19/09/2019 - 23:10

لماذا يؤمن الفلكيون بالمادة المظلمة؟

تظل الحقيقة أننا لم نكتشف المادة المظلمة مباشرة، حتى الآن، وهذا لا يزعجني بشكل خاص، لأن الفيزياء لديها تاريخ مع الجسيمات التي استغرقت عقودا لاكتشافها مباشرة؛ قد أشعر بالقلق إذا ما لم نكتشفها بعد 20 عامًا من الآن

لماذا يؤمن الفلكيون بالمادة المظلمة؟

المادة المظلمة (ناسا/ أ ب)

في ما يلي ترجمةٌ خاصّة بـ"عرب 48"، لمقال كتبه الأستاذ المساعد في العلوم الفلكية في جامعة موناش في أستراليا، مايكل ج. ي. براون، بتصرُّف:


المادة المظلمة هي مادة غير قابلة للرؤية في طبيعتها، ولا يُمكننا أن نراقبها بالتلسكوب ولم يحظى فيزيائيو الجسيمات حتى الآن، بشرف اكتشافها من خلال التجارب.

إذن لماذا أومن أنا والآلاف من زملائي، بأن معظم كتلة الكون تتكون من المادة المظلمة، بدلًا من الإيمان بأن المادة التقليدية التي تشكل النجوم والكواكب وجميع الكائنات الأخرى المرئية في سمائنا، هي الطاغية في كتلة الكون؟

للإجابة على هذا السؤال، علينا أن نقدّر ما بوسع المادة المظلمة أن تفعله، وما تستطيع فعله، وإدراك أماكن تواجد هذه المادة في الكون، وفهم أن كونها "مظلمة" هو بمثابة بداية اللغز فقط.

التأثير غير المرئي

تبدأ قصتنا حول المادة المظلمة من السرعة والجاذبية، فنحن نرى على امتداد الكون، أجسامًا تسافر في مدارات تحت تأثير الجاذبية. فكما يدور كوكب الأرض حول الشمس، فإن الشمس تدور حول مركز مجرّتنا.

والسرعة التي يحتاج أي جرم فضائي أن يصل إليها لكي يبقى في مداره، هي عبارة عن معادلة تدمج بين الكتلة والمسافة. فعلى سبيل المثال، تتحرك الأرض في مجموعتنا الشمسية، بسرعة 30 كم في الثانية، بينما تتحرك الكواكب الأكثر بعدًا، بسرعة بضعة كيلومترات في الثانية.

تعدّ مجرّتنا ضخمة للغاية، وتدور الشمس حول مركز المجرة الذي يبعد عنها 26700 سنة ضوئية، بسرعة 230 كم في الثانية. ومع ذلك، بينما تبتعد المسافات أكثر عن مركز المجرة، تظل السّرعات المدارية للنجوم ثابتة تقريبا. فما سبب ذلك؟

على عكس نظامنا الشمسي الذي تهيمن الشمس على كتلته، تنتشر الكتلة في مجرّتنا عبر آلاف السنين الضوئية، وكلما اتّسعت المسافات بين الأجسام الفضائية ومركز المجرة، ازداد عدد النجوم وكمية الغازات المحصورة داخل نصف قطر دائرتها؛ فهل يمكن لهذه الكتلة الإضافية أن تفسر السرعات الهائلة التي تسير بها النجوم البعيدة في مجرتنا؟ ليس تماما.

في ستينيات القرن الماضي، قاست العالمة الفلكية الأميركية الرائدة، فيرا روبين، السّرعات المداريّة في مجرّة المرأة المسلسلة المحاذية لمجرّة درب التبانة، ضمن مسافات تبعد حتى 70 ألف سنة ضوئية عن مركز المجرة. ومن اللافت للنظر، أنّه على الرغم من أن هذه المسافة تتجاوز نجوم وغازات المرأة السلسلة، بأضعاف، إلا أن السرعة المدارية بقيت تتراوح حول الـ250 كم في ثانية.

