14/09/2019 - 23:01

لماذا يعتبر الناس الفنون أكثر تحفيزا على الإبداع من العلوم؟

"إن أقصى اكتشافات الكيميائي، أو عالم النبات، أو عالم المعادن، ستكون أغراض مناسبة لفن الشاعر، مثلها مثل أي شيء يمكن تسخيره، إذا ما وصلنا إلى زمن تُصبح فيه هذه الأشياء مألوفة لنا...".

لماذا يعتبر الناس الفنون أكثر تحفيزا على الإبداع من العلوم؟

"التحليق فوق باريس عام 2000" كما تخيّله رسام في القرن 19 (الكونغرس)

في ما يلي ترجمةٌ خاصّة بـ"عرب 48"، بتصرُّف:


يبدأ كتابي الأخير "الشعر والموسيقى في العلوم" (2019)، بسرد تجربتي خلال زيارة المدارس وعملي في صفوف التعليم العام مع طلاب تتراوح أعمارهم بين السابعة عشر والثامنة عشر عاما، ومعظمهم أخبرني أنه لا يجد في العلوم مساحة للخيال والإبداع. ولم تكن هذه حالات منفردة، فقد سمعت هذا الادعاء باستمرار من طلّاب لديهم درجة عالية من الذكاء، تؤهّلهم من النجاح في أي موضوع يختارونه للدراسة.

ولا يحتاج المرء لأن يكون كعالم الفيزياء الشهير ألبيرت آينشتاين ليميّز أنه بدون الخطوة الأولى الأساسية، وبدون إعادة تخيل الطبيعة بطريقة إبداعية، وتصور الفرضية لما يمكن أن يحدث وراء السطح الظاهر لظاهرة عينية، فإن العلم لم يكن ليولد أصلا. وبالطبع، فقد أبدى آينشتاين رأيه في الموضوع، حيث قال في مقابلة عام 1929: "أنا فنّان إلى الحد الكافي الذي يمكّنني من رسم مخيلتي بحرية. الخيال أكثر أهمية من المعرفة. المعرفة محدودة. لكن الخيال يحيط بالعالم".

وهذا أمر يعرفه جميع العلماء، لكنهم حافظوا على مدار قرنين من الزمن، على كتمانهم حول هذه الفكرة، مفضلين استخدام سرديات أكثر أمانا، كـ"المنهج التجريبي" أو "منطقية الاكتشاف العلمي". وتُفضل المناهج التعليمية للعلوم، عادةً، عرض النتائج والتركيز على المعرفة، بدلًا من تدريس قصص عن عجائب البشرية ومخيلتها والأفكار التي جُرّبت وفشلت، وتلك اللحظات المجيدة وغير المتوقعة التي تضيء حياة كل من يبحثون بالعلوم حقا.

أينشتاين: الخيال أكثر أهميّة من المعرفة (أ ب)
أينشتاين: الخيال أكثر أهميّة من المعرفة (أ ب)

فيما تميل وسائل الإعلام إلى بث الرسالة ذاتها، ولن أنسى كيف عرض الفيلم الوثائقي الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، علوم الحوسبة، بطريقة حاولت إقناع المشاهدين، بأنه لا يوجد مجال للخيال في العلوم. ولا عجب إذن، أن يُصاب الطلاب بخيبة أمل قبل التوجه إلى هذه المواضيع.

إذا ما كان العلماء يشعرون بشيء من الخجل بسبب مخيلتهم، فإن جميع الفنانين والكتاب والملحنين الذين تحدثت إليهم، يتطلبون صبرا مماثلا لحثهم على التعبير عن حاجتهم المتكررة للاختبار. فإزالة الطلاء عن لوحة قماشية، أو إعادة صياغة رواية ما، للمرة العاشرة، أو تغيير مقطوعة موسيقية بشكل جذري، جميعها نتائج للقيود المادية التي يواجهها الإبداع دون أن يتوقعها مسبقا.

