرضاء المسؤول الأوّل عن القناة، الرئيس، عبد الفتاح السيسي، في ربط رؤيته للبلاد بالعلاقة الودية مع بكين.

إن سعي الصين نحو الانتشار التجاري المصحوب بالتأثير الدبلوماسي يوجه مشاريع صينية منظمة، بدءًا من خطط سكك الحديد والشوارع السريعة التي تعمل على تشييدها في دول أفريقيا وأميركا اللاتينية وانتهاء بالموانئ ومحطات الطاقة قيد الإنشاء في أوروبا الشرقية وجنوب آسيا، أمّا في جنوب شرقي آسيا، يهندس رجال الأعمال الصينيون مجموعة من شركات الإنترنت، كما تستثمر الصين القوة العسكرية المتزايدة في بحر الصين الجنوبي.

وقبل أكثر من عقد من الزمان، تمحورت آمال الصين خارج حدودها، حول استيراد الطاقة والمعادن وموارد أخرى، غالبا ما كانت تحصل عليها من دول تخلّى عنها الغرب ونبذها، مثل إيران والسودان وميانمار. وفي سياستها الخارجية، كان للصين هوس واحدٌ وهو تقويض الاعتراف الدبلوماسي الدولي في جزيرة تايوان ذات الحكم الذاتي، والتي تعتبرها الصين جزءًا من أراضيها. ورغم اشتباك الصين مع جاراتها حول جزر متنازع عليها، إلا أنها قبلت سيطرة الأسطول الأميركي على البحر.

لكن هذه الأيام قد انتهت.

تحت قيادة الرئيس، شي جين بينغ، القوي، كسرت الصين قيودها السابقة، رافضة الإذعان لنظام عالمي يعيق نهضتها الوطنية وخاضع للهيمنة الأميركية، وباتت تخوض منافسة مع الولايات المتحدة في مسائل التجارة والأمن القومي، وحتى في مناطق النفوذ الأميركي التاريخية. فبالنسبة لوجهة النظر الصينية، فإن هذه العملية هي محض إعادة ترتيب متأخرة للواقع التاريخي الذي تطالب الصين من خلاله برد الاعتبار المتناسب مع مكانتها.

وبحسب رواية الحزب الشيوعي الحاكم، فإن قصة التاريخ الصيني المعاصر تتلخص بالإذلال الذي تعرضت له الصين من الاستعمار الذي حط من قيمتها، فهي التي ابتكرت البوصلة والبارود والورق والطباعة، وحصدت ثروات هائلة عندما كانت أوروبا لا تزال غارقة في تخلفها. ومن ثم أتت قرون الإذلال، والتي جاءت على عدّة أشكال، منها جني بريطانيا للأرباح الهائلة من فرض الأفيون على الجماهير الصينية والوحشية اليابانية، والمحاضرات الأميركية المنافقة والمذلة حول حقوق الإنسان. أما الآن، فالصين مصممة على تأمين مصيرها بنفسها.

وليس هناك مكان أكثر وضوحًا لمخططات الصين هذه من آسيا، فقد تغلبت على الولايات المتحدة بكونها الشريك التجاري الرئيسي للدول الآسيوية، ما دفع الوجود البحري الأميركي خارج الصدارة التي امتلكها في السابق في بحر الصين الجنوبي. وتعمل الصين على تعطيل التحالفات الأميركية في المنطقة، من اليابان إلى سنغافورة وصولًا إلى أستراليا.

لكن بخصوص ما وراء الباحة الخلفيّة للصين، فلا محدودية لطموحاتها. وتروّج لمشاريع البنى التحتية الضخمة التي تعمل على إنشائها في أنحاء العالم على أنها وسيلة لإعادة تعبيد "طريق الحرير" الذي وجّهت مساراته التجار الذين نقلوا البضائع بين الصين وأوروبا في العصور القديمة.

ويقوم دور الصين الحازم في العلاقات الدولية، على حاجاتها الداخلية، فهي تنتشر في أسواق جديدة بشكل متزامن، مولّدةً طلبًا متزايدا على سلعها المصنعة، مع تباطؤ النمو الاقتصادي في الداخل. وهي تُظهر القوة العسكرية والتأثير عندما تعتمد على شرعية الحزب الشيوعي في تعزيز الثروات الاقتصادية والاحترام الدولي.

