26/06/2022 - 20:30

كيف تغلّبنا على مرضٍ قتَل مليارات البشر عبر التاريخ؟

علينا أن نُفكر بكوفيد-19، في السياق الأوسع لمحاربة البشرية للأمراض الانتقالية، باعتباره تذكيرًا لما يمكن أن يحصل، فعلى الرغم من سوئهِ، إلا أنه لم يكن الأسوأ. كان يمكن أن يكون معدل انتشاره أسرع، أو أن يكون معدل إماتته أعلى.

كيف تغلّبنا على مرضٍ قتَل مليارات البشر عبر التاريخ؟

تطعيم الأطفال ضد الجدري في لندن عام 1871 (Getty Images)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بموقع "عرب 48"، لمقالة للكاتبة كيلسي بايبر، والتي تكتب بخاصّة عن الفقر في العالم، والمخاطر التي تؤثر على مستقبل مستقرّ لعالمنا.

ترجمة: أنس سمحان.


تُقدِّر منظمة الصحة العالمية أن فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، قد تمكّن وحتى هذه اللحظة من قتل 15 مليون إنسان حول العالم، وعلى فظاعة الرقم ومأساوية الحالة، إلا أننا مسؤولون بدرجة مُعينة، لأنه كان بإمكاننا التعامل مع الجائحة أفضل مما تعاملنا معها. وعلى الرغم من مرارة ما تجرّعه العالم وفقده في السنوات القليلة الماضية، فإن تاريخ الأمراض الانتقالية يحمل رسالة أشد مرارةً: كان بالإمكان أن يكون الوضع أسوأ مما كان. توفي 15 مليون بشري بسبب فيروس يقتل فقط ما معدّله 0.7% من البشر المُصابين به. تخيَّل لو أن النسبة كانت 30%؟ وتخيل لو أن تطوير لقاحه استغرق قرونًا بدلًا من أشهر؟ وتخيل أن يكون فاتكًا بالأطفال الرضَّع أكثر فتكهِ بالكبار السن.

لقد أعطتنا أهوال العام الماضي لمحة موجزة عما كانت عليهِ الحياة في عالم أنهكته الأمراض الانتقالية. صار من الطبيعي والبديهي الآن انخفاض عدد وفيات الأطفال في الدول الغنية بسبب الأمراض، بل صارت أغلب الأمراض الانتقالية قابلة للعلاج، وتتوفر لقاحاتها وقت الحاجة إليها، ولكن الإنسانية لم تنتقل إلى هذا العالم الجديد إلا في الآونة الأخيرة.

استخدم مجلس الصحة بولاية نيويورك، لتشجيع الناس على التطعيم ضد الجدري في أربعينيات القرن الماضي، هذه الصورة، مرفقا إياها بالعبارة التالية: "لم يُطعَّم هذا الرجل ضد الجدري أبدًا" ("أ ب")

كان القضاء على مرض الجدري جزءًا أساسيًا في هذه النقلة. حاربت الدول الجدري على مدار القرن الماضي، وانتصرت واحدة بعد أخرى، إلى أن أصدرت جمعية الصحة العالمية في 8 أيَّار/ مايو 1980 إعلانا رسميًا مفاده أن "العالم وجميع شعوبه قد تحرروا من الجدري"، وبهذا أنهينا معاناة وموت ملايين الناس منه كل عام.

لسنا نحاول التقليل من معاناة وأهوال جائحة كورونا، ولا التغاضي عن الإهمال الذي أدى إلى ارتفاع حصيلة الموتى، ولكن لنأخذ خطوةً للوراء ومساحةً للتفكير ولندرك أن الأمراض الانتقالية عادةً تكون أكثر انتقالًا، وأكثر فتكًا منه؛ ولنطمئن قلوبنا بحقيقة أن البشرية وبقضائها على الجدري، قد ارتقت في مستوى محاربتها للأمراض الانتقالية.

جعلْنا حصيلة الأمراض الانتقالية، بفضل الحظ والتطعيم المكثف والتنسيق الدولي الطموح، أقل مما كانت عليه في أي وقت في التاريخ، وعلى الرغم من أن الأمر لن يكون سهلا، فإن بإمكاننا تكرار الأمر. وبينما نتعلم كيفية التصدي للجائحات الحالية والمستقبلية، يجدر بنا أن نفهم ما تعلمناه من محاربة الأمراض الانتقالية الكبرى في الماضي.