إذن، حتى الفنانة تطرح فرضيات حول كيفيّة قيام المواد التي بحوزتها وكلماتها وألحانها بالوصول إلى الهدف الموجود في عقلها، مهما كان تصوره غامضا. ويتبين أن التزامن التاريخي بين ولادة الرواية الإنجليزية، والمنهج التجريبي في العلوم، لم يكن محض صدفة. ودون أن أدعي بسذاجة أن الفنون والعلم "يفعلان الأمر ذاته"، فإن أوجه التشابه السردية في تجارب أولئك الذين عملوا في المجالين، ملحوظة. لكننا نحتاج إلى البحث قليلا عن هؤلاء، لأن العلماء الذين يشعرون بالخجل تجاه الحديث عن مخيلتهم، طمسوا زملاءهم القدماء، بينما أخفى الفنانون الذين يخجلون من التجربة، زملاءهم القدامى، أيضًا.

وأصبح مشروع الإصغاء لكل مُبتكر، إن كان ذلك في الموسيقى أو الرياضيات، أو الرسم ونظرية الكم، والقوة الإبداعية للقيود التي يواجهونها، مشروعَ كتابي نفسه. لكن، وفي طاعة غريبة لنمط المواد، فإن الصيغة الأولية المتخيلة من الكتاب، رفضت أن تظهر بالشكل الذي أريد. فقد فشل سعيي إلى وضع قوائم القصص الابتكارية بمحاذاة بعضها البعض في العلوم والفنون، المتبوع بمقال موسع عن "التباين والمقارنة"، بشكل متزايد في منح المادة حقها. فقد كانت المصادر التاريخية والمعاصرة تروي قصة مختلفة تمامًا عن الخيال الإبداعي، لم تنقسم عبر الخطوط البالية "للثقافتين". بل ظهر أن هناك نمطا من ثلاثة "أشكال" للتعبير الإبداعي، كان أكثر إخلاصا للمادة التي جُمعت في الكتاب.

يعمل الشكل الأول المتمثل بالمخيلة البصرية، كمصدر أساسي للفنان، لكن الكثير من العلماء يعتبرونه كذلك، أيضًا، بدءا من علماء البيولوجيا الجزئية، وحتى علماء الفيزياء الفلكية. فعلم الفلك هو المزود للرسم المنظوري الإسقاطي الأصلي. وإذا ما طُلب من مراقب لوحة ما، إعادة إنشاء عالم ثلاثي الأبعاد من تصور أو انطباع على لوحة ثنائية الأبعاد، فإن مهمة "رؤية" الكون من الصورة التي نسميها السماء تحمل تشابها هيكليا واضحا.

الشكل الثاني، هو النصي واللغوي؛ قد يحتوي التشابك بين العلوم والكلمات المكتوبة في النثريات والأشعار، على عقدة مبدئية أثناء ولادة الرواية، كما أسلفنا، لكن القصة التي تسردها أطول بكثير. كما أن لديها "تاريخًا بديلًا"، يتصوره الشاعر ويليام وردزورث، في مقدمة كتابه "القصص الغنائية" الذي صدر عام 1798، (وبالتأكيد لدى الكاتبين، يوهان فولفجانج فون غوته، وألكساندر فون هومبولت، من قبله) والذي ذكر فيه:

"إن أقصى اكتشافات الكيميائي، أو عالم النبات، أو عالم المعادن، ستكون أغراض مناسبة لفن الشاعر، مثلها مثل أي شيء يمكن تسخيره، إذا ما وصلنا إلى زمن تُصبح فيه هذه الأشياء مألوفة لنا...".

ورغم الاستثناءات في أعمال روائيين آخرين، فإن هذه الرؤية الرومانسية المبكرة لم تتحقق بعد للأسف، ولا شك أن طرق العرض الجافة لمجال العلوم، التي ذكرناها أعلاه، تعمل على إحباطها بشك إضافي.

ويظهر شكل التخيّل الثالث، مع غياب الصور والكلمات. فهناك، حيث كان يُمكننا أن نتوقع فراغا إبداعيا، نجد، بدلًا من ذلك، التجريدات الرائعة والغامضة للموسيقى والرياضيات. إن هذه المساحة المشتركة بينهما هي، بالتأكيد، سبب تشابه بعض سمات المجالين، ولا نقصد مشاركتهما السطحية في التركيب العددي الذي يربط اللحن والانسجام مع التركيب الرياضي، بل أشكالهما التمثيلية في أكوان كاملة من الصناعة العقلية (المخيلة).

