06/03/2022 - 19:02

ظهور وأفول "لندن غراد"

عندما تتبخّر الأموال الروسية الهاربة، ستحلّ محلّها أموال هاربة من مصادر أخرى. ليست روسيا الدولة الوحيدة التي تنعم بمواردها وتلعنُها نُخَبُها.

ظهور وأفول

خلال مظاهرة دعم لأوكرانيا في لندن ("أ ب")

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بموقع "عرب 48"، توضح أنّ "عصر المال الروسيّ في لندن قد ولّى، وأنّ أجانب أغنياء آخرين سيملؤون الفجوة".

ترجمة: أنس سمحان.


لا يرتدي الرجل سوى زوجا من السراويل القصيرة ويعتمر قبعة على رأسه، ويرفع حزمتين من أوراق البلّوط والتامول والكينا عاليًا، وبعد انطلاق البخار الساخن في الساونا التي تبلغ درجة حرارتها 90 درجة مئوية، يضرب رجلٌ الجسد الممتد أمامه ضربًا منتظمًا. يرتد العرق والبخار لفوق مع كل ضربة، وبعد عشر دقائق من الضرب الخفيف المتواصل، وبعد أن ينتاب الجسد إحساس قوي بأن هيكله العظمي صار حارًّا، يُقتاد خَدِرًا إلى الخارج، حيث يُسكب دلو من الماء على رأسه. يُعَدّ حوض الغطْس شبه المتجمد هو الوجهة التالية، ويبدأ بتجفيف المتلقي وتثبيته وهو يرتجف بعض الشيء. الحمام الروسي (بانيا) ليس لضعاف القلوب، ولكن ثمّة عدد قليل من الصور المجازية التي يمكننا التفكير عبرها في صعود وسقوط "لندن غراد"[1].

إلى جانب "موسكو نهر التايمز"، فإن "لندن غراد" لقب مستحَقّ للعاصمة البريطانيّة، والتي صارت مركزًا للأموال الروسية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، وعلى الرغم من استضافة الطرف الشرقي[2] للندن عددًا قليلا من الحمَّامات الروسية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد انتشرت نُسخ فاخرة من تلك الحمَّامات في جميع أنحاء المدينة. وعلى نحو مماثل، لطالما استضافت لندن لفترة طويلة المنشَقّين والمهاجرين والمغتربين الروس، إذ اعتاد لينين وتروتسكي التسكّع في المتحف البريطاني. ولكن لم تبدأ لندن غراد في البروز حتى تسعينيات القرن الماضي، حيث ظهر المليارديرات الجُدُد، وكذلك مجموعة من الفاشلين لخدمتهم.

الأعلام الأوكرانية مرفوعة جنوب غرب لندن ("أ ب")

كان ظهور لندن غراد مُخططًا له... فتحت الحكومات البريطانية على اختلافها، البلاد أمام رأس المال الروسي. كما قدّم المحافظون في عهد جون ميجر عام 1994 خطة "التأشيرة الذهبية" والتي تمنح حقوق الإقامة لأي شخص استثمر مليون جنيه إسترليني (1.3 مليون دولار)، وواصلت حكومة حزب العمال برئاسة توني بلير ذلك بحماس.

قال كين ليفينغستون، عمدة لندن اليساري من عام 2000 إلى 2008، إنه يريد "للشركات الروسية أن تعتبر لندن قاعدتها الطبيعية في أوروبا". وكان بوريس جونسون، خليفة السيد ليفينغستون، صديقًا مُقرّبًا لإيفجيني ليبيديف، مالك صحيفة "إيفنينغ ستاندارد" اليومية، وابن عميل وملياردير سابق في الاستخبارات الروسية (KGB)، وقد أعطى السيد جونسون، رئيس الوزراء الحالي، لصديقهِ الأنجلو-روسي لقب النبيل في عام 2020.

أما بالنسبة للقادمين من روسيا فلاديمير بوتين، فقد عرضتْ لندن عليهم الحماية والأمن والسرية، إذ توجد لدى بريطانيا قوانين ملائمة للضرائب والتشهير والعقارات، يتم إنفاذها من خلال نظام قضائي فعّال ومكلِف، وهو -علاوة على ذلك- مناسب في مسألة الأوامر الزجرية. إن تسليم المجرمين إلى روسيا، بقضائها الفاسد، يعتَبر أمرًا مرفوضًا في نظر القضاة الإنجليز. ولا ننسى أن المدارس الخاصة في لندن جيدة، وكذلك أماكن التسوق، وبذلك صارت المدينة "الملاذ الشامل"، حسب وصف أوليفر بولوغ، مؤلف كتاب سيصدر قريبا؛ "قهرمان العالم: كيف صارت بريطانيا خادمة لكبار رجال الأعمال والمتهربين من الضرائب والكلبتوقراطيين والمجرمين". كان الحذر مفتاحًا لإنجاح العملية، بحيث تتبع بريطانيا القاعدة الموجودة فوق باب الحمَّامات الروسية: "الرّجاء التحدّث بالحدّ الأدنى".

جونسون يتوسّط الصورة ("أ ب")

إن فئة الخدَم الجديدة في بريطانيا سعيدة بدورها. يمكن لأي شركة علاقات عامة أن تربح مئة ألف جنيه إسترليني شهريًا من خلال تزويد الأوليغارشية بمتحدثين متكلمين لمناورة الأسئلة الفضولية والتخلّص منها، وقد تمكّن السياسيون السابقون من كسب رواتب مليونية في فترة عملهم، وهو ما يتفوق على الـ323 جنيهًا إسترلينيًا في اليوم، المُقدّمة من مجلس اللوردات.

