22/02/2021 - 22:06

عودة نافالني زعزعت استقرار نظام بوتين

أصبح الكرملين الآن محاصرًا في المعضلة الاستبدادية المعتادة، إما أن يخاطر بتصعيد دائرة الاستقطاب السياسي من خلال تصعيد العنف المنهجي، أو المخاطرة بتزايد الاحتجاجات وتتالي تكشف مواطن ضعفه

عودة نافالني زعزعت استقرار نظام بوتين

تجسيد بوتين وهو يقاتل نافالني، عُرض كجزء من كرنفال سياسي في ألمانيا (أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بموقع "عرب ٤٨" للكاتب، فلاديسلاف دافيدزون، وهو صحافي وفنان عمل في السابق في تغطية أوكرانيا، وهو رئيس تحرير مجلة "أوديسا ريفيو".


في 23 كانون الثاني/ يناير 2021، شهدت روسيا سلسلة من الاحتجاجات هي الأضخم والأوسع منذ نحو عقد. وجاء احتشاد المتظاهرين الذين خرجوا للاحتجاج ضد نظام الرئيس، فلاديمير بوتين، استجابة لدعوات زعيم المعارضة، أليكسي نافالني، والذي عاد منتصرًا إلى روسيا ليقود الاحتجاجات بعدما تعرّض لتسميم بغاز أعصاب من الدرجة العسكرية.

مع حلول يوم الاحتجاجات، عمّت المظاهرات التي دعا إليها نافالني وفريقه، ما لا يقل عن 120 مدينة وبلدة في جميع أنحاء روسيا. وبذلك، أظهر نافالني للسلطات والشعب الروسي، والعالم بأسره، أنه يلقى دعم مواطنين روس على استعداد للتظاهر والاحتجاج من أجله حتى وإن أدى ذلك إلى اعتقالهم من قِبل شرطة مكافحة الشغب. كان هذا انتصارًا للمعارضة، هذا إن لم يكن نصرًا حاسمًا لها، ولا سيما أنه أظهر فوضى وعبثية رّدة فعل النظام.

مؤيدون لنافالني في سان بطرسبرغ (أ ب)

ومما لا شك فيه، أنّ احتجاجاتٍ بهذا المستوى من التحشيد والحيوية؛ لم تندلع في روسيا منذ ما يقرب من عقد من الزمان، وهي تنذر بمرحلة جديدة من الصراع بين المعارضة والسلطة. وترافقت مظاهرات شارك بها أعداد هائلة من المتظاهرين في موسكو وسانت بطرسبرغ، مع إقبال غير متوقع -وبخاصة بالنسبة للحكومة- للناس على احتجاجات في البلدات والمناطق بالأرياف، التي لا ينضم سكانها عادةً لاحتجاجات بدأت في موسكو.

وكان الطابع المتجهّم للاحتجاجات في منتصف الشتاء، مؤشرا على استياء اجتماعي واسع النطاق من اتجاه الدولة الجديد، والذي ينذر بمواجهة مطولة مع الكرملين، وبتصعيد محتمل في الإجراءات القمعية للدولة. من ناحية أخرى، تبرز وبشكل غير متوقع، روح احتجاج جديدة في أنحاء روسيا، إذ أشارت التقارير الميدانية والعديد من الدراسات والاستطلاعات التي أجريت خلال المسيرات الاحتجاجية إلى أن ثلث المتظاهرين على الأقل، كانت هذه أول مرة يخرجون فيها للشوارع طوال حياتهم.

نافالني خلال إحدى محاكماته (أ ب)

على عكس العديد من قادة المعارضة الروسية السابقين، لا يمكن الآن اتهام نافالني بأنه جنرال بلا جيش. فقد أخرج حشودًا ضخمة وسط البرد القارس في كانون الثاني/ يناير في روسيا، بل حتى في مدن سيبيريا المتجمدة. ولكن تحويل هذا الزخم إلى بنية تحتية سياسية مستمرة لمواجهة النظام سيكون أمرًا صعبًا.

وفي حين أن الغالبية العظمى من الاحتجاجات كانت سلمية، إلا أن الأمر لم يخلُ من العنف تمامًا، ولكن معظمه نشب بتحريض من السلطات أولًا. إذ أظهرت مقاطع فيديو كثيرة، عناصر شرطة مكافحة الشغب وهم يهاجمون المتظاهرين بشكل عشوائي، وأظهرت مقاطع فيديو أخرى متظاهرين ينتقمون بالقوة من قوات الأمن الروسية.

وعجّت وسائل التواصل الاجتماعي الروسية بمقاطع فيديو لعناصر شرطة مكافحة الشغب وهم يضربون المتظاهرين بالهراوات. وفي أحد المقاطع الذي تسبب بغضب عارم، يهاجم شرطي قوي البنية طفلًا يبلغ من العمر 10 أعوام، ليقبض عليه بينما يصرخ المتظاهرون "إنه مجرد طفل!". وكانت عشوائية الاعتقالات والعنف واضحة تمامًا، ففي أحد الفيديوهات واسعة الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي، تظهر امرأة شابة تبكي وتتوسل شرطي لألا يقبض على صديقها، ليخرج شاب مهيب جسديًا، بشجاعة من الحشد، موجهًا كلامه للشرطي: "هل عليك أن تصل لعدد معتقلين معيّن يا صاح؟ خذني بدلا منه". يوافق الشرطي على عرض الشاب على الفور ويصفّق الجمهور ويهتف بينما يُقتاد الشاب بعيدًا. مثّل المشهد تجسيدًا قويًا للطبيعة التعسّفية للقانون في روسيا بوتين، وهو أمر يدركه الجميع ولكن نادرًا ما يظهر بهذا الوضوح.

تحويل الزخم لبنية تحتية لمواجهة النظام أمر صعب (أ ب)

ورغم عدد الأرقام الأولية للمعتقلين، يبدو من المؤكد أن عدة آلاف من المتظاهرين قد اعتُقلوا في جميع أنحاء البلاد، ولا تزال المنظمات الحقوقية بالإضافة إلى المحللين في طور جدولَة نتائج العدد الدقيق للمحتجزين، ولكن من المرجح أن يبلغ نحو 3500 معتقل. أما في ما يخص الكرملين، فيكمن الخطر السياسي في احتمال تطوّر الأحداث في الاتجاه ذاته للأحداث في بيلاروسيا (روسيا البيضاء) المجاورة، والتي شهدت حتى الآن مواجهة بين الحكومة والمعارضة استمرت لأشهر. وكما هو الحال في بيلاروسيا، قد يتعرض الكثيرون للاعتقال، لكن السلطة مُستحكمة إلى حد يستعصي الإطاحة بها. ولكنها تعرّضت للضرر.

لم يكن رد الحكومة سلسًا كالمعتاد، فالفيديو الذي عرض به نافالني "قصر" بوتين المزعوم، وهو مبنى ضخم وبشع، سلط الضوء على خصمه أكثر، حتى أن بوتين اضطر إلى الادعاء المحرج بأنه لم يكن لديه الوقت لمشاهدة تحقيق نافالني الموثّق بفيديو من 90 دقيقة، والذي حصل على أكثر من 100 مليون مشاهدة على موقع "يوتيوب" بعد أسبوع من نشره، وفي بيانِ نفيٍ مُصاغ قانونيًا وصف الفيديو بأنه عملية غسيل دماغ، نفى بوتين بشكل قاطع أن يكون هو أو "أقاربه المقربون" "امتلكوا أو يمتلكون العقار". استنادًا إلى تفاصيل هيكل الشركة الوهمية المعقدة التي تعود لها ملكية القصر، والتي كشف عنها تحقيق نافالني، فإن ادعاء بوتين صحيح من الناحية التقنية.

أخرج نافالني حشودًا ضخمة وسط البرد القارس (أ ب)

وكان تركيز نافالني وجماعته على الفساد قرارًا ذكيًا، من أجل التشديد على السخط الشعبي تجاه انعدام المساواة في روسيا.

وفي وقت لاحق، رد بوتين بشكل غير مباشر على تحقيق نافالني في ثروته، من خلال مخاطبة الناس عبر تطبيق "زوم" متحدثًا عن قضية انعدام المساواة في الدخل في المنتدى الاقتصادي العالمي السنوي. وحذر بوتين من احتمال "حرب الكل ضد الكل"، وفي غضون ذلك، داهمت الشرطة الروسية منزل عائلة نافالني والمقربين منه.

ولم تمنع الاحتجاجات السلطات من إصدار حكم بالسجن ضد نافالني، ولكن المدة المحددة لعقوبة السجن التي أٌصدرت بحق نافالني تعد مؤشرا لنوايا بوتين. إذ إنه كان سيُنظر إلى حكم مخفف بالسجن على أنه إشارة إلى تسوية محتملة مع الخصم، لكن قادة روسيا، الذين يولون أهمية بالغة لعدم إظهار الضعف، وألا يُنظر لهم أنهم استسلموا للاحتجاجات في اتخاذ قراراتهم، سيضاعفون بلا شك من القمع بأشكال أخرى في المستقبل القريب، على الرغم من اهتمامهم الكبير باستطلاعات الرأي، فيما دعا زعماء المعارضة وأعوان نافالني إلى مزيد من الاحتجاجات.

قد يتّجه النظام إلى "تصعيد العنف المنهجي" (أ ب)

لا يُمكن تجاهل هذا الشعور العميق بأن حكومة بوتين تعاني من قدر معين من الهشاشة المتصلبة، ناهيك عن أن الاحتجاجات هي مؤشر سلبي بالنسبة للكرملين أثناء استعداده للانتخابات البرلمانية في أيلول/ سبتمبر المقبل. ويبدو أن هدف الكرملين الدائم بحفاظ حزب بوتين، أي "روسيا المتحدة"، على أغلبية ثلثين في البرلمان، غير مرجح إذا استمر تطور الأحداث بهذه الطريقة، وقد تستنتج الحكومة أنها بحاجة إلى إجراء غش منظم أكثر وضوحًا في صناديق الاقتراع، أكثر من المنسوب التي تفضله عادة. وسيساهم هذا بالطبع في تدهور شرعيتها العامة.

أصبح الكرملين الآن محاصرًا في المعضلة الاستبدادية المعتادة، إما أن يخاطر بتصعيد دائرة الاستقطاب السياسي من خلال تصعيد العنف المنهجي، أو المخاطرة بتزايد الاحتجاجات وتتالي تكشف مواطن ضعفه، فقد قلبت عودة نافالني إلى موسكو جميع الحسابات السابقة رأسا على عقب.

التعليقات