ونهوض الصين هذا يُثير مخاوف لدى الدول المجاورة لها من احتمال عودة جزء غير مرغوب به من التاريخ، وهو نظام الإتاوة القديم الذي حصّن مكانة الصين كـ"مملكة وسطى". فلقرون عديدة، انحنت بلدان أخرى للقوة الإمبريالية الصينية، ومنح قادتها الهدايا للإمبراطور وقبلوا مكانة التابع لها لتأمين التجارة والسلام.

وتواجه بكين اليوم اتهامات بأنها توجّه استثماراتها متعمدة الإيقاع بشريكاتها في فخ الديون المتراكمة في سبيل الحصول على أصولها. ففي العام الماضي، سلمت سريلانكا إدارة أحد موانئها لرأسمال صيني بسبب فشلها في تسديد الديون المترتبة عليها للصين. وألغت ماليزيا مؤخرًا مشروعين يتضمنان تمويلا صينيا. وفي مواجهة الضغط من الخارج والمخاوف بشأن تصاعد الديون في الداخل، تعيد الصين تقييم امتداد مشاريعها العالمية وتكلفتها، على الرغم من أن نطاقها لا يزال واسعا.

أما بالنسبة للقوى الغربية التي طغى نظامها على العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فإن الصين تُشكل خطرًا متصاعدًا. فقد أقامت الولايات المتحدة وحلفاؤها المنتصرون مؤسسات صُممت للحفاظ على السلام (على مستوى التصريحات على الأقل)، عبر التشجيع على التجارة والمنافسة العادلة. وقد قام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتوزيع المساعدات بشروط، علما بأن الاتهامات تتكرر بشأن فشل المؤسستين في الامتثال لمعاييرها المتعلقة بحماية حقوق الإنسان وسيادة القانون.

لكن الصين لا تفرض قيودًا مماثلة على استثماراتها، فهي تمول المستبدّين الذين يسيطرون على العقارات ذات القيمة الجيوسياسية، وتتلخص مطالبها في اشتراط مشاركة شركاتها في هذه الاستثمارات، بينما يتجنب الطرف الآخر (المستلمون) انتقاد بكين وسياساتها.

وتُضخم فكرة تحدي الصين للنظام الغربي المهيمن اليوم، بحقيقة أن مهندسته الأساسية (النظام الغربي)، الولايات المتحدة، تقودها الآن زمرة قومية مجاهرة. فقد أثار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي شن حربا تجارية على الصين وبدأ بالاستهزاء بالتعاون الدولي، شكوكًا حول مدى صمود الفلسفة الديمقراطية الليبرالية التي طالما دافعت عنها بلاده.

وسعى شي جينغ بينغ إلى ملء هذا الفراغ، فقد روج لنفسه على أنه القائد الذي يتبع قوانين منظومة التجارة العالمية، على الرغم من أن الصين تواجه اتهامات بسرقة الملكية الفكرية ودعم الشركات المملوكة للدولة فقط، والمتاجرة بمنتوجاتها بأسعار منخفضة ليست عادلة.

تهديد التنافسية والتماسك

إذا كان الهدف الجزئي من "طريق الحرير" هو نقل البضائع من المصانع الصينية إلى الزبائن في بقية أنحاء العالم، فإن طرق المرور سوف تمر، بالضرورة، عبر مركز أوروبا وشرقها.

وفي هذا السياق، حوّلت الاستثمارات الصينية ميناء بيرايوس اليوناني إلى أكثر مراكز الشحن اكتظاظًا في حوض البحر الأبيض المتوسط، والذي أصبح بوابة للاتحاد الأوروبي. كما تعهدت الصين بالمساعدة في تمويل عملية بناء خط سكة حديد فائق السرعة من العاصمة الصربية، بلغراد، إلى العاصمة المجرية، بودابست، كما تعهدت، أيضًا، بتحويل المنطقة إلى ممر للنقل يربطه الطرق السريعة والمطارات والسكك الحديدية والموانئ ومحطات الطاقة.

ويأتي هذا ضمن إطار مجموعة "16 + 1"، وهي عبارة عن تكتل اقتصادي أقامته الصين مع 16 دولة في وسط أوروبا وشرقها. وهو تكتّل ينظر إليه قادة الدول المتبقية في الاتحاد الأوروبي، على أنه اعتداء "سلس" على قوانين وتماسك تكتلهم الاقتصادي (الاتحاد الأوروبي). فمع عروض الصين لتمويل مشاريع البنى التحتية، تُنصب نفسها بديلا لصناديق التنمية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي. 