شرح الجدري

مرض الجدري قديم للغاية، وقد تسبب في قتل 30% من المصابين بهِ عبر التاريخ، أما من تعافوا منه، فقد رافقت بعضهم أعراض طوال حياتهم مثل العمى والندوب الجلدية إلى جانب تشوهات أخرى. أدَّى انتشاره قديمًا إلى تدمير حضارات بعينها وإلى تغييرات في مسار التَّاريخ. لا توجد معلومات مؤكَّدة حول مكان ووقت نشوئهِ، إلا أن العلماء وبعد عثورهم على مومياء مصرية مصابة به (رمسيس الخامس/ توفي به عام 1157 قبل الميلاد)، قدَّروا عمره بأكثر من 3000 عام. كما أنه فتك بالأميركيتين في أوائل القرن الخامس عشر، بعد أن انتقل إليها من أوروبا، ويُعتقد بأنه دمَّر إمبراطورتيّ الأزتيك والإنكا. وغيَّر مجرى الحرب الثورية الأميركية ضد الإمبراطورية البريطانية، إذ خسر الجيش الثوري القاري ومع تفشي المرض في نيو إنگلاند، معركة كيبيك.

من الصعب حصْر خسائر مرض الجدري في التاريخ، ولكنه قتل في القرن الواحد والعشرين 300-500 مليون إنسان. كتب دونالد هندرسون، المدير السابق لمراقبة الأمراض في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، في كتابه الصادر عام 2009؛ "الجدري: موت مرض"، مشيرًا إلى أن أكثر الحروب تدميرًا في القرن العشرين، مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، كان عدد القتلى مجتمعين فيهما أقل بكثير من عدد الوفيات الناجمة عن الجدري.

انتشر الجدري عن طريق أحد الفيروسات (علميًا، عبر نوعين من الفيروسات: فيروس الجدري الكبير، الأكثر شيوعًا، وفيروس الجدري الصغير الأقل شيوعًا). وتسبب في الحمى، ثم الطفح الجلدي، والذي يتطور على مدار أيام قليلة إلى كتل تغطي الجلد وهي العلامة المُمِيِّزة للمرض. تسببت سلالة فيروس الجدري الكبير بمقتل نحو 30% من المصابين بها، وكانت معدلات فتكها بالرضع أعلى من غيرها، وتحدث الوفاة عادة في غضون ثمانية إلى 16 يومًا. أما أعراض فيروس الجدري الصغير، فكانت أقل فتكًا بكثير، ومعدل وفياتها 1% من المصابين به، ولحين القضاء على المرض تمامًا، لم تُكتشف أي علاجات له.

مجلة أخبار لنجن المصورة، طباعة حجرية/ نقش لجناح الجدري في مستشفى في إنجلترا في سبعينيات القرن التاسع عشر. (Getty Images)

لم يكن معظم الناس، قبل عامين من اليوم، على معرفة بمصطلحات الإحصاءات الوبائية مثل معدل R0 للمرض (عدد الأشخاص الذين يصيبهم شخص مصاب في مجتمع ليس لديه مناعة)، و "معدل إماتة الحالات" للمرض (النسبة المئوية للمرضى الذين يموتون). لكن جائحة كوفيد-19 دفعت الكثيرين منا إلى دورة تعليمية وبائية مكثفة، والتي يجب أن تعطينا منظورا جديدا حول أهوال مرض الجدري، إذ ينتقل المرض مثل كوفيد-19 بالمقام الأول، من خلال الاتصال الوثيق بالمرضى، وبخاصة في الأماكن المغلقة. ومع ذلك، فإن أفضل تقدير لدينا هو أن عدوى الجدري تراوحت بين R5 وR7، مما يضعها بين متحورة "دلتا"، ومتحورة "أوميكرون". نظرًا لارتفاع معدل R0 للجدري ومعدل إماتته الكاسح، كان من المألوف أن يؤدي تفشيه، في منطقة لا يوجد بها مناعة مسبقة ضده، إلى مقتل 30% من سُكان تلك المنطقة. ويُعتقدُ أن "معدل إماتة الحالات" في بعض السياقات، مثل الأميركيتين، كان أعلى بكثير.

كيف استأصلنا الجدري؟

كان لزامًا على البشر أن يبدعوا في طرق إبطاء انتشار الوباء قبل اكتشاف اللقاح. وكان من المعروف أن من يصاب بالجدري مرة، لا يصاب به مرة أخرى. كان الأشخاص الأصحاء في الصين، في بداية القرن الخامس عشر، يتنفسون عمدًا قشور الجدري من خلال أنوفهم ليصابوا بنوع أخف من المرض. مات ما بين 0.5% و2% بسبب التلقيح الذاتي أعلاه، واعتُبرَ تحسنًا كبيرًا في معدل الوفيات البالغ 30% من المرض نفسه. ويذكر المؤرِّخ الأميركي ول ديورانت، أن الهند عرفت فكرة التطعيم قديمًا بإشارته إلى نص قديم يُعزى على ذانوانتاري (توفي في القرن الميلادي الثاني)، أقدم الأطباء الهنود، يقول فيه: "خذ السائل من البُثور التي تراها على ضرع البقرة… خذه على سِنَان المِشْرَط ثم طَعِّم به الأذْرِعَة بين الأكتاف والمَرافق حتى يظهر الدم؛ عندئذ يختلط السائل بالدم فتنشأ عن اختلاطه حُمَّى الجُدَرِيُّ"، ويذكر المؤرِّخ أن الصينيين "استخدموا اللقاح في معالجة الجُدَرِيُّ وإن كانوا لم يستخدموا التطعيم للوقاية منه، ولعلهم قد أخذوا هذا عن الهند".