ولا تميّز هذه الظاهرة مجرّات محدّدةً دونًا عن الأخرى، ففي ثلاثينيّات القرن الماضي، اكتشف الفلكي السويسري الأميركي، فريتز زويكي، أن المجرّات التي تدور داخل العناقيد المجرية، كانت تتحرّك بسرعات أكبر بكثير مما كان متوقعًا.

ما الذي يحدث إذن؟

قد يكون أحد الاحتمالات لحدوث ذلك، هو أنّ هناك كميات هائلة من كتلة غير مرئية، تمتدّ إلى ما هو أبعد من النجوم والغازات، وهي المادة المظلمة. وفي الواقع، تشير أعمال زويكي وروبين، ودراسات أجيال لاحقة من علماء الفلك، إلى أن وجود المادة المظلمة في الكون يتعدى كمية المادة التقليدية بكثير (أما بالنسبة للطاقة المظلمة، فهذه قصة مختلفة تماما).

وللمفارقة، فإن عدم قدرتنا على رؤية المادة المظلمة أو الاطلاع عليها، هو ما يمنحنا بعض الأدلة على طريقة تصرفها، فلا بد أن لها تفاعلات قليلة مع ذاتها ومع المادة التقليدية، بشكل منفصل عن قوة الجاذبية، وإلا لكنا استطعنا تحديدها في الانبعاثات الضوئية وتفاعلها مع الجسيمات الأخرى.

ومع أن المادة المظلمة تتفاعل غالبًا عبر الجاذبية وحدها، فإن لها بعض الخصائص الغريبة. فيُمكن لسحابة من الغاز الساخن في الفضاء أن تفقد الطاقة عن طريق انبعاث الضوء، ما يؤدي إلى برودها؛ فيما يمكن أن تنهار سحابة غاز على قدر كافٍ من الضّخامة والبرودة، تحت جاذبيتها، لتشكل نجومًا.

للمادة المظلمة بعض الخصائص الغريبة (أ ب)

وعلى النّقيض من ذلك، فإن المادة المظلمة لا تخسر طاقتها بانبعاثات الضوء. لذلك، في حين أنّه يمكن للمادة التقليديّة أن تنهار في أجسام كثيفة مثل النجوم والكواكب، فإن المادة المظلمة تبقى أكثر تفرّقًا. وهذا يفسر تناقضًا واضحًا؛ في حين أن المادة المظلمة قد تكون مهيمنة على كتلة الكون، فلا نظن أن الكثير منها يتواجد في نظامنا الشمسي.

نجاح المحاكاة

ونظرًا لأن الجاذبية هي القوة الوحيدة التي تؤثر على حركة المادة المظلمة، فمن السهل نسبيًّا أيضًا تحليلها بطريقة نموذجية وفي عمليات المحاكاة.

ومنذ السبعينيات، تمكّنّا من العثور على صيغ لعدّة هياكل للمادة المظلمة، والتي يصدف أنها تتنبّأ أيضًا، بعدد المجرات العملاقة وعناقيد المجرات. علاوة على ذلك، تستطيع المحاكاة نمذجة تراكم الهياكل من خلال تاريخ الكون. ولا يتوافق نموذج المادة المظلمة مع البيانات فحسب، بل لديه قوة تنبُّؤيّة.

هل هناك بديل للمادة المظلمة؟ لقد استخلصنا وجودها باستخدام الجاذبية، لكن ما الذي يضمن لنا أن طريقة فهمنا للجاذبية صحيحة؟ ماذا لو كنا نتعامل معها بشكل خاطئ؟ فقد تكون الجاذبية أقوى مما نظن في المسافات الكبيرة.

هناك عدّة نظريات بديلة للجاذبية، لكن "ديناميكا نيوتن المعدلة"، للفيزيائي موردخاي ميلغروم، هي المثال الأكثر شهرة على ذلك.