كانت سُمعة القلة الروسية وقدرتها على دفع البقشيش الكبير تجعلهم موضع ترحيب في أي غرفة خاصة في أي مطعم. يُحبّهم المحامون أيضًا. يكتب مارك هولينغسورث وستيوارت لانسل في "لندن غراد: من روسيا نقدًا: القصة الداخلية للأوليغارشية الروسية"، أن أحد الأثرياء قد أعلن أن "ما تحتاج أن تعرفه عني هو أنني أحب التقاضي أكثر مما أحب الجنس!"، وهو ما يحبه المحامون مقابل 1000 جنيه إسترليني على الساعة.

أما الآن، صار المال الروسي مثل الحديد الساخن. أدّى الغزو الروسيّ لأوكرانيا إلى فرض عقوبات على مجموعة من الشركات الروسية، بعضها له صلات ببريطانيا، ومن المتوقّع أن تتبع التحركات ضد بعض الأوليغارشية المتمركزة في بريطانيا، وسوف يتم فرض "أوامر الثروة غير المبررة" بصرامة، والتي تستهدف الأشخاص أصحاب المبالغ النقدية المشبوهة لإظهار طريقة كسبها أو مواجهة مصادرتها في حال عجزوا عن ذلك، وسيتم إلغاء التأشيرات الذهبية.

("أ ب")

تعني إصلاحات الشفافية المحتَمَلة أنه يجب الكشف عن المستفيدين النهائيين من الشركات الوهمية "دمية ماتريوشكا[3]". خُزِّنت الأموال في لندن لإبقائها مخفية وبعيدة عن براثن الدولة الروسية، وعليه سيشكّل نشرها على الملأ من قِبل البريطانيين، تحديًا لفكرة تحريكها، وعندما تصبح الحرارة عالية في الحمامات الروسية، يلزمك حينها القفز إلى حوض الغطس. والذي قد يكون مؤلمًا.

تُسبّب عملية تقلّب درجات الحرارة موجة من النشوة لمن يعيشها، لكنها غالبا ما تكون موجزة. مخطئ من يتوقّع أن بريطانيا ستنظف تعاملاتها بعد لندن غراد. يفسّر عدم تطبيق القواعد بدلا من عدم وجودها، موقف بريطانيا المتراخي تجاه الأموال المشبوهة. تنفق حكومتها ما يقلّ قليلا عن مليار جنيه إسترليني سنويًا على حلّ الجرائم المالية، لكن غسل الأموال يكلّف اقتصادها نحو ضعف ذلك المبلغ 100 مرة، فالمحامون والمحققون الذين يتقاضون أجورا زهيدة ويعملون بالنيابة عن الحكومة، يكسبهم المعارضون الذين يجمعون عشرة أضعاف هذا المبلغ إلى صفّهم. الغرض من النظام هو ما يفعله. لم تكن سلسلة من الأحداث المؤسفة هي التي شكّلت لندن وجعلتها وُجهة لأولئك الذين يكسبون أموالهم بطرق غير تقليدية. بل إن هذا هو نموذج العمل الفاعل.

اقرأ/ي أيضًا | روسيا وأوكرانيا: أن تعلق الدول في أساطيرها القروسطية

اقرأ/ي أيضًا | كيف تمكّنت روسيا من دفع أوروبا للاعتماد عليها في النفط والغاز؟

ملاذ واسع...

عندما تتبخّر الأموال الروسية الهاربة، ستحلّ محلّها أموال هاربة من مصادر أخرى. ليست روسيا الدولة الوحيدة التي تنعم بمواردها وتلعنُها نُخَبُها. يتدفّق النقد النيجيري والأذربيجاني إلى مدينة لندن على الدوام. كل ما في الأمر هو أن روسيا صارت منبوذة الآن. وتجعل عادة السعودية في تقطيع الصحافيين وتفجير جيرانها، منها حليفًا غريبًا للندن، لكن لدى الدولة البريطانية مخاوف قليلة بشأن السماح لها بشراء الأصول الثمينة (وحتى الأصول غير الثمينة، مثل نادي نيوكاسل يونايتد). يشكّل الروس خُمس التأشيرات الذهبية التي تُصدَر منذ عام 2008، فيما شكّل المواطنون الصينيون ثلثها. ماذا سيحدث إذا غزت الصين تايوان؟ نتوقّع نفس العمليّة المؤلمة، باستثناء الثروة الصينية بدلا من الثروة الروسية المنفصلة عن النظام. سقطت لندن غراد، وستُستبدَل بلقب آخر. ولكن ستبقى الحمَّامات الروسية.

متظاهرون ضدّ اجتياح أوكرانيا في لندن ("أ ب")

[1] في اللغة الروسية تعني كلمة "غراد": المدينة أو القلعة، وتستَخدَم للإشارة إلى الجزء الروسي من مدينة لندن– المُترجم.

[2] المساحة من لندن الواقعة إلى الشرق من مدينة لندن المسوّرة في العصور الرومانية والعصور الوسطى، وإلى الشمال من نهر التايمز، بدأ استخدام مصطلح "الطرف الشرقي" بقصد الازدراء أو التحقير في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك بسبب ازدياد أعداد سكان لندن الذي أدى إلى الاكتظاظ الشديد في جميع أنحاء المنطقة وزيادة تركيز الفقراء والمهاجرين– المُترجم.

[3] مجموعة من الدمى الخشبية ذات الحجم المتناقص موضوعة الواحدة داخل الأخرى – المُترجِم.

التعليقات