20/07/2019 - 23:18

خرافات عن الاستثنائية الأميركية تقتل اليسار

إن تمسك اليسار بمفهوم الاستثنائية الأميركية، والذي يعني أن الولايات المتحدة تختلف عن بقية دول العالم كونها "تحمل" مهمة عالمية لنشر الحرية والديمقراطية؛ يقتله شيئا فشيئا ليدفنه بعد ذلك في مقبرة الحزب الديمقراطي.

خرافات عن الاستثنائية الأميركية تقتل اليسار

ترامب (أ ب)

في ما يلي ترجمة خاصّة بـ"عرب 48"، بتصرُّف:


ليست الاستثنائية الأميركية محض أيديولوجية تفترض أن الولايات المتحدة هي منارة الحضارة، والتقدم، والإنسانية (البيضاء). وفي حين أن هذا هو تعريفها الشامل، فإن وظيفتها وشكلها لا يظلان دائمًا مرتبطين بشكل واضح برمزية الفولكلور العنصري الأميركي المتجذر بعمق في الحياة الثقافية للإمبراطورية. يفضح كتاب "الاستثنائية الأميركية والبراءة الأميركية: تاريخ شعب من الأخبار المزيفة – من الحرب الثورية إلى الحرب على الإرهاب" الذي شاركت في تأليفه، أساطير الاستثنائية الأميركية وينتقدها ويراجعها من منظور مناهض للإمبريالية. ومع ذلك، فإن النقد ركّز بشكل رئيسي على الأثر المدمر للبراءة والاستثنائية على اليسار في الولايات المتحدة، لذا إليكم خمس خرافات عن الاستثنائية الأميركية التي تقضي على اليسار بمهارة.

الخرافة الأولى: ترامب هو أخطر قوّة على الساحة السياسية الأميركية اليوم

يرى كثيرون من المحسوبين على اليسار، أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، هو نقيض التنوير الليبرالي، فهو عنصري، وذكوري كاره للنساء، وملياردير فاسد، وذلك صحيح تماما، وهو ما يدفع الأميركيين السود، والليبراليين، والتقدميين، إلى احتقار ترامب. وهذا أمر جيّد، لكن الالتباس يقع في المسار الخطير الذي تبناه اليسار ليواجه أو "يقاوم" ترامب، فقد نجحت الأوليغارشية الرأسمالية في تحويل الخوف من ترامب إلى مشروع لإصلاح وتنشيط ما يسمى بالقيم والمؤسسات "الاستثنائية" للدولة القومية الأميركية.

لقد ركزت "مقاومة" ترامب أساسًا على مؤامرة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، لتحويل الرئيس الملياردير إلى عميل أجنبي خطير يجب النظر إلى كفيلته روسيا، بقدر من الحذر الذي يُنظر فيه إلى ترامب. يتجاهل هذا التوجه الاستمرارية الحقيقية للغاية بين سياسات ترامب والإمبريالية الأميركية من خلال التشهير المرضي (السيكوباتي) بروسيا، فلم يكن ترامب ولا روسيا من خلق هذا النظام، ولم يفعل ترامب أكثر من الاستفادة من الركود النظامي والأزمة؛ أولا من خلال اكتساب الثروة عبر استغلال العمال (كما يفعل جميع الرأسماليين)، وثانيا من خلال الاستفادة من الفراغ السياسي الناشئ عن الإجماع بين الحزبين على شن الحروب اللانهائية، والتقشف المستمر، وهو إجماع بات الكثير من سكان الولايات المتحدة والعالم بأسره، يعتبرونه غير شرعي. وبدون وجود بديل للحزب الديمقراطي، لم يكن اليسار قادرًا على الحشد لأي تحد للأزمة السياسية الناجمة عن الاحتكار الثنائي للحزبين. الخطر إذن، ليس بشخص ترامب فحسب، بل يكمن بالمؤسسة السياسية بأكملها التي مكنته من الصعود إلى الحكم. وإذا نظرنا إلى ترامب على أنه خطر الإمبريالية الأميركية الوحيد، فمن المرجح أن يأخذ هذا التوجه، العالم إلى حرب نووية مع روسيا بدلاً من تحييد خطر الرئيس الأميركي.

