21/06/2019 - 23:50

إيطاليا: للبابا دورٌ سياسي أيضًا... مواجهة الفاشيّة

يبدو أنّ أمام إيطاليا حلّا واحدًا لمواجهة الشعبية المتزايدة لليمين الجديد، الآخذ بالازدياد ليس في البلاد وحدها، بل في عموم أوروبا: تكريس زعامة البابا

إيطاليا: للبابا دورٌ سياسي أيضًا... مواجهة الفاشيّة

بابا الفاتيكان (أ ب)

في ما يلي ترجمة خاصّة بـ"عرب ٤٨"، بتصرُّف:


قال نائب رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو سالفيني، متحدثا في اجتماع حاشد للانتخابات المحلية في فولينيو، وهي بلدة صغيرة وسط إيطاليا، في وقت سابق من الشهر الجاري، إنه يشعر كأنه أب لـ"60 مليون إيطالي". وصرح رئيس بلدية ميلانو الليبرالي، جيوسيبي سالا، ردا على الأول قائلا إنه لم يكن ليتمنى أن يكون شخص مثل سالفيني عمه. لكن سالفيني لم يتكلم بمنطق زعيم سياسي، بل كقائد ديني.

لقد أصبح سالفيني، الذي يشغل، أيضًا، منصب وزير الداخلية ورئيس حزب "رابطة الشمال" اليميني المتطرف، خلال الأشهر القليلة الماضية، الزعيم الفعلي للائتلاف الحاكم في إيطاليا. ومع تزايد سطوع نجمه، حوّل سالفيني خطابه نحو تبني الرموز الدينية الكاثوليكية، معبئا خطاباته بتعبيرات تُشير إلى مريم العذراء، ومصمّما نفسه كشخصية أبوية شبه باباوية.

وللمفارقة، ووسط حالة الفراغ الرهيب التي تُعاني منها السياسة الإيطالية، فإن المنافس الحقيقي الوحيد الذي يواجهه سالفيني اليوم، هو البابا بنفسه. فلم يقتصر الأمر على تبني البابا فرانسيس مواقف مؤيدة للهجرة، في تناقض مباشر مع رهاب الأجانب الصريح لـ"رابطة الشمال"، ولكنه ألقى تصريحات تنتقد قيادة سالفيني واعتماده على الرموز الدينية، بشكل مُبطن.

لكن البابا فرانسيس وسالفيني ليسا مجرد زعيمين رائدين لا يتفقان في ما بينهما، أو ربما يكرهان بعضهما البعض، أيضًا. فمع الازدياد المستمر في حالة الاستقطاب لدى الإيطاليين، يجسد الرجلان رأيين متعارضين حول الحضارة الغربية وحربها حول روح إيطاليا.

سالفيني وقادة اليمين في أوروبا (أ ب)
سالفيني وقادة اليمين في أوروبا (أ ب)

ويتخذ الصراع بينهما شكلا لبقًا في بعض الأحيان، فيما لا يبدو كذلك في أحيان أخرى. وكان فرانسيس قد ألقى أثناء استقباله لـ500 ممثل عن مجتمعي أقليتين غجريتين، في بدايات أيار/ مايو الماضي، خطابا هاجم فيه خطاب سالفيني المناهض للغجر، بشكل واضح، قائلا إن "هناك مواطنين من الدرجة الثانية، وهذا صحيح. لكن مواطني الدرجة الثانية الحقيقيين هم أولئك الذين ينبذون الناس؛ ويُعد هؤلاء الأشخاص من الدرجة الثانية لأنهم لا يعرفون كيف يحتضنون" الآخر.

ومع صعود سالفيني السياسي، كان دائمًا يضع مواقفه المناهضة للغجر، كإحدى العناصر الرئيسية في دعايته، متعهدا بطرد أكبر عدد ممكن منهم، ومؤكدا "أسفه" بأن بعضهم مواطنون إيطاليون.

