18/03/2021 - 23:28

شخصنة السياسة... داء الديمقراطيّات الحديث

لا يقتصر نهج الشخصنة في الأحزاب السياسيّة على المشهد السّياسي الأميركي فقط، ففي سائر أنحاء العالم، وعلى نحو مطّرد، يتحوّل العمل السياسي في الديمقراطيات إلى شأن مُشخصَن، إذ نرى قادة حزبيين يكتسبون سلطة أكبر داخل أحزابهم.

شخصنة السياسة... داء الديمقراطيّات الحديث

التمثال الذهبي على هيئة الرئيس الأميركي السابق، ترامب (أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بموقع "عرب 48" لمقال كتبه كلّ من أندريا كيندال تايلور، وهي من كبار الباحثين في برنامج الأمن عبر الأطلسي الذي تديره في "مركز الأمن الأميركي الجديد"، والأستاذة المساعدة في العلوم السياسية بجامعة ولاية ميتشيغان، إيريكا فرانتز، والباحث في العلوم السياسية من جامعة ولاية بنسلفانيا، جوزيف رايت.


مع أن "مؤتمر العمل السياسي للمحافظين" الذي عُقد في شباط/ فبراير الماضي، خرج من لائحة أخبار الساعة، إلّا أن صورةً واحدة لا تزال عالقة في الأذهان؛ طوال المؤتمر، ’وقف’ في إحدى زوايا القاعة تمثال ذهبيّ جذب اهتمام جميع الحضور، إذ كان على هيئة الرئيس الأميركيّ السابق، دونالد ترامب.

واعتبر البعض أن وجود تمثال كهذا، يقدّم استعارة مثاليّة عما يحدث في الحزب الجمهوريّ، فمذ أن ترك منصب الرئاسة، واصل ترامب شنَّ هجوم شخصيّ على شخصيات قياديّة في الحزب، من بينهم زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، السيناتور ميتش ماكونيل، ومارس ضغطًا كبيرًا على أعضاء آخرين في الحزب، لحظر وإدانة، بل وطرد قادة جمهوريين آخرين، ممن يراهم غير أوفياء وغير مخلصين له، باتّساق تامٍّ مع ما دأب عليه طوال رئاسته من تعزيز لسلطته ونفوذه في الحزب الجمهوريّ على حساب زملائه.

لا يقتصر نهج الشخصنة في الأحزاب السياسيّة على المشهد السّياسي الأميركي فقط، ففي سائر أنحاء العالم، وعلى نحو مطّرد، يتحوّل العمل السياسي في الديمقراطيات إلى شأن مُشخصَن، إذ نرى قادة حزبيين يكتسبون سلطة أكبر داخل أحزابهم بحيث أصبحت سياسات هذه الأحزاب تعكس أهواءَهم بدل أن تعمل كما قُدّر لها أن تكون؛ سيرورة من المساومات بين أطراف ومؤسسات متعددة داخل الحزب. وإذا استمر هذا الاتجاه، فلا شّك أن الديمقراطيات الليبرالية ستواجه أزمة حقيقية.

لطالما نظر حقل العلوم السياسية إلى الشخصانية كإشكال يخصّ الأنظمة الاستبدادية. وبالفعل، منذ نهاية الحرب الباردة، شهدت هذه الأنظمة انجرافًا ساحقًا نحو الشخصانية.

تمثال ترامب (أ ب)

وهناك زعماء مثل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي، رجب طيب إردوغان، ونظيرهما في نيكارغوا، دانييل أورتيغا، ممّن عملوا بثبات منذ وصولهم إلى سدّة الحكم، على تركيز سلطة أحزابهم ومؤسساتها في أيديهم. وحتى في الصين، تمرّد الرئيس شي جينغ بينغ، على عقود من صناعة القرار الشبيهة باتخاذ القرار بالإجماع، منتزعًا السلطة من الحزب الشيوعيّ الصينيّ لـ"يدّخرها" لنفسه.