الخرافة الثانية: حرية الصحافة في المجتمع الأميركي هي أمر مُقدس
تخضع وسائل الإعلام الأميركية لسيطرة عدد من الشركات ذات الاستثمارات العميقة في المجمع الصناعي العسكري، ومع ذلك، تواصل وسائل الإعلام الشركاتية اعتبار نفسها المصدر الوحيد لـ"الصحافة" الشرعية، وقد قدمت الحملة المزيفة التي شنها ترامب ضد وسائل الإعلام الشركاتية، للنخبة الحاكمة، أسبابًا لشن حرب ضد وسائل الإعلام المستقلة باسم انتزاع "الأخبار المزيفة" الحقيقية.

لكن ما يُشار إليه باسم "الأخبار المزيفة" هو نحن، اليسار. وقد صنفت النخبة الحاكمة مصادر مثل موقع "بلاك أجيندا ريبورت" على أنه تضليل إعلامي مدفوع من روسيا، واستخدمت عمالقة مثل "فيسبوك" و"جوجل" لفرض رقابة على وسائل الإعلام والمنظمات السياسية اليسارية على الإنترنت، وبينما تظهر استطلاعات الرأي، الواحد تلو الآخر، أن العديد من الأميركيين يرون حقًا أن وسائل الإعلام الخاصة بالشركات هي مصادر "أخبار مزيفة"، فإن الحرب على وسائل الإعلام المستقلة -مع وصم ترامب وروسيا بدور الوكيل- أعادت تنشيط الرواية القائلة إن وسائل الإعلام الأميركية الشركاتية تمثل "صحافة حرة"، وهذه سردية تسمح لهذا النوع من المؤسسات الإعلامية، أن تستمر بالضغط من أجل الحرب والتقشف بينما يتم إغراق اليسار بسبب الرقابة القائمة بالفعل.

الخرافة الثالثة: حقق مجتمع السود الأميركيين تقدما في عهد أوباما
انتشرت أوهام كثيرة حول الأوضاع المعيشية للأميركيين من أصل أفريقي وللعمال بشكل عام، منذ اعتلاء ترامب منصب الرئيس، فبينما يتفاخر الأخير بأن إداراته تستحق الثناء لعملها على إعادة إحياء الاقتصاد الرأسمالي، يعزو خصومه ذلك لما يُسمى بمكاسب إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، المزعومة؛ وكلاهما على خطأ، ففي حين أن الركود استقر بدلا من أن يزداد سوءًا، لا يمكن النظر إلى حالة المجتمع الأسود والعمال عمومًا على أنها تقدمت، إذا أخذنا الحقائق بعين الاعتبار، إذ إن 90% من الوظائف التي تم إنشاؤها خلال فترة أوباما كانت منخفضة الأجور أو مؤقتة، وهذا لم يتغير تحت حكم ترامب. خرج الأميركيون السود من عهد أوباما بثروة أقل مما كانت عليه قبل الأزمة الاقتصادية بين عامَي 2007-2008 نتيجة لخطة الإنقاذ التي قام أوباما بتسييرها للبنوك.

وستبلغ ثروة السود صِفرًا بحلول عام 2053 إذا ما استمرت الميول الاقتصادية الحالية، وهذا دون أن نتطرق لحقيقة أن هذه الميول لا تأخذ بعين الاعتبار الانهيارات الدورية للنظام الرأسمالي، وعلاوة على ذلك، يمكن عزو انخفاض معدلات البطالة إلى زيادة عدد العاملين المُحبَطين، أو العمال الذين توقفوا البحث عن عمل، والذين لا يتم احتسابهم في إحصاءات البطالة الفدرالية. بمعنى آخر، إن هذا "التقدم" هو بعين النخبة الحاكمة فقط، وعلينا أن نتجاوز السرديات حول التقدم الاقتصادي في الولايات المتحدة، لرؤية الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع الأسود والطبقة العاملة على نطاق واسع، كما هي في الحقيقة؛ تستمر وتتجذر.