وفي حين تشترط قوانين التمويل الأوروبي حماية العمال والطبيعة، ومنح المشاريع للشركات بناء على مناقصات تنافسية لضمان المنافسة العادلة، فإن الصين تميل إلى توزيع أموالها بشروط أبسط بكثير، وهي انخراط الشركات الصينية في العمل بدون منافسة، بينما تؤمن بكين حليفا دوليا.

ويخشى مسؤولو الاتحاد الأوروبي بشكل خاص، أن يُضعف المال الصيني الضغط الذي يفرضوه على الدول الأعضاء التي يقوم قادتها بانتهاك المعايير الديمقراطية. فقد هددت أوروبا مثلا، بوقف تمويل التنمية في بولندا والمجر كعقوبة على تحوّل الدولتين نحو الاستبداد.

وتعلق بلغاريا آمالا كبيرة على مساهمة الاستثمار الصيني في مشاريع الطرق السريعة التي تربط موانئها. وانضمت الحكومة البلغارية لحكومات أخرى في الاتحاد الأوروبي برفض المشاركة بإصدار بيانات دولية تدين سجل الصين الحقوقي.

الاستثمار في المستقبل

عندما دُمرت إندونيسيا بأزمة عملتها قبل عقدين من الزمن، اندفعت الجماهير الغاضبة عبر شوارع غربي جاكرتا، قاتلة معها مئات التجار صينيي العرق. ومع ذلك، فإن مهندس البرمجيات الصيني تشينج تاو، الذي أصبح رأسماليا مغامرا، يمكنه أن ينظر اليوم من نافذة مكتبه الشاهق في الحي ذاته، وأن يرى مركزا هادئًا للحياة الصينية، تملؤه محلات البقالة والمطاعم، إضافة إلى مدرسة ابنه الخاصة. 

ويُعتبر تشينغ (34 عاما) فردا واحدا من بين تيار من المستثمرين الصينيين الشباب، مهندسين ومصممي مواقع إنترنت، يستأجرون مساحات في منطقة تعج بالشركات التكنولوجية. وقد وصل إلى إندونيسيا قبل نحو 10 سنوات، ضمن شركة الاتصالات الصينية "هواوي"، لكنه أطلق، كما غيره من الموظفين السابقين في الشركات الصينية الكبرى، مشروعًا ناشئًا خاصًا به.

ويوضح ازدهار مشهد المشاريع الناشئة الصينية في هذا الحي الذي دمرته في السابق المجموعات "الإرهابية" الكارهة للصينيين، الاندماج الصينيّ العميق في جنوب شرقي آسيا. وقبل بضع سنوات فقط، صبّت الشركات الصينية اهتمامها في المنطقة حول شراء الموارد الطبيعية بشكل رئيسي، أما اليوم، فتستثمر الصين في المستقبل، حيث تزرع صناعات ابتكارية بأموالها وقدراتها العقلية.

وفي عام 2017، شارك المستثمرون الصينيون بتمويل ما تصل قيمته إلى 95 في المئة من قيمة الشركات الإندونيسية الناشئة. 

وتستمر مكانة الصين بالازدياد في دول جنوب شرقي آسيا، بالتوازي مع تخلي الولايات المتحدة عنها. ففي حين تغيب الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، عن الاجتماع السنوي المغلق لرابطة دول جنوب شرق آسيا، الذي أُقيم في جزيرة بالي الإندونيسية عام 2013، فإن الرئيس الصيني الجديد وقتها، شي جينغ بينغ، حضره. بل وخاطب البرلمان الإندونيسي، مستغلا المناسبة، للإعلان عن مؤسسة جديدة، تعرف اليوم باسم البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية، المنافس الأول للبنك الدولي. 

وبينما احتفى رؤساء الدول الآسيوية بالعلاقات الوثيقة التي نشأت بينهم وبين الصين، كانت الشركات الصينية تحقق تقدما هادئا في إندونيسيا، تقودها مخاوفها، فمخزون زبائن شركات الإنترنت في سوقها المحلي، بدأ بالنفاد، لكن عدد مستخدمي الإنترنت في إندونيسيا التي يقطنها 260 مليون نسمة، يزداد بكمية أكبر من أي مكان آخر على سطح الكوكب.

وكان مؤسس شركة "علي بابا" الصينية، جاك ما، من أول الأشخاص الذين قدروا حجم هذا السوق، ما دفعه للاستثمار في شركات ناشئة محلية، بما في ذلك ضخ 1.1 مليار دولار عام 2017 في منصة التجارة الإلكترونية "توكوبيديا" التي يتوسع انتشارها يوما بعد يوم.