وأشارت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، إلى أن العرب عمدوا في مكافحة الجدري، إلى "جرح راحة اليد ما بين المعصم والإبهام ووضع قليل من بثور غير ملتهبة فوق الجرح يحفونه بها جيدا"، وكان هذا جزءًا من ثقافة الترياق المنتشرة في الطب العربي والمتواترة منذ زمن اليونان، والتي تقول إن معالجة السموم والوقاية منها تكون من مصادر السموم نفسها.

وأوضح الطبيب إدوارد جينر في إنجلترا عام 1796، أنّ الإصابة بجدري البقر (فيروس من العائلة ذاتها، ولكن أخف ضررًا بكثير) يمنح مناعة ضدّ الجدري، وبعد ذلك بوقت قصير، بدأت جهود التحصين بجدية في جميع أنحاء أوروبا. وأصدر الكونغرس الأميركي بحلول عام 1813 تشريعًا يضمن توفير لقاح الجدري، الذي قلَّل من تفشي المرض في البلاد، طوال القرن التاسع عشر.

نقش طباعة حجرية بعنوان "التطعيم الأول"، يصوّر تلقيح الدكتور إدوارد جينر لجيمس فيبس، ضدّ الجدري في عام 1796 (Getty Images)

وبُذلت في بقية أنحاء العالم جهود مماثلة، بمستويات متفاوتة من الالتزام والنجاح، إذ أعلنت بافاريا في عام 1807 أن التطعيم ضد الجدري إلزامي، وتبعتها الدنمارك عام 1810، وانتشر التطعيم الإلزامي بعدها في كل أوروبا، ولكن لم تحقق جهود الإمبراطورية البريطانية لإجراء برنامج لقاح ضد الجدري في الهند تقدمًا كبيرًا، نظرًا لعدم ثقة السكان المحليين بالحكومة الاستعمارية. لم يعُد الوباء بحلول عام 1900 آفة مُرعبة في الدول الغنية.

وبينما كان الجدري سببًا لموت نحو 1 من كل 13 حالة وفاة في لندن في القرن التاسع عشر، انخفض الرقم مع بداية القرن العشرين إلى 1 من كل مئة. وأعلنت عدة دول في شمال أوروبا استئصالها للمرض في الوقت نفسه، وانضم إليها على مدى العقود القليلة التالية، المزيد من دول أوروبا ثم الولايات المتحدة وكندا.

المصدر: "Our world in Data"

ولكن بما أن المرض كان موجودًا ويفتك بجزءٍ من العالم، كان من الضروري مواصلة التطعيم حتى لا يدخل المرض مرة أخرى إلى تلك البلاد الغنية، ولكَيْلا يموت الملايين بسببه. البيانات التالية غير مكتملة، وقبل وجود أي سلطة دولية معنية بإحصاءات الأمراض المعدية في جميع أنحاء العالم، ولكن يُقدر أن 10 إلى 15 مليون شخص أصيبوا بالجدري سنويًا، مع وفاة 5 ملايين منهم، خلال النصف الأول من القرن العشرين. وبدأت الجهود العالمية الجديّة للتخلص من المرض نهائيًا بالظهور في الخمسينيات، وذلك بفضل المؤسسات الدولية الجديدة في فترة ما بعد الحرب، وقد قادت منظمة الصحة العالمية، هذه المهمة وقدّمت إطارًا للبلدان التي لم تكن دائما على علاقة ودية للتعاون في الجهود الصحية العالمية.

كان الشكّ في تلك الجهود ونيّتها وقدرتها، موجودًا، حتى في القرن الماضي. كتب هندرسون أنّ "إحدى العقبات التي واجهها المستأصلون هي التشكّك داخل المجتمع العلمي حول جدوى استئصال أي مرض معدٍ وكيفية تطبيق الأمر عمليًا"، خصوصًا مع عدم نجاح أي محاولة سابقة لاستئصال أي مرض قبلًا.

كان يوجد مليارات البشر في العالم، في ظل عدد لا يحصى من الحكومات، وفي مناطق حروب ونزاع، في حين أن استئصال المرض يتطلب تنسيقًا عالميًا وعلى نطاق غير مسبوق. ولا يفوتنا أن نذكِّر بمحاولة استئصال الملاريا الفاشلة (بدأ البرنامج العالمي في