ولكن بنظرة خاطفة للعالم، بإمكاننا أن نفترض بمعقولية أن نمطَ الشخصانيّة هذا قد تفشى للديمقراطيات أيضًا، فإضافة إلى ترامب، تعجّ وسائل الإعلام وعناوينها الرئيسية بأسماء قادة انتُخبوا ديمقراطيًا، مثل غايير بولسونارو في البرازيل، وفيكتور أوربان في المجر، ورودريجو دوتيرتي في الفلبين، بينما يجدّ ويسعى هؤلاء من أجل تعزيز مكاناتهم السياسيّة على حساب المؤسسة السياسية التقليدية في البلاد.

ولكن الشخصانية لا تنحصر في شعبويين مشهورين مثل الذين ذُكرت أسماؤهم سلفًا، بل تصل إلى قادة مثل أندريه بابيس في جمهورية التشيك، وماكي سال في السنغال، والرئيس الأوكراني السابق، بيترو بوروشنكو، والشيخة حسينة من بنغلادش، والذين يبدون ميلًا حادًّا نحو الشخصانيّة، رغم أنهم قلّما ما ينزعون إلى الشعبويّة.

لا نقدّم هنا أمثلة لشخصيات مُلفتة للنظر من أجل تشكيل انطباع محض عن وجود الظاهرة، فبحثنا يؤكّد على ازدياد النزعة الشخصانية في السياسة. وعبر الاستعانة بمجموعة من المؤشرات التي تقيس القوة النسبية للقائد مقابل حزبه السياسي، وجدنا أن الشخصانية في الديمقراطيات آخذة في الارتفاع منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتسارعت بوتيرة جنونية منذ عام 2015.

في بعض النواحي، جاء النزوع نحو الشخصانية في الديمقراطيات، بتراكم بطيء على مدار العقود الماضية. وتناقل الباحثون روايات ربطت بين صعود الشخصنة السياسية وظهور الإعلام الإلكتروني، ولا سيّما التلفزيون في الخمسينيات والستينيات. وعلى سبيل المثال، أثّر التلفزيون والمناظرات السياسيّة المتلفزة خلال الحملات الانتخابية الوطنية، بشكل هائل على كيف تصوَّر المصوتون قادتهم. وأما الإنترنت والأدوات الرقمية، فقد أدى ازدهارها إلى تغذية هذه الديناميكيّة لأنها تتيح للقادة الوصول إلى جمهور أوسع.

"تُشكّل شخصنة السياسة تهديدًا حقيقيًا للديمقراطيات"، بوتين (أ ب)

مع أن النشر الإذاعي يتمتع بقوة جبارة، إلّا أن التقنيات الرقمية أيضًا، تخلق مساحات جديدة من الإمكانيات للقائد، ليمارس الرقابة الانتقائية والتلاعب بوسطه الإعلامي، ليسيطر بنجاعة أكبر على السرديّات المرويّة عن أسلوب قيادته. وبالفعل، تُظهر البيانات أن القادة في الأنظمة الديمقراطية الذين يستغلون الإنترنت بفاعلية أكبر على مستوى فرض الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي ومراقبتها وإنشاء بدائل لوسائل الاجتماعي؛ عادة ما يكونون أكثر شخصانيّة. يشير هذا إلى أن القائد الشخصاني، يستخدم الأدوات الرقمية للتخفيف من قوة المقاومة لاستيلائه على السلطة وخلق بيئة أكثر ملاءمة لزيادة سلطته.

واليوم، تُشكّل شخصنة السياسة تهديدًا حقيقيًا للديمقراطيات، وذلك لأن القادة التي يتبنونها، يُنتجون استقطابًا في المجتمعات التي يحكمونها، ففي هذا النوع من الأنظمة، تعكس الخيارات السياسية تفضيلات القائد أكثر مما تعبّر عن سيرورة من المساومات بين الجهات الفاعلة والمؤسسات المتعدّدة.

وغالبًا ما يتسلّل شعور بخيبة الأمل إلى المجموعات غير المتحالفة مع الزعيم، والتي تهمّشها عملية صناعة القرار، ممّا يُفضي إلى تعميق الانقسام بين المعسكرات السياسيّة.

