28/06/2020 - 23:27

الحياة على الأرض دليل سطحي لوجود حضارة فضائية

إن أي افتراضات نقوم بها حول خصائص مثل الذكاء استنادا إلى ما نعرفه حاليا عن الحياة على الأرض، هي افتراضات تعاني من أُسُس هشة للغاية. ويبدو أن استخدام هذه الافتراضات بالتحليلات الكمية لاحتمال وجود حضارات في أماكن أخرى في الكون

الحياة على الأرض دليل سطحي لوجود حضارة فضائية

توضيحية (Pixabay)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصة بـ"عرب 48"، لمقالِ عالم الفيزياء الفلكية، كاليب شارف، الذي يشغل منصب مدير قسم علم الأحياء الفلكي في جامعة كولومبيا في نيويورك، ومؤسس معهد yhousenyc لتدريب الوعي البشري والآلي. صدر كتابه الأخير عام 2017 بعنوان "كون قابل للتقريب: جولة ملحمية من خلال مقياس كوني، لكل شيء تقريبا، وحتى اللاشيء".


قد يُخيّل لك أنه في خضم الجائحة العالمية الحالية التي تسبب بها فيروس كورونا وجميع تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، فإن عقولنا ستركز على الويلات والمِحن الأرضية المُلِحّة، ولكن يبدو أن ذلك ليس صحيحا، ومن الأمثلة على ذلك الانتشار الفيروسي الأخير الذي حظي به عنوان إخباري مفاده أن هناك "36 حضارة فضائية على الأقل" في مجرتنا. وليس عشر حضارات، ولا ألفا أو مليارا، بل 36 حضارة بالتمام والكمال. هذا الموجود، 36 حياة ذكية أخرى تعيش في جوارِنا الكوني، وما عليك إلّا الموافقة.

في مثل أوقات كهذه، يمكنك أن تسمع تنهدا جماعيا تقريبا يصدر عن علماء الفلك وباحثي علم الأحياء الفلكي، والذين يدركون أنه يجب عليهم أن يشمّروا عن سواعدهم ليحاولوا بلطف، وبأدب، أن يشرحوا بعناية لماذا يعتبرون هذه العناوين من الطبيعة ذاتها للمادة المنبثقة عن الجهاز الهضمي.

ولكنني أستبق الأمور هنا، ففي الوقت الحالي، يُطرح السؤال حول ما إذا كنا وحدنا في الكون أم لا، من أجل إجابة علمية ما. وربما أكثر من أي وقت مضى في التاريخ البشري المسجل، وليس لغاية عبثية بل هناك مجموعة من الأسباب لهذا الشعور بالإلحاح والأهمية. وأحدها نعلمه جيدا، هو أن هناك وفرة شبه خيالية من الكواكب في أنحاء الكون، ومن المحتمل أنها أفضل حاضنات للكيمياء المعقدة المصاحبة للحياة كما نفهمها، ناهيك عن أننا نقترب أكثر فأكثر نحو القدرة على تقييم بعض هذه العوالم الأخرى، والكواكب الخارجية، مستعينين بدقة البيانات التي يمكن أن تكشف عن بصمات بدائية للحياة من خلال رصد تفاعلاتها الكيميائية، التغييرات التي تحدثها على بيئة كوكبيّة. وبالتزامن مع ذلك، يتجدد الاهتمام بالسعي للبحث غير المقتصر على أدلة لاحتمال وجود حياة، بل على وجود أدلة على حياة تكنولوجية أيضا؛ إما عبر بثِّ معلومات منظمة في موجات الراديو أو نبضات الليزر، أو من خلال نحت محيطها بطرق تعكس وجود نية وتطور.

بناءً على ذلك، يبحث علماء كُثُر اليوم عن طرق لدمج حتى أصغر التلميحات أو الأدلة الصادرة عن بيانات جديدة لمعرفة ما إذا كان يمكننا أو لا يمكننا التوصل إلى بيانات ذات دلالة إحصائية حول احتمالية الحياة في مكان آخر، سواء كان ذلك على شكل ميكروبات أو حضارات. وبهذا المعنى، وأنا أدمج نفسي بهذه الفئة من الباحثين، فنحن نتصرف كأطفال يهزّون هداياهم المغلفة بإتقان من أجل معرفة ما الذي بداخلها. ولكن المشكلة في حالتنا، أن هذا الغلاف قد لا ينجلي لفترة طويلة، وأن جميع تكهناتنا تستند إلى افتراضات أساسية تعتمد على معرفة مُسبقة أو توقعات قد تكون شديدة التحيُّز وغير عادية بحدّ ذاتها.