وبعد مرور بضعة أيام على ذلك، قام الكاردينال كونراد كرايوسكي، وهو أحد المساعدين المقربين للبابا والزعيم الخيري الرسمي للفاتيكان، بانتهاك القانون الإيطالي وبكل فخر، عندما كسر قفل الشرطة لأحد المباني المُحتلة في روما، والتي كانت تنوي السلطات استعادته بعد أن تخلفت العائلات التي سكنته عن دفع فواتيرها.

وعلقت المحللة السياسية في صحيفة "إيل فوغيلو"، كريستينا جوديتسي، التي ألفت كتابين أيضا، عن حزب "رابطة الشمال"، على الواقعة قائلة إنه "لم يكن بإمكان كرايوسكي أن يتصرف دون موافقة البابا الضمنية على الأقل، وكانت الرسالة واضحة جدا: 'نحن ندافع عن الفقراء، وأنت لا تفعل ذلك، لذا لا تجرؤ على ذكر الإنجيل'".

ولم يلبث سالفيني، الذي تُقدم الشرطة تقاريرها مباشرة له، أنْ سارع إلى الرد على الاستفزاز، حيث قال في حشد شعبي في بلد برا القريبة من الحدود مع فرنسا "أريد أن أصدق أنه بعد استعادة السلطة (على المبنى)، فإنه (كرايوسكي) سيدفع، أيضًا، فواتيره المتأخرة التي تبلغ 300 ألف يورو".

ووصل الأمر بزعيم "رابطة الشمال" إلى حد مهاجمة البابا في خطاب مشين ألقاه في 18 أيار/ مايو الماضي في مدينة ميلانو، حيث استضاف الزعيمين اليمينيين المتطرفين، الفرنسية، مارين لوبن، والهولندي جيرت فيلدرز، في تجمع حاشد مشترك قبل انتخابات الاتحاد الأوروبي. وصرح: "للبابا فرانسيس، الذي قال إننا بحاجة إلى خفض عدد الوفيات (غرق المهاجرين) في البحر الأبيض المتوسط، أقول التالي، إن حكومتنا تخفض عدد الموتى في البحر الأبيض المتوسط إلى الصفر، بروح مسيحية وفخورة". وبمجرد أن ذكر سلفيني اسم فرانسيس بدأ الجمهور، الذي يتكون في معظمه من مؤيدي "رابطة الشمال" المتشددين، بالتعبير عن استهجانهم.

وكان البابا قد انتقد مرارًا وتكرارًا موقف الحزب العدائي تجاه طالبي اللجوء، وحملة القمع التي تشنها الحكومة على سفن الإنقاذ بشكل خاص، التي أخرجت معظم المنظمات الإغاثية غير الحكومية من البحر الأبيض المتوسط، ودفعت أيضا إلى إصدار مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين توبيخا لهذه المنظمات.

كما أنه انتقد سياسة سالفيني المتمثلة في منع السفن التي تحمل المهاجرين، من الرسو في موانئ إيطاليا، حتى وإن انتمت للأسطول البحري الإيطالي. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن فرانسيس لم يذكر اسم سالفيني أو ائتلافه الحاكم بشكل مباشر، أبدا، مفضّلًا استخدام تصريحات مُبطنة لكن لطيفة، مثل: "نسمع نداء الأشخاص المكتظين بالقوارب بحثًا عن الأمل، ولا يعرفون أي الموانئ سوف ترحب بهم، في أوروبا التي تفتح موانئها أمام السفن التي تحمل أسلحة متطورة ومكلفة قادرة على إنتاج أشكال الدمار التي لا تعفي الأطفال حتى".

سالفيني ومسبحته (أ ب)
سالفيني ومسبحته (أ ب)

وبدوره، هاجم سالفيني البابا بمزيد من العلانية، فقبل بضعة أعوام، كان يرتدي قميصًا مزينًا بعبارة "قداسة البابا بنديكت"، في إشارة إلى البابا بنديكت السادس عشر الذي استقال من منصبه عام 2011، والمعروف بشعبيته لدى الكاثوليكيين المحافظين. وفي مناسبة أخرى، رفض انتقادات فرانسيس في مقابلة تلفزيونية، قائلًا: "دعه يشعر بالقلق إزاء الأرواح، أنا قلق بشأن الإيطاليين المحتاجين".