عندما تكون الرحلة قد اتخذت مكانًا يعكس مكانًا كهذا، فإنها ليست سوى خطوة قصيرة لإدراك الحاجة إلى التفكير متعدد التخصصات لفهم كل شيء. فالأنثروبولوجيا (علم الإنسان) وعلم الأعصاب الإدراكي للإبداع رائعان، فالأول يأخذنا إلى الأدوات الحجرية التي استخدمها أسلافنا في فجر البشرية، بينما يأخذنا الآخر إلى التوازن الدقيق بين نصف الكرة الأيسر التحليلي لأدمغتنا، ويمينها التكاملي.

الكاتب: حنة أرندت ممن ساهوا في إرساء تقليد علم الظواهر (أ ب)
الكاتب: حنة أرندت ممن ساهموا في إرساء تقليد علم الظواهر (أ ب)

والتقليد الفلسفي ليس أقل ثراءً منهما، فعلى سبيل المثال، إن اكتشاف شكوك إيمانويل ليفيناس تجاه الشكل البصري، بسبب تباعده الضمني، مفضلا الصوتي أو السمعي عن غمره بالموضوع في الجسم. يتحدث تقليد علم الظواهر الصادر عن العلماء مارتن هايدغر، وموريس ميرلو بونتي، وحتى حنة أرندت، عن وضع مترابط بين ما هو إنساني وغير إنساني ينشر كلا من الفن والعلم لوصف الطبيعة كما لو كانت نتاجًا للخيال البشري. كما كتب الناقد الأدبي جورج شتاينر في كتابه "وجود حقيقي" (1989):

"وحده الفن يستطيع قطع طريق ما نحو إتاحة الوصول، نحو الاستيقاظ إلى حد ما من قابلية الانتقال، الاختلاف غير الإنساني المطلق للمادة...".

أستطيع أن أقول الأمر ذاته عن العلوم. فكيف يمكن تطوير تقدير أكثر ثراءً للخدمة التي يقدمها الخيال الإبداعي في العلوم، بطريقة عملية؟ هناك عواقب لكل من العلماء الممارسين أنفسهم والمجتمع ككل.

بالتفكير في نشأتي كفيزيائي محترف، لا أستطيع أن أتذكر ساعة واحدة قضيتها خلال تدريبي للدكتوراه أو ما بعد الدكتوراه، على جانب أساسي من جوانب الإبداع مثل مناقشة ممارسات العمل أو أنماط الحياة التي قد تعزز التدفق الإبداعي الحيوي للأفكار العلمية. ومع ذلك، هناك الكثير مما يمكن قوله: المشاركة المنتظمة مع ما هو سماعي وما هو بصري، وتناوب التركيز العقلي الحاد والتركيز البؤري التكاملي، وإتاحة فترات من الراحة عند العمل على مشكلة ما؛ وتستحق جميع هذه الأمور التحدث عنها في وقت مبكر في مهنة علمية.

وعلى نطاق أوسع، فإن الخير التأملي من وضعية العلوم، والمشاركة في الكتابة العلمية عالية الجودة، بما في ذلك "الاستثناءات البارزة" الشعرية، كـ"كتاب فابر للعلوم" لمؤلفه جون كاري، وإدراك أن العلم يحمل هيكلًا عميقًا في الثقافة الإنسانية، شأنه شأن الفن، سيقوم بإثراء المجل وتمكينه.

ومن خلال استكشاف سبل أخرى في العلوم غير التعليمية رسميًا، تاريخها وفلسفتها، وطرح أفكارها العميقة ببساطة، واستكشاف المتعة من خلال الملاحظات الحادة للطبيعة، قد يكتشف المزيد من الناس أن فكرة "العلوم غير ملائمة لي"، المكتسبة في أحيان كثيرة، في وقت مبكر من حياة الأشخاص، هي محض خدعة قاسية.


* الكاتب أستاذ الفلسفة الطبيعية في قسم الفيزياء بجامعة يورك في بريطانيا.

التعليقات