07/05/2019 - 22:00

كيف تنظف الدول نفسها من الفساد؟ إندونيسيا نموذجًا

يُشكل الفساد السياسي في دول كثيرة، واقعا حياتيا قد يكون بالغ التوحش إلى درجة يصعب فيها السيطرة عليه. وبحكم تعريفها، فإن أسوأ مجرمي هذا النظام هم بعض الرموز الأكثر قوّة في المجتمع. حيث يدين الكثير من ضباط الشرطة والمدعين العامين

كيف تنظف الدول نفسها من الفساد؟ إندونيسيا نموذجًا

مظاهرة تطالب بحماية محققي "كي بي كي"

في ما يلي ترجمة خاصّة بـ"عرب ٤٨" بتصرّف:


يُشكل الفساد السياسي في دول كثيرة، واقعا حياتيا قد يكون بالغ التوحش إلى درجة يصعب فيها السيطرة عليه. وبحكم تعريفها، فإن أسوأ مجرمي هذا النظام هم بعض الرموز الأكثر قوّة في المجتمع. حيث يدين الكثير من ضباط الشرطة والمدعين العامين والقضاة الخاضعين لهؤلاء، بوظائفهم للشخصيات ذاتها صاحبة النفوذ. ويُعتبر الفساد مشكلة شائكة، حتى بالنسبة للدول ذات المؤسسات العامة المتطورة.

إذًا، كيف يبدو شكل مكافحة الفساد عندما يكون الجميع مشتركا فيه فعليا؟

على مدار عقود انتشر الفساد في إندونيسيا كانتشار الرطوبة، أي أنه كان دائم الوجود. وتذيلت إندونيسيا عام 1995، الترتيب الأولي لمنظمة الشفافية الدولية، حول الفساد الملحوظ للدول، وحلت في المرتبة الأخيرة. لكنها احتلت في العام الماضي، المرتبة 89 من أصل 180 دولة، وهي المرة الأولى التي تدخل فيها إندونيسيا النصف العلوي للجدول. ليست بشفافية الدنمارك (التي تصدرت المؤشر)، لكنها لم تعد قريبة من الصومال (المرتبة الأخيرة). ما هي الدروس التي يمكن أن تعلمها إندونيسيا لنا؟

سوهاترو (أرشيفية - أ ف ب)

عندما سقط الديكتاتور القديم، سوهارتو، من السلطة في عام 1998، ترك إرثًا من الفساد المتفشي في جميع مستويات المجتمع. ويُقدر أنه سرق نحو 35 مليار دولار خلال فترة العقود الثلاثة التي أمضاها في الحكم، والتي كسب خلالها لقب أكثر زعماء العالم فسادًا. وانتشرت ممارساته في كافة الأوساط الحكومية، بدءا بالوزراء الذين وزعوا أموال المشاريع على مكاتبهم المرصعة بالذهب، مرورا برجال شرطة المرور الذين جنوا الإتاوات والرشاوي على زوايا الشوارع المتربة. ونادرا ما حققت الشرطة في قضايا الكسب غير المشروع حتى في القضايا الجلية منها، وقليلا ما رفع المدعون قضايا يُفترض بأنها نتيجتها محسومة، للمحاكم والهيئات القضائية.

ومن ثم أسست الدولة عام 2002، "لجنة استئصال الفساد"، والمعروفة باسمها المُختصر المحلي "كي بي كي". وعملت الهيئة الجديدة بالتوازي مع الشرطة ومكتب المدعي العام، وكُلِّفت بصلاحية التحقيق مع أي موظف حكومي ومحاكمته على أي مخالفة تتعلق بالفساد.

وبينما ينطوي عمل موظفيها على التدقيق في أوراق الميزانية العمومية الجافة، فإن "كي بي كي" لديها ميزة المواجهة المباشرة. وتقع في مبنى خاص بها، ملون بجرأة بألوان علم الأمة: أحمر كالدماء، وأبيض مثل الحقيقة. وفي داخل المبنى، هناك مناخ عام متساوي مع ذلك الذي تتميز به الشركات التكنولوجية الناشئة، بل يبدو أن نجاح المنظمة رائع مثل ذلك الذي لدى الشركات "أحادية القرن" التي في وادي السيليكون الأميركي، ويتلخص بمعدل إدانة يصل إلى 100 بالمئة تقريبًا، وإصدار أحكام ضد أكثر من 1000 مسؤول حكومي فاسد.