الخرافة الرابعة: الدور الأميركي في الحرب العالمية الثانية

لا تزال الأسطورة القائلة إن الولايات المتحدة "أنقذت العالم" في الحرب العالمية الثانية، تطارد اليسار في الولايات المتحدة، وحتى عضو الكونغرس "الاشتراكية الديمقراطية"، ألكساندريا أوكازيو كورتيز، صرحت في مناسبات عدة بأن على الولايات المتحدة أن ترقى إلى مستوى، يُشابه الدور الذي يُفترض بأنها لعبته خلال الحرب العالمية الثانية في الماضي، بالتعامل مع أزمة تغير المناخ في الحاضر، وما الذي يعنيه ذلك؟ تفترض هذه التصريحات أن الولايات المتحدة هزمت الفاشية في أوروبا وآسيا، وجعلت العالم أكثر ديمقراطية ودفعته إلى أكثر فترة سلمية في تاريخ العالم. 

حتى التقدميون المناهضون للحرب، باتوا أكثر امتناعا عن التشكيك بدور الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، بسبب خرافة "الحرب الجيدة". تم نسيان إلقاء الولايات المتحدة قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي على الرغم من أدلة المسؤولين العسكريين الأميركيين في ذلك الوقت على أن استخدامها كان غير ضروري على الإطلاق.

وتتجاهل هذه التصريحات، القصف الأميركي البريطاني على مدينة دريسدن الألمانية الذي خّلف وراءه 300 ألف قتيل؛ والذي يرى المؤرخون أنه لم يكن ضروريا أيضا، وبتغاضي عن أن الولايات المتحدة انتظرت حتى عام 1941 لدخول الحرب، ورأت هتلر كأداة أساسية في إضعاف الاتحاد السوفييتي حتى تلك اللحظة.

وتحيط الحرب العالمية الثانية هالة مقدسة من الاستثنائية الأميركية، إذ يعتقد العديد من اليساريين أن "العصر الذهبي" للرأسمالية الذي أعقب الحرب يبرر، أو يعذر على الأقل، الجرائم العديدة التي ارتكبتها الولايات المتحدة أثناء مشاركتها في الحرب العالمية الثانية، ولكن العصر الذهبي للرأسمالية انتهى، ونحن في المراحل النهائية للنظام. إن المجمع الصناعي العسكري الذي تم إنشاؤه أثناء الحرب العالمية الثانية له دور كبير في قيادتنا إلى هذه اللحظة من التراجع الإمبريالي في الولايات المتحدة ويجب علينا أن ندرك حقيقة الحرب العالمية الثانية إذا ما أردنا تطوير حركة قوية معادية للإمبريالية في "بطن الوحش".

الخرافة الخامسة: روسيا هي عدوة الولايات المتحدة

منذ انتهاء انتخابات عام 2016، دأب الحزب الديمقراطي وحلفاؤه في أجهزة المخابرات الأميركية، على التحقيق في الاتهام الذي يُفيد بأن دونالد ترامب "تواطأ" مع روسيا للفوز بالرئاسة. وقد تم دحض هذه الادعاءات مرارًا وتكرارًا من قبل الصحافيين والأكاديميين، وأُوكلت مهمة التحقيق في مزاعم التدخل الروسي، لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق، وحبيب الليبراليين، روبرت مولر، لينهي تحقيقه بعد 600 يوم دون نتيجة تُذكر، ومع ذلك، فإن الادعاء بأن ترامب هو مغفل يخدم روسيا، ما يزال مستمرا في الانتشار، وذلك لأن القصة بأكملها لم تكن أبدا مسألة بحث عن حقائق، فقد كانت قضية التدخل الروسي، دائمًا، آلية سيئة الإعداد من جانب وكالات الرعب في الولايات المتحدة لتحييد ميول ترامب السياسية غير المتوقعة، ولكن أيضًا إلى تقويض اليسار.

لقد نشّطت هذه القضية، مجددا، الهستيريا المعادية للشيوعية التي كانت متأصلة بعمق في الهندسة السياسية العنصرية والإمبريالية للولايات المتحدة على مدار القرن العشرين، ووفرت الحملة المناهضة لروسيا لمكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية، عملية تجميل لعلاقاتهما العامة.

