10/12/2019 - 00:17

الاقتصاد الأميركي لا "يزدهر" بعيون صغار الكسبة

ستكون أي عملية إعادة توزيع شاملة للثروات، مهما كانت فوضوية، أكثر "ديمقراطية" من الأوليغارشية الحالية، ولا يمكن لشيء أن يكون غير عقلاني أكثر من الوضع الحالي. تعريف الديمقراطية وتحديد قواعدها سيشرف عليه الأشخاص الذين يتحركون نحو بناء عالم جديد

الاقتصاد الأميركي لا

توضيحية (pixabay)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بـ"عرب 48"، لمقال المدير التنفيذي لموقع Black Agenda Report، جلين فورد.


على مدار العقود الثلاثة الماضية، أنتج الاقتصاد الأميركي المزيد من الوظائف "السيئة" على نحو متكرر، بغض النظر عن الحزب الذي كان على رأس السلطة (الديمقراطي أو الجمهوري). وذلك لأن السياسة الاقتصادية التي تنتهجها الطبقة الحاكمة منذ ذلك الحين، هي ما يعرف بسياسة "السباق نحو القاع"؛ أي تقليص القوانين التي تنظم عمل الشركات والضرائب المفروضة عليها، للحفاظ على الأنشطة الاقتصادية وجذبها.

وتظهر دراسة أعدها مركز أبحاث "مؤسسة بروكينغز"، أن 44 في المئة من العمال الأميركيين، يكدحون في وظائف "منخفضة الأجور"، مع متوسط دخل يبلغ نحو 18 ألف دولار سنويا. وتشير الدراسة إلى أن معظم هؤلاء، هم من البالغين الذين لا يزالوا في بداية مسيرتهم المهنية، والذين لا توفر رواتبهم سوى احتياجات عائلاتهم الأساسية، ويعيش 20 في المئة منهم تحت خط الفقر.

وتوضح الدراسة أن الأميركيين من ذوي الأصول الأفريقية أو اللاتينية، هم الأكثر عملا في الوظائف ذات الأجور المنخفضة، مقارنة بغيرهم من شرائح المجتمع الأميركي، ولكن أكثر من نصف هذه الوظائف "السيئة" مُدارة من قبل أشخاص بيض.

وهناك إجماع بين الشركات، تمثله أيضا وسائل الإعلام الشركاتية المملوكة من قبلها، مفاده أن الاقتصاد في ازدهار مستمر، وهو الأمر الذي لا يؤكد سوى أن الطبقة الحاكمة تنتهج سياسة "السباق نحو القاع"، بغض النظر عن مدى إبداء "ليبراليي" المؤسسات البحثية مثل "مؤسسة بروكينغز"، "تحسرهم" على المشاق التي يتعرض لها العمال الفقراء.

تداعي الطبقة العاملة مركب أساسي في جوهر النظام منذ تصميمه. فتُظهر دراسة أخرى أجراها "مؤشر جودة الوظيفة" الأميركي، أن انتشار الوظائف منخفضة الأجور اليوم، ليس ناجما عن تداعيات الانهيار الاقتصادي عام 2008، بل هو سمة من سمات رأسمالية المرحلة المتأخرة، أي تلك التي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد قال أحد مؤسسي المؤشر: "في عام 1990، كانت الوظائف مقسمة بالتساوي إلى حد كبير. واكتشفنا أن 63 في المئة من جميع الوظائف التي تم إنشاؤها منذ عام 1990 كانت منخفضة الأجر، أو جزئية".

وتُظهر البيانات كيف سرّعت سياسة "السباق نحو القاع" وتيرة تفشي هذه الوظائف في كل من الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة؛ أي تحت رئاسة كل من جورج بوش الأب، والابن، وبيل كلينتون، وباراك أوباما، وصولا إلى دونالد ترامب، الذي بنى حملته الانتخابية الساعية لتمكينه من السلطة مرّة أخرى العام المُقبل، على قوة الاقتصاد في عصره.

ويعد نظام الاحتكار الثنائي، آلية رائعة لضمان استمرارية حكم الشركات وسحق الطبقة العاملة، فعندما لا يُسمح إلا للحزبيين "الشركاتيين" بحكم البلاد، وتفرض أبواق الشركات هيمنتها على وسائل الإعلام، فيصبح البؤس الذي يتسبب به الرأسماليون (للطبقة العاملة) أمرًا طبيعيًا ولا مفر منه. ولا يسع نخبة الباحثين في "مؤسسة بروكينغز" إلا أن يتخيلوا أن الطريقة "الوحيدة" للخروج من دوامة انحدار تلك المناطق التي تعد فيها الوظائف السيئة هي المعيار، تتلخص بـ"جذب وتنمية المزيد من الوظائف ذات الأجور المرتفعة من خلال جذب شركات جديدة ومساعدة الشركات الحالية على النمو وزيادة إنتاجيتها".

وبكلمات أخرى، فإن ذلك يعني زيادة السياسات الرأسمالية، ولكن تلك التي تأتي على طراز يتحلى بمزيد من الوعي الاجتماعي. لكن من الواضح أن سوق الأوراق المالية يفضل الرأسمالية التامة، التي تكافئه بعائدات عالية، ويعاقب الرأسماليون الذين لا يُفقرون موظفيهم أو يستعبدونهم عبر التعامل معهم من خلال مقاولي الأجور المنخفضة. 