"يبحث العلماء عن طرق لدمج حتى أصغر التلميحات أو الأدلة" (توضيحية - Pixabay)

وهذه الافتراضات ذاتها التي تعيدنا إلى التصريحات التي احتلت العناوين الرئيسية حول وجود مزعوم لـ36 حضارة فضائية، إذ أن هذه العناوين تستند إلى دراسة جديدة أجراها العالمان القديران، توم وستباي وكريستوفر كونسيليلس في جامعة نوتينغهام البريطانية. وملخص ما يقوله هذان العالمان، هو أنه استنادا إلى حسابات دقيقة ومحددة للغاية والتي سأتطرق إليها لاحقا، فإنه لا بد من افتراض وجود محتمل لما بين 6 حضارات و200 حضارة فضائية قادرة على التواصل في مجرتنا.

ويتضمن الحصول على هذه الأرقام عدّة خطوات، بعضها مرتبط بتحليل فيزيائي فلكي مفصّل لتقييم العدد المحتمل للنجوم والأنظمة الكوكبية لأعمار معينة وتركيبات أولية. ويتبين بحسب البحث مثلا، أن النجوم في مجرتنا يبلغ عمرها المتوسط نحو 9.8 مليار عام، بتطابق غير مفاجئ مع عمر العصر الذي تشكلت فيه معظم النجوم.

لكن الخطوات الأخرى تشتمل على افتراضات شائكة للغاية ومن الصعب جدا تبريرها. ولا أقول هذا لانتقاد الدراسة دون مسوّغ، لأنها منفتحة وصادقة تماما حول هذه الافتراضات، كما أنها تشكّل مساهمة محفزة في الإجابة عن هذه الأسئلة. ومع ذلك، فإن الافتراضات هي الحلقة الأضعف في هذا بحث، كما هو الحال مع الافتراضات المماثلة في جميع الأوراق البحثية التي كُتبت حول هذا الموضوع تقريبا.

وفي هذه الحالة، هناك افتراض لـ"مبدأين" فلكيين بيولوجيين كوبرنيكوسيين (أي النظرية القائلة إن الأرض ليست مركز الكون، كما أن البشر ليسوا مركزه أيضا)، أحدهما ضعيف والآخر متين. والضعيف هو عبارة عن سيناريو يفترض أنه بحسب ما نشهده على كوكب الأرض، فإن الكواكب لا تبدأ بتشكيل حياة ذكية إلا بعد أن تبلغ 5 مليارات عام من العمر. وأما المبدأ القوي، فيقول إن الحياة الذكية لا بدّ أن تتكون بعد مرور ما بين 4.5 و 5.5 مليار عام على وجود الكوكب، كما يبدو أنه حدث على كوكب الأرض. وينبع التبرير لاختيار هذه الأرقام من الفكرة القائلة إنه إذا لم تكن الأرض أمرا مميزا في الكون، فإننا نتوقع أن تحذو العوالم الأخرى الحاضنة للحياة، حذوها. ومن ثم يُشتق العدد المُقدّر للحضارات الفضائية من هذه القيود، بعد دمجها مع الإحصائيات المحسوبة للكواكب الخارجية وخصائصها.

"مسار الحياة هنا قد يكون قابلا للتكرار جزئيًا فقط" (توضيحية - Pixabay)

وفي هذه النقطة أيضا، يتكدر البحث العلمي بشكل مبرر، إذ أن الدحض التّقني الأكثر مباشرة لهذه الافتراضات والمبادئ المقترحة هو أننا نعاني على الأرض من "انحياز البقاء" قوي. وعلى سبيل المثال، إذا ظهرت الحياة الذكية في وقت أبكر بكثير، أو بعدنا بكثير، فإنها ستنظر إلى تاريخها وستختار أيضًا زمن وجودها على أنه "الأكثر احتمالا" لبقية أشكال الحياة غير المكتشفة بعد.