ويعزز هذا النجاح عزيمة ما للوقوف بوجه أكبر منافسيه على مستوى العالم، أمازون، فشركة التجارة الإلكترونية الأميركية تعمل في سنغافورة لكنها لم تتمكن من اختراق جنوب شرقي آسيا.

الاستفحال العسكري

إضافة إلى الأموال والتكنولوجيا، تستعرض الصين قوتها من خلال العرض التقليدي للقوة: الجبروت العسكري.

شاهد الضابط الفلبيني منخفض الرتبة، أليكس باما، الذي أصبح اليوم قائدا عسكريا في أسطول بلاده البحري، كيف احتلت القوارب الصينية جزيرة ميستشيف ريف التابعة للفلبين، في تسعينيات القرن الماضي، التي تحولت لاحقا إلى قاعدة عسكرية صينية. ورغم آمال الفلبين بالحصول على المساعدة من مستعمرتها السابقة، الولايات المتحدة، إلا أن الأخيرة تحت إدارة الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، رفضت المساعدة. 

وقال باما إن تراجع الولايات المتحدة عن المطالبة بعودة هذه الجزيرة إلى الفلبين، كان بمثابة نقطة تحول تاريخية، فمنذ ذلك الحين تقلص الدور الأميركي في المنطقة، وتنازلت الولايات المتحدة عن البحار للصين.

وبعد مرور أكثر من 20 عاما على احتلال الصين للجزيرة، أمر الرئيس الصيني بملء ميستشيف ريف بمعدات الاستطلاع، وحظائر وممرات الطائرات ومرافئ المياه العميقة، وتزويدها بصواريخ قصيرة المدى. ومنحت هذه القواعد مضافةً إلى حركة الصين البحرية لبكين سيطرة فعالة على واحد من أكثر الممرات المائية تجارية بالعالم.

لقد أصبحت الهيمنة على بحر الصين الجنوبي والإطاحة بالولايات المتحدة هدفين محوريين في سعي شي لإعادة الصين إلى مجدها. وفي عام 2017، نظمت الصين، لأول مرة، تدريبات على حاملة الطائرات باستخدام طائرات مقاتلة متقدمة في بحر الصين الجنوبي.

وتسيطر الشركات الصينية المملوكة من الدولة على موانئ صينية الصنع في المحيط الهندي، في سريلانكا وباكستان، وغيرها من الموانئ قيد الإنشاء في ميانمار وبنغلاديش، الأمر الذي سيساعد الصين على تحقيق إستراتيجيتها البحرية المتمثلة في سلسلة اللآلئ الممتدة من ساحلها إلى مدينة بورتسودان السودانية في أفريقيا.

وتروّج الصين لهذه الخطوات على أنها دفاعية، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها الآسيويّين، يحذرون من أن بكين تضع نفسها في مكان تستطيع من خلاله "احتجاز" التجارة العالمية، بينما تقلل من النفوذ الأميركي. وبروز الأولى كقوة تجارية مهيمنة في المنطقة إلى جانب تحركاتها نحو التفوق البحري قد زاد من الشعور بوجود مخطط صيني لتغيير موازين القوى. 

ويدّعي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رنمين في بكين، شي ينهونغ، وهو أحد مستشاري الحكومة الصينية، أن "سلطة الصين ونفوذها، سوف يتضاعفان على المدى الطويل دون أدنى شك، وسيسقطان، في نهاية المطاف، الهيمنة الأميركية على المنطقة".

وتمثل أزخم تصوير حي لهذا المنطق في أزمة عام 2012، حول جزر سكاربورو شوال، وهي سلسلة من الشعاب على شكل حدوة حصان أقرب إلى الفلبين منها إلى الصين، حيث هددت البحرية الفلبينية بضعة قوارب صيد صينية اقتربت من المنطقة التي تُسيطر عليها الفلبين، وردت الصين بتصعيد عسكري مُرسلة سفنها الحربية، لتقوم إدارة أوباما بعقد اتفاقية تحتم على الطرفين الانسحاب، ورغم انسحاب السفن الفلبينية، فإن بعض السفن الصينية بقيت مكانها.

ومنذ ذلك الحين، تسيطر الصين على المنطقة. وبدأت ببناء 7 جزر اصطناعية في أرخبيل سبارتلي الأوسع. 

وتبدو الصين مترددة في بناء قاعدة عسكرية كاملة في المياه الضحلة، خشية أن تثير غضبا شعبيا في الفلبين، والإضرار بالعلاقات مع رئيسها الموالي للصين، رودريغو دوتيرتي. لكن الكثير من المسؤولين الفلبينيين يخشون من أن عدم بناء الصين لقاعدة عسكرية، هو مجرد وقفة في عملية توسع صينية حتمية.