كيف نميّز المادة المظلمة عن الجاذبية المعدلة؟ حسنًا، في معظم النظريات تجذب الجاذبية نحو الكتلة، وبالتالي، إذا لم تكن هناك مادة مظلمة، فإن الجاذبية تجذب نحو المادة التقليدية، بينما إذا كانت المادة المظلمة مُهيمنة، فإن الجاذبية سوف تسحب بالدرجة الأولى نحو المادة المظلمة.

لذا يجب أن يكون من السهل الآن، معرفة النظرية الصحيحة، أليس كذلك؟ لا، ليس بالضبط على الأقل، فالمادة المظلمة والمواد التقليدية تتبع بعضها البعض تقريبا، ولكن هناك بعض الاستثناءات المفيدة. فعندما ترتطم سحب الغازات في المادة المظلمة، ينجم شيء رائع عن هذه العملية؛ يصطدم الغاز ببعضه مشكّلًا سحابة واحدة، بينما تستمر جسيمات المادة المظلمة في التحرك تحت تأثير الجاذبية. يحدث هذا عندما تصطدم عناقيد مجرية ببعضها البعض بسرعات هائلة.

إذن كيف نقيس قوّة شد الجاذبية في اصطدام العناقيد المجرية؟ حسنا، لا تؤثر الجاذبية على الكتلة فحسب، بل على الضوء أيضا، لذلك يمكن للصور المشوهة للمجرات تتبع أثر الجاذبية. وفي تصادم العناقيد المجرية، تسحب الجاذبية نحو المكان الذي يجب أن تكون فيه المادة المظلمة، وليس نحو المادة التقليدية.

التموجات في الوقت

يمكننا أن نرى تأثير المادة المظلمة بالماضي السحيق، وليس في عصرنا فقط، وصولًا إلى الانفجار العظيم. ويُمكن رؤية إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، أي الشفق الضخم الذي نجم عن الانفجار العظيم، في جميع الاتجاهات؛ ويُمكننا أن نرى التموجات في كرة النار هذه، وهي ناجمة عن الموجات الصوتية المتنقلة عبر الغاز المتأيّن.

ونتجت موجات الصوت هذه عن تفاعل بين الجاذبية والضغط ودرجات الحرارة في أولى مراحل نشوء الكون. ورغم تأثير المادة المظلمة في الجاذبية، إلا أنها لا تتفاعل مع درجات الحرارة والضغط مثل المواد التقليدية، وبالتالي فإن قوة الموجات الصوتية تعتمد على نسبة المادة التقليدية من المادة المظلمة.

وكما كان متوقّعا، تكشف قياسات هذه التموجات التي التقطتها عدسات الأقمار الاصطناعية والمراصد الأرضية، أن المادة المظلمة أكثر انتشارًا من المادّة التقليدية في كوننا.

إذن، هل انتهت القصة؟ هل المادة المظلمة هي الإجابة الوحيدة المتاحة على هذه المعضلة؟ قد يفترض معظم الفلكيّين أن وجود المادة المظلمة هي التفسير الأبسط والأفضل للكثير من الظواهر التي نراها في الكون. وعلى الرغم من وجود مشكلات محتملة لنماذج أبسط المواد المظلمة، مثل عدد المجرات القمرية الصغيرة، إلا أنها تمثل مشاكل مثيرة للاهتمام وليست عيوبًا قهرية.

ولكن تظل الحقيقة أننا لم نكتشف المادة المظلمة مباشرة، حتى الآن، وهذا لا يزعجني بشكل خاص، لأن الفيزياء لديها تاريخ مع الجسيمات التي استغرقت عقودا لاكتشافها مباشرة؛ قد أشعر بالقلق إذا ما لم نكتشفها بعد 20 عامًا من الآن، لكنني أراهن الآن أن هذه المادة المظلمة هي التفسير لهذه الظواهر.

التعليقات