وتختلط العمالة ذات الأجور المنخفضة، باضطراب، مع التوظيف مرتفع الأجور الذي يُزعم أنه يميز ما يسمى بالمدن الناجحة. فبحسب "مؤسسة بروكينغز"، يبلغ عدد الوظائف السيئة نحو "مليون وظيفة في منطقة واشنطن العاصمة، و700 ألف وظيفة في كل من بوسطن وسان فرانسيسكو، و560 ألف وظيفة في سياتل. ويعد التعامل مع الدمج بين الأجور المنخفضة، وارتفاع أسعار المساكن مشكلة رئيسية في هذه الأماكن".

وتقر المؤسسة البحثية بأن التعليم ليس حلا لهذه الظاهرة، فيؤكد الباحثون أنه "لا توجد وظائف كافية تدفع أجورا مناسبة للأشخاص الذين لا يملكون شهادات جامعية (والذين يشكلون غالبية القوة العاملة) للهرب من الأعمال منخفضة الأجور". كما أن الكثيرين من العمال من ذوي الأجور المنخفضة، يملكون شهادات جامعية، فيظهر البحث أن "14 في المئة منهم حاصلون على شهادة البكالوريوس، وثمانية بالمئة منهم يملكون شهادات دبلوم".

وأصبحت القطاعات بأكملها متداعية، حيث يحصل 75 في المئة أو أكثر من العمال على أجور منخفضة، وتشمل "العاملين في مجال البيع بالتجزئة، والطهاة والعاملين في إعداد الطعام، وعمال تنظيف المباني، والعاملين في مجال تقديم الأغذية والمشروبات، والعاملين في مجال الرعاية والخدمة الشخصية (مثل العاملين في رعاية الأطفال ومساعدي العاملين في رعاية المرضى)"، وغالبا ما تكون العمالة في القطاع الأخير، من النساء، وتحديدا من السود وذوي الأصول اللاتينية.

ولا يُسمح لمفكري "مؤسسة بروكينغس" التفكير خارج الصندوق، لكنهم ملزمون بالإدلاء بتصريحات عمومية تعبر عن نوايا مجتمعية خيّرة. وفي هذا السياق قالت إحدى العاملات في المؤسسة، إيمي لوي، إنه "يجب أن يكون هدف التنمية الاقتصادي، دعم النمو المشترك والدائم، وزيادة إنتاجية الشركات والعمال على حد سواء، ورفع مستويات المعيشة للجميع". ولكن إحداث ذلك يعني إجبار الرأسماليين على إعادة هيكلة ممارساتهم لتتلاءم مع المصلحة العامة، أو ترك الاقتصاد لسيطرة العمال الذين ينتجون الثروة، مع ضمان حصول كل من يريد العمل على جزء من هذه الثروة، وهو أمر لا يمكن تصوره.

ورغم بساطة المقترح، إلا أنه يبقى غير قابل للذكر حتى في الفقاعة المُفرغة من الفكر الذي تفرضه وسائل الإعلام الاحتكارية، وخوارزميات محركات البحث المزورة. لذلك، فإن السردية الرأسمالية تنتهي دائمًا بعلامة استفهام بالنسبة للمثقفين المُكبلين، الذين وُظفوا لمَنطَقَة الجحيم الاجتماعي الذي أنشأه ممولو مراكز الأبحاث التي يعملون بها.

ويكتب الباحثون في "بروكينغز": "من أين تأتي الوظائف الجيدة؟ ربما يكون هذا هو السؤال الحاسم في اقتصادنا السياسي المعاصر"، ومن ثم يتركون الأمر عند هذا الحد، دون إجابة قد لا يقبلها "أسياد رأس المال".

تغذي سياسة "السباق نحو القاع"، تراكم الثروة والسلطة لدى أولئك الموجودين في أعلى الهرم الاجتماعية. وذلك يعني أن الاشتراكية هي الحل الوحيد، أي اشتراكية تضرب جذورها في تقرير مصير جميع الشعوب التي خضعت للرأسمالية منذ ظهورها في الاستعمار والعبودية، والتي تتميز بـ500 عام من السرقة الصارمة، والوحشية، والإبادة الجماعية، للأرض والعمل والشعوب.

ولا تكمن الطبيعة "الديمقراطية" لهذه الاشتراكية في صناديق الاقتراع التي يشرف عليها خادمو الطبقة الرأسمالية الحاكمة، بل في الحركة الجماهيرية الساعية للتخلص من اللصوص الذين يزعمون أنهم "يمتلكون" موارد العالم، والذين يشكلون طبقة صغيرة جدا لدرجة أننا نعرف كبار الأسماء فيها، بدءا من الملياردير جيف بيزوس.

وستكون أي عملية إعادة توزيع شاملة، مهما كانت فوضوية، أكثر "ديمقراطية" من الأوليغارشية الحالية، ولا يمكن لشيء أن يكون غير عقلاني أكثر من الوضع الحالي. سيتم تعريف الديمقراطية وتحديد قواعدها من قبل الأشخاص الذين يتحركون في عملية بناء عالم جديد.

 

التعليقات