السيطرة على نقاط الاختناق

مع توسع انتشار الصين في العالم، تتطلب ست مناطق اهتماما خاصا: نقاط الاختناق البحرية (وهي المدخل إلى البحر الأسود من البحر الأبيض المتوسط)؛ الممر من المحيط الهادئ إلى المحيط الهندي عبر مضيق ملقا؛ الممر الذي يفصل أوروبا عن أفريقيا عند مضيق جبل طارق؛ باب المندب (قبالة جيبوتي في القرن الأفريقي)؛ مضيق هرمز في الخليج العربيّ؛ والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط من البحر الأحمر عبر قناة السويس.

وفي جميع هذه النقاط، قد يؤدي احتمال نشوب أعمال عدائية إلى تهديد حرية الحركة الصينية حول العالم، ما يعرّض صادراتها وحصولها على الموارد إلى الخطر.

وخضعت هذه المناطق، تاريخيًا، لسيطرة القوات البحرية الأميركية، الأمر الذي جعل دخول الصين إليها يعتمد على العلاقات السلمية مع الأولى، ولتحرير نفسها، أغدقت الصين باستثماراتها على الحكومات التي تسيطر على نقاط الاختناق.

وبهذه الطريقة، باتت الصين الممولة والمطورة الأولى للعاصمة الإدارية الفخمة التي يعمل على إنشائها السيسي في الصحراء شرقي القاهرة، فالسيسي يتعطش للمال والحلفاء في وقت ترتد فيه نسبة كبيرة من دول العالم عنه بسبب حملته الوحشية ضد المعارضة.

وفي هذا السياق، قال رئيس الشركة الحكومية المصرية التي تقود عملية البناء في العاصمة الإدارية الجديدة (تحت الرعاية الصينية)، أحمد زكي عابدين، في مقابلة: "توقفوا عن التحدث إلينا عن حقوق الإنسان. تعالوا وأقيموا معنا علاقات تجارية، فالصينيّون قادمون. وإنهم يبحثون عن أوضاع مربحة للجانبين. مرحبًا بالصين".

وبهدف دعم العاصمة الإدارية الجديدة، عززت الصين الشغف المصري القديم بترويض الصحراء. فالمشروع يهدف إلى بناء مدينة تتسع لـ6.5 مليون شخص، لاستبدال القاهرة بعاصمة تكنولوجية حديثة، ومن المتوقع أن يستغرق بنائها نحو 15 عاما، بتكلفة لا تقل عن 11 مليار دولار.

وتنص الاتفاقية التي أبرمت بين الصين ومصر عام 2017، على تقوم شركة "تاشينا كونستراكشيون" الصينية ببناء مركز العاصمة التجاري، كما ستُقرض البنوك الصينية مصر ثلاثة مليارات لتمويل المرحلة الأولى المتوقع انتهاؤها بعد ثلاثة أعوام.  في حين أنّ مصر ملزمة بإنفاق الأموال عن طريق توظيف شركة هندسة البناء الحكومية الصينية. ومن المتوقع أن تبلغ قيمة المرحلة الثانية 3.2 مليار دولار. 

وبموجب العقد، يجب جلب 35 بالمئة من مواد البناء من الصين، لكن بعض الـ65 في المئة من مواد البناء القادمة من مصادر محلية، تعمل على إثراء الصين أيضا، بسبب وجود رجال أعمال مثل شين زو.

وصل شين إلى القاهرة منذ 17 عاما، بعد أن كان يعمل في مقاطعة هوبي مسقط رأسه، مشرفًا على مصنع لألواح الجرانيت والرخام في الأرضيات ومساطح المنضدة. وكان قد سمع في بلاده أن مصر غنية بالمحاجر الممتلئة بالصخور عالية الجودة وذات الأسعار المنخفضة.

وتولى السيطرة على الكثير من المنطقة صناعية خارج القاهرة. وعانى من الطرق الفظيعة وانقطاع التيار الكهربائي، لكن شركته اليوم توظف أكثر من 100 عامل، معظمهم مهاجرون صينيّون. ويشحن معظم إنتاجه إلى الصين. لكنه يهدف إلى بيعها في العاصمة الجديدة، أيضًا، مستفيدًا من نجاح بكين في إقامة نصب فرعوني حقيقي لزعيم مصر الاستبدادي.

التعليقات