وفي الوقت ذاته، قام وزير الداخلية مؤخرا، بعدة استعراضات علنية لتدينه الكاثوليكي. وفي أحد التجمعات، قبّل مسبحة تحمل إشارة الصليب، ولوّح بالإنجيل في حشد شعبي آخر. وعندما وصل حزبه إلى أعلى مستوى له على الإطلاق في صناديق الاقتراع، مسجلا 34 بالمئة في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، خصص سالفيني النتيجة التي حصل عليها حزبه، للسيدة مريم العذراء، أو بالأحرى إلى "قلب مريم الطاهر"، كما وصفها مستخدمًا مصطلحات شديدة التعبد.

ويعرض سالفيني على رف الكتب المعلق خلف مكتبه، أيقونة أرثوذكسية شرقية ليسوع المسيح، تجلس بجانب قارورة مياه من نهر بو، في إشارة إلى طاعته للماضي الوثني الجديد المزعوم لحزبه، والذي يتلخص بأن "رابطة الشمال" كانت حزبا شماليا انفصاليا، يدعي تمثيله للجذور "الكلتية" في الشمال، في مواجهة إيطاليا "اللاتينية"، وبعض من أعضائه يعبدون بشكل شبه ساخر "بو" كإله النهر. وفي البداية، أراد الحزب الانفصال عن إيطاليا بهدف إنشاء دولة جديدة تسمى "بادانيا"، لكنه خفف من مطالبه إلى المطالبة بالاستقلال الضريبي في الشمال الأكثر ثراء من الجنوب. وكان سالفيني هو الذي نقل الحزب إلى المستوى الوطني، حيث حوله إلى قوة قومية يمينية منذ أن أصبح زعيمه في أواخر عام 2013.

ويُعد الاستعراض الديني هذا، أمرا غير مألوف في إيطاليا؛ ويقول مُعد ومحلل استطلاعات الرأي لورنزو بريغلاسكو، الذي شارك مؤخرا في تأليف كتاب "ظاهرة سالفيني" الذي يركز على أسلوب تواصل الزعيم اليمين المتطرف مع الناس، إن "السياسة الإيطالية تُصبح غريبة عندما تنخرط بالدين. فمن ناحية، لا يوجد فصل كبير بين الكنيسة والدولة؛ ومن ناحية أخرى، فإن العقيدة ابتعدت عن الخطاب العام، خاصة إذا ما قارناها بحالة الولايات المتحدة".

ويُنظر إلى الدين في إيطاليا، على أنه مؤسسة أكثر من كونه منظومة عقائدية. ويُعد الإيطاليون شعبا علمانيا، لكنهم يعرّفون أنفسهم في الغالب بأنهم كاثوليكيون. وتتمتع الكنيسة بحضور قويولكن يُنظر إليها على أنها مصدر للاستقرار أكثر من كونها رمزًا للإيمان. وعلى سبيل المثال، ففي أحيان كثيرة، تعد الصحف الإيطالية مقالات عن صراعات السلطة داخل الفاتيكان، لكن العقيدة الدينية نادرًا ما تناقش.

ويعطي سالفيني في بعض الأحيان، انطباعا بأنه يريد إقناع الإيطاليين بأنه أكثر كاثوليكية من البابا. وكما أشار بعض المحللين، ينبع استعراضه للإيمان من ثلاثة دوافع: الأول، هو رد فعل على مهاجمة فرانسيس له، كما قال عالم الاجتماع بجامعة بولونيا والمؤلف المشارك لكتاب "رابطة سالفيني"، داريو تورتو، "لا يمكنه محاربة البابا بشكل مباشر، ولذلك، عندما يهاجمه على الجانب الاجتماعي للكاثوليكية، يحول الانتباه نحو الجانب التقليدي".