بعد أعوام طويلة من كفاح اليسار، وخاصة اليسار الأسود، في كشف رعاية الوكالتين للتعذيب والحرب في الداخل والخارج، وفي انتخابات عام 2018، ترشح عدد قياسي من القادمين مباشرة من أجهزة الاستخبارات العسكرية في صفوف الحزب الديمقراطي، ووُضعت القوى السياسية اليسارية مثل "بلاك أجيندا ريبورت"، في الخانة ذاتها، مع أمثال اليميني العنصري أليكس جونز، من قبل المؤسسات البحثية (Think Tank) التابعة للمحافظين الجدد، وفُرضت عليها رقابة بأشكال مختلفة على الإنترنت. لقد تم إلقاء اللوم على روسيا في نشر مؤسساتها الإعلامية كـ"روسيا اليوم" و"سبوتنيك"، للعمل كوكالات لحكومة أجنبية يُزعم أن تغطيتها لحملات مثل "احتلوا وول ستريت" و"حياة السود مهمة" هي المسؤولة عن وصول ترامب إلى الرئاسة.

إن كراهية اليسار لروسيا تُشكل خطرا عليه، ليس لأن العدائية العسكرية بين الولايات المتحدة وروسيا تضخمت على مدار أكثر من عقد من الزمن فحسب، بل لأن ترامب تماشى مع التمثيلية المصطنعة المعادية لروسيا، على المستوى السياسي، فعبر تحويل روسيا لعدوة الولايات المتحدة، سيزداد خنق قابلية اليسار على نشر رسالته عبر الإنترنت أو على الأرض الواقع، في بيئة سياسية صعبة أصلا.

ليست روسيا هي التي تحيك الخلاف في الولايات المتحدة أو في أي مكان آخر. روسيا ليست عدوة الشعب الأميركي، فهذه الوظيفة محفوظة للحكومة الأميركية. إن مهندسي "ملحمة" التدخل الروسي، هم تلك القوى التي قتلت تاريخيا وسجنت العشرات من قادة حركة تحرير السود في جهد مستمر لتحييد الحق في تقرير المصير للشعوب المضطهدة مثل المجتمع الأميركي الأسود، ومع ذلك، قليلون هم من يحتجون عندما تتهم دولة الشركات الأميركية، روسيا، بإثارة الاضطرابات السياسية السوداء، كما لو أن الأميركيين السود لا يحملون أي شكوى داخل إمبراطورية استعبدتهم ثم أبقتهم في أسفل سلم الطبقة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية منذ ذلك الحين.

الاستنتاج

بالطبع، لا تزال هناك خرافات كثيرة أخرى حول الاستثنائية الأميركية، التي تعيق الإدراك والوضوح السياسي لـ"اليسار" في الولايات المتحدة. ولا تفترض الاستثنائية الأميركية فقط أن الولايات المتحدة هي قوة خير في الداخل والخارج، بل تطالب حتى أكثر الدوائر السياسية ميلا إلى اليسار، بالنضال من أجل إصلاح (استرداد) نظام اجتماعي مبني على مليارات الجثث وأنصاف الأعمار التي أنتجها بنفسه، وهذا يقودنا في النهاية إلى الصراع بين الإصلاح والثورة، ففي حين أن مطالب الإصلاح التي تكشف الأوليغراشية الأميركية، هي ضرورية لأي حركة يسارية فعالة، فإن العملية هي تلك التي يتم من خلالها تحقيق هذه الحركة التي تحقق تلك المطالب التي تشكل طابعها الطبقي.

إن تمسك اليسار بمفهوم الاستثنائية الأميركية، والذي يعني أن الولايات المتحدة تختلف عن بقية دول العالم كونها "تحمل" مهمة عالمية لنشر الحرية والديمقراطية؛ يقتله شيئا فشيئا ليدفنه بعد ذلك في مقبرة الحزب الديمقراطي، وعلى اليسار الذي يمكن أن يحافظ على نفسه بموقع يتخطى جاذبية الاستثنائية الأميركية، أن يواجه في نهاية المطاف مظاهرها الأكثر تحديا، والتي طُبع الكثير منها في الثقافة السياسية لهذه "الإمبراطورية" المتدهورة.

التعليقات