هذه مشكلة شائكة. لكننا أصبحنا نعلم مدى إشكاليتها، وقد تم عمل مقعد للقيام بنشر أدوات ما يسمى بـ"أرجحية النظريّة الافتراضية"، لمحاولة اتخاذ هذا التحيز بعين الاعتبار. وتخبرنا نتائج جميع هذه المساعي أننا جاهلون حقا، وكمّيا، بشأن المسار الأكثر احتمالية للحياة، وأن نقاط البيانات الأرضية، تتمتع بقوة تمييزية محدودة للغاية.

أما الدحض الآخر، والذي يُمكن اعتباره أكثر إثارة للاهتمام من نواح كثيرة، فيتعلق بجهلنا المدهش بطبيعة الحياة نفسها، وطبيعة الظاهرة التي نسميها بتبجح؛ "الذكاء". وبسبب هذا الجهل، فإن المساعي لخطّ مسار تطوري للحضارات، وكأنه مهمة بسيطة تتعلق بعمر الحياة على كوكب واحد مثل الأرض، تبدو مدعاة للسخرية المحقة.

ما لدينا هو شعور ناشئ بأن الحياة وبيئتها الكوكبية تتشابكان بشكل لا ينفصم. ويمثل كل جزء من أجزاء التاريخ البيئي العميق للأرض قصة معقدة بحد ذاتها، عن التفاعلات والترابط بين الحياة والكوكب؛ وبين الكيمياء الجيولوجية والكيمياء الحيوية. ونتيجة لذلك، فإن مسار الحياة هنا قد يكون قابلا للتكرار جزئيًا فقط، في أي مكان آخر من الكون، حتى إذا افترضنا وجود مجموعة الأدوات الكيميائية نفسها، والبنى الجزيئية الحاملة للمعلومات والكيمياء الحيوية، ونفس قواعد الاختيار والتطور.

وتميل طبيعة الذكاء أو القدرة التكنولوجية، أيضا، إلى الاختلاط مع فكرة أن الحياة، في المتوسط، تبدو أكثر تعقيدا بمرور الوقت. وقد افترض أن تحسينات التنبؤ التي يتيحها التعقيد (قدرات الإسقاط على الشبكات العصبية والعقول) هي عنصر واحد في أصل هذه النزعة. وإذا استطاع كائن حي ما أن يخمّن المستقبل بشكل أفضل، فينبغي له أن يعيش بشكل أفضل، ولكن، وبالطبع، ظلت أشكال حية مثل البكتيريا وحتى الحياة النباتية، دون تغيير إلى حد كبير منذ مئات ملايين، بل مليارات الأعوام، إذ يبدو أنه بالنسبة للبيولوجيا، إذا كان الكائن الحي يعمل بشكل جيّد، فلا يبدو أن هناك حاجة ملحة لتغييره. لذا، فإن دافع الحياة نحو الذكاء خلال فترة تطور هو، في أحسن الأحوال، فرضية.

(توضيحية - Pixabay)

باختصار، إن أي افتراضات نقوم بها حول خصائص مثل الذكاء استنادا إلى ما نعرفه حاليا عن الحياة على الأرض، هي افتراضات تعاني من أُسُس هشة للغاية. ويبدو أن استخدام هذه الافتراضات بالتحليلات الكمية لاحتمال وجود حضارات في أماكن أخرى في الكون، هو محض مبالغة في معظم الحالات، رغم أن هناك قيمة للتمرين الفكري كتحضير للوقت الذي قد نحصل فيه ربما على المزيد من البيانات.

وتوجد كذلك ربما، قيمة لأي أمر يجعلنا في أيام وليالي الأشهر القادمة، أن نتوقف مؤقتا ونفكر في الصورة الأكبر، لإيجاد فترة راحة بسيطة من خلال التأمُّل في القصص المتداعية إلى ما لا نهاية للمجتمعات والحضارات أثناء ظهورها عبر الزمن الكوني.

التعليقات