البابا فرانسيس يسعى لتخفيف التوتر مع المسلمين في ظل الإسلاموفوبيا (أ ب)
البابا فرانسيس يسعى لتخفيف التوتر مع المسلمين في ظل الإسلاموفوبيا (أ ب)

والثاني، بحسب ما يدعي تورتو، أيضًا، فإن سالفيني يحاول "تلطيف صورته" لجذب الناخبين المعتدلين من المحافظين الكهلة أو الأكبر سنا، والذين اعتادوا التصويت لصالح رئيس الوزراء السابق، سيلفيو برلسكوني، ولكنهم لم يؤيدوا سالفيني حتى الآن، ويقول تورتو إن "صورته الشريرة تخيفهم، ولكي يعوض عنها، فإنه يلجئ إلى شيء مألوف، مثل الدين".

أما الدفاع الثالث، فيقول تورتو، إن سالفيني يتوجه عبر هذا الأسلوب بشكل مُبطن إلى المتطرفين الرجعيين، الذين ليسوا كثيري العدد لكنهم ليسوا ضئيلي العدد إحصائيا.

وبالنسبة للناخبين من كبار السن، فإن سالفيني يسعى إلى طمأنتهم بأنه رغم النظرة العامة إليه على أنه مخيف، إلا أنه في أعماقه، رجل عادي يحمل صورة للأب بيو، القديس الأكثر محبة على قلوب الإيطاليين، في جيبه. أما بالنسبة للرجعيين، فهو يبعث برسالة مفادها أنه المدافع الحقيقي عن الهوية الكاثوليكية لإيطاليا، وليس البابا صاحب المشاعر المُرهفة والجياشة.

ولفت محلل استطلاعات الرأي بريغلاسكو، إلى أن "رابطة الشمال" لا تحظى بشعبية خاصة بين المصلين الدائمين في الكنائس، لكنها تحظى بشعبية كبيرة بين الذين يذهبون إليها بين الفينة والأخرى، أي الأشخاص الذين لا يمارسون الكاثوليكية حقا، لكنهم لا يزالون يعرّفون أنفسهم على أنهم كاثوليكيون. وتُظهر استطلاعات الرأي أنه من بين المواظبين على الذهاب إلى الكنائس، حظي الحزب بتأييد يقل عن معدلها الوطني البالغ 34 بالمئة، وينطبق الشيء ذاته على أولئك الذين لا يحضرون الكنيسة على الإطلاق. لكن 38.5 بالمئة من أولئك الذين يذهبون إلى الكنيسة بشكل متقطع، يصوتون لصالح سالفيني، وفقا للبيانات التي جمعتها وكالة الباحث، Quorum.

يتمتع سالفيني بشعبية لدى أولئك الذين يشعرون بأنهم كاثوليكيون لكنهم لا يمارسون العقيدة، لأن آرائه تتردد في ارتباطهم بالدين باعتباره هوية وطنية وقوة معاكسة ضد تدفق المهاجرين المسلمين. وهو لا يحظى بشعبية لدى الناخبين العلمانيين جدًا، الذين يميلون إلى الانتماء إلى اليسار، ولا عند الكاثوليكيين المخلصين الذين يحترمون البابا بعمق. ومن حسن حظه، فإن 71 بالمئة من الإيطاليين يعتبرون من غير الممارسين للكاثوليكية وفقًا لاستطلاع أجرته مجلة Eurispes عام 2016.

وهناك طريقتان للنظر إلى زيادة عدد الأحزاب اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا. يرى البعض أنها معركة بين مؤيدي التنوير ومناهضيه. فيما يرى آخرون أنها معركة بين المسيحية والهمجية: فمن ناحية، تدعي الكنيسة حملها قيم احترام الآخر والكياسة؛ ومن الناحية الأخرى، فإن هناك رفضا غير مستعد لتقديم اعتذارات، للأجانب وحقوق الإنسان الأساسية.

ويلائم التفسير الأخير إيطاليا أكثر من الأول، ففي الوقت الذي تكافح فيه المعارضة التقدمية لإيجاد صوت موحد لمواجهة كره "الرابطة" للأجانب، ظل الفاتيكان حتى الآن القوة الوحيدة القادرة على احتواء صعود سالفيني.

التعليقات