وتقع مهمة تقديم أشخاص جدد للمحاكمة، ضمن مسؤولية أشخاص مثل المدعي العام فرديان نوغروهو، وهو شخص لطيف قادم من بلدة هادئة ونائية في مقاطعة جاوة الوُسطى، والذي شعر بالملل من ملاحقة قُطَاع الطرق، وانضم لـ"كي بي كي"، راغبا بتحد أكبر. واستطاع أن يصطاد "سمكة كبيرة" من بحيرة الفساد: فبعد عدة سنوات من انخراطه بالهيئة، أوقع بشخصية كبيرة تُدعى فؤاد أمين إمرون، والذي كان "رجنسي"، أي الوصي على إحدى مناطق جزيرة مادورا، وهو منصب بين رئيس البلدية وحاكم المقاطعة، والذي التهم أكثر من 42 مليون دولار.

وقال لي نوغروهو: "كانت النقود محشوة في كل مكان. ممتلئة في حقيبة تلو الأخرى، في الخزانة، وأسفل السرير". ولم يكن ذلك سوى جزء صغير من حجم السرقة، فقد بلغت جميع هذه الأموال المكدسة نحو 200 ألف دولار، لكن تحقيقات إضافية كشفت عن 28 مليون دولار مقيدة في عقارات و14 مليون دولار أخرى في حسابات مصرفية مُبيضة. ولقد كان فؤاد أمين، حفيد أحد أكثر العلماء المسلمين احتراما في الأمة، حيث كان جده المرشد الروحي لمؤسس أكبر منظمة إسلامية في العالم. وأضاف نوغروهو: "لقد احترمه الناس، وكذلك خافوه".

ويُنظر إلى مادورا في جميع أنحاء إندونيسيا، على أنها تعاني من سمعة مماثلة لشهرة صقلية، أي أن الأشخاص هناك صريحون ومباشرون ولا يترددون عن تسوية النزاعات بالعنف. وقُتل أحد عمال المنظمات غير الحكومية، بعد أن بدأ يتحقق من أعمال الوصي (ريجنسي) في عام 2015. وتبين أن قاتله ينتمي لحزب الـ"ريجنسي" السياسي، وحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر فقط، وفقًا لنوغروهو.

وعلى مدار عقد من الزمن، كان جميع الأشخاص في مقاطعة فؤاد أمين على دراية بممارساته، لكن أحدًا لم ينطق بكلمة للحكومة المركزية. ولم يتجرأ أحد في النهاية على إبلاغ "كي بي كي"، إلا بعد أن تقاعد الوصي، مورثا مكتبه، بطبيعة الحال، لنجله. وحُكم على أمين بالسجن عام 2017 لمدة 13 عامًا، وصودرت ممتلكاته.

وعلى الرغم من النجاحات التي حققتها الهيئة الحكومية، لا تزال أعمال مكافحة الفساد خطيرة. ففي إحدى أيام ربيع عام 2017، كان محقق "كي بي كي"، نوفيل باسويدان، يسير متجهًا إلى منزله عائدا من أحد المساجد عندما قام بلطجي على دراجة نارية برش وجهه بحمض الأسيد. ونجا باسويدان، لكنه أُصيب بالعمى في عين واحدة.

وتعرض لوحة إعلانية خارج مقر "كي بي كي"، صورة لوجهه المشوه، وتحسب الأيام والساعات والدقائق والثواني التي مرت دون تقديم مهاجمه إلى العدالة. ورسالتها واضحة، ومفادها أن الهيئة قد لا تتمكن من ضمان سلامة موظفيها، لكنها لن تسمح بتجاهل تضحياتهم.

ما الذي يُمكن أن نتعلمه من "كي بي كي" أيضا؟ لقد أشار نوغروهو إلى ثلاثة عناصر تجعل مؤسسته أكثر نجاحا من مؤسسات كثيرة موجودة. أولا، الاستقلالية، وقال نوغروهو: "لا أحد يتدخل بعملنا. لم أؤمر أبدا بالتراجع عن قضية معينة".

ثانيا، صلاحياتها غير العادية، فأوضح نوغروهو: "يمكننا التنصت على أي شخص نريد دون الحاجة لإذن من القاضي". وينبع منطق حرية التصرف هذه، من فساد المنظومة القضائية الإندونيسية بحد ذاتها؛ ويخضع القضاة لمقاضاة "كي بي كي" أيضا.

من محاكمة المتحدث باسم البرلمان الإندونيسي، سيتيا نوفانتو
عام 2018 بتهم فساد. (أرشيفية - أ ف ب)

أما العنصر الثالث فهو استعداد "كي بي كي" لملاحقة أهداف من جميع الأطياف السياسية. ويحتوي المشهد السياسي في إندونيسيا على 10 أحزاب كبيرة بما يكفي للفوز بمقاعد في الهيئة التشريعية الوطنية، وأحزاب صغيرة تكاد لا تذكر. ومعظم الأحزاب الكبرى تحت رادار "كي بي كي". ورغم أن درجة التحيز من عدمه في عمل الوكالة موضع خلاف، غير أن أحد المسؤولين المنتخبين السابقين الذين تحدثت إليهم، والذي طلب عدم الكشف عن هويته لأنه يقضي حاليًا عقوبة السجن في أعقاب تحقيق الهيئة بفساده، أيد على مضض سمعتها بالتزام العدالة.