سعي لتعزيز المكانة السياسية؛ بولسونارو (أ ب)

وتتضح هذه الصيرورة في حالة فنزويلا التي تمتعت ديمقراطيّتها ذات مرة، بأطول استقرار في أميركا اللاتينية، إذ تسبّبت مساعي الرئيس السابق، هيوغو تشافيز، إلى شخصنة السياسة، بشروخ في المجتمع الفنزويليّ، مولّدةً خلافات عميقة حول شكل الوصول إلى السلطة في البلاد، وطبيعة نظامها السياسيّ. وتفاقم هذا الانقسام مع توجهه نحو مركَزَة السلطة.

ومع تعمّق الشرخ بين مؤيديه والمعارضة أكثر فأكثر، ازداد استعداد المجموعة الأولى لقبول انتهاكات أكبر للديمقراطية من أجل ضمان بقاء تشافيز في السلطة. ومهدت شخصنة تشافيز للسلطة، الطريق للاستقطاب السياسيّ، ممّا أدى في نهاية المطاف إلى استبداده بالسلطة في نظام يحافظ عليه خلفه، نيكولاس مادورو.

إذن، لا يمكن للشخصانية أن تتعايش مع الديمقراطية، لأنّها تتيح لشاغل المنصب السياسيّ انتزاع السلطة شيئًا فشيئًا، وبالتالي التفكّك التدريجي للديمقراطية الذي أصبح أكثر ما يتسبب بانهيار الديمقراطيات. وفي أوروبا، يُعد كل من إردوغان وأوربان مثالًا جليًا لهذه النزعة، إذ نجح كلاهما في زيادة نفوذهما وبسط سيطرتهما على حزبيهما السياسيين والنخب الحزبية العُليا، مما مهّد الساحة أمامهما، لتفكيك الضوابط المؤسسية الأخرى على سلطتهما.

ومن جهة أخرى، تمنح الشخصنة للقائد السياسي قوّة تفاوضيّة أكبر بالمقارنة مع سائر النّخب في الحزب، ممّا يؤثر حتى على النخب المنحازة له، ويصعب عليها صدّ مساعي هذا القائد لتوطيد هيمنته. وفي المجر مثلًا، أدّى تحول أوربان الذي أنشأ حزب "فيدس –الاتحاد المدني المجري"، من اليسار وسط إلى اليمين، إلى تصدّع في قيادة الحزب، وسمح له بأن يطيح بقادة الحزب المعارضين لحكمه. وهذا بدوره، مهّد السبيل إلى نشوء نخبة من المسؤولين الموالين لأوربان، ولم يسبق لكثير من هؤلاء أن لعبوا دورًا في المؤسسة السياسية المجرية، كما أنهم يفتقرون إلى الخبرة في الحوْكَمة.

الشخصنة تنزع نحو الهيمنة؛ مؤيدو ترامب خلال اقتحام الكونغرس (أ ب)

عندما ترى النخب الحزبية مستقبلها مرتبطا بالزعيم، فذلك يحفزها أكثر على دعم هذا القائد على الرغم من استمراره في مصادرة المزيد من سلطتها.

على الحزب الجمهوري الأميركي، وداعميه، أن يتّعظوا من هذه الأمثلة، فإذا ما عاد ترامب إلى المشهد السياسيّ، وترأس الحزب الجمهوري الذي يخضع لهيمنة متزايدة من قِبَله هو ومؤيدوه؛ ستتسارع نزعة الشخصنة في الولايات المتحدة، وسيتوازى ذلك مع تعاظُم جهود ترامب لانتقاء منافسين أساسيين متمردين من داخل الحزب، وتزايد سيطرته على أموال الحزب، واستبدال المحافظين التقليديين في الفروع المحلية للحزب.

وفي حزب جمهوريّ تحت هيمنة كاملة لترامب، لن يكون من السهل أن تتعافى الديمقراطية الأميركيّة.

التعليقات