ولكن "كي بي كي" كمنظمة مكلفة بمكافحة الفساد في دولة ينخرها الفساد، لم تف دائمًا بهذا الالتزام. ففي عام 2010، على سبيل المثال، حُكم على رئيسها بالسجن لمدة 18 عامًا بعد أن أمر بقتل أحد شركائه في الأعمال التجارية بسبب ابتزاز الأخير له بفضح علاقة غرامية خارج إطار الزواج كانت تجمعه بإحدى مساعداته.

علاوة على ذلك، يثير معدل الإدانات المرتفع مجموعة من الأسئلة.

هل المحاكمات والتحقيقات عادلة حقًا؟

ادعى المسؤول المنتخب السابق (المسجون حاليا) أن محاكمته لم تكن عادلة، وأنه لوحق من قبل وكالة الاستخبارات الإندونيسية، وأُدين بعد رفضه طلب القاضي الحصول على رشوة. إذا، هل تملك اللجنة هذا السجل المثالي بسبب ملاحقتها المسؤولين الأقل شأنا فقط؟ فربما تغض بصرها عن الأهداف الأكثر ضخامة.

ويقع أحد أجزاء الكفاح الإندونيسي للقضاء على الفساد في حقيقة أن سوهارتو لم يقض يومًا واحدا في السجن حتى وفاته عام 2008. ومن الصعب تبرير حملة صارمة على البيروقراطيين من المستوى الأدنى مع ترك عمالقة الفساد دون مساس.

على الرغم من ذلك، فإن أكبر مساهمة لـ"كي بي كي"، قد تكون مجرد إضفاء قدر معيّن من المساءلة مهما كانت منقوصة، فخلال السنوات التي عملت فيها اللجنة، ارتفعت إندونيسيا سنويا في تصنيف منظمة الشفافية الدولية، من القاع تدريجيا، قبل أن تصل أخيرًا إلى منتصف المؤشر.

بالمقارنة مع الولايات المتحدة اليوم، فإن عددا قليلا جدا من كبار المسؤولين، سُجنوا بتهم فساد. وقد ينتهي المطاف بسجن ممثل منتخب من حين لآخر، من بين المئات الذين يخدمون في الوقت ذاته، في سجن مُرفه، ولكن ذلك يحدث فقط إذا ما كانت لديه قابلية عالية للرشوة أو كان مهملًا بشكل استثنائي.

يمكن لأي شخص في أعلى الهرم السياسي، أن يتوقع بسهولة أنه لن يُحكم بأكثر من دفع غرامة أو الخضوع للمراقبة. وهذا ليس لأن السياسة الأميركية نظيفة بشكل غير عادي، فمن الصعب القول بأن الإدارة الأميركية الحالية كانت مثالاً على الاستقامة، كما أن الولايات المتحدة تحتل المرتبة 22 فقط في مؤشر الشفافية الدولية.

يكمن التحدي الأكثر إثارة للحيرة، في رسم الخط الفاصل بين الفساد السياسي والسياسة بشكل عام. وخلال بحثي من أجل كتابة هذا المقال، وجدت أن اثنين من دائرة معارفي الشخصية هنا في إندونيسيا، قد تم توقيفهما ومحاكمتهما وحُكم عليهما بالسجن في القضايا التي رفعتها "كي بي كي"،لا أظن أنني من الأشخاص الذين يتسكعون مع أصدقاء أو معارف فاسدين، لكن في مجتمع شارك جميع أفراده بدفع المال من أجل خدمات معينة، كإلغاء مخالفات المرور أو تسريع تصاريح البناء، كيف يمكن تحديد الشخص الفاسد؟

الولايات المتحدة ليست إندونيسيا على الإطلاق، من حيث معايير الفساد، لكن هذا لا ينبغي أن يكون سببا للرضا عن النفس. فعندما يتم التسامح مع الفساد السياسي، يمكن أن تتطبع به المجتمعات بسرعة.

لا تمثل "كي بي كي"، التي تستخدم التنصت على المكالمات الهاتفية بدون إذن قضائي والتي وظفت مجرمين مدانين، "الكتيبة المثالية" لحراسة الفضيلة، ومع ذلك، فإنها تُقدم دليلا حيا على التدابير المتاحة للمساعدة في القضاء على السياسة القذرة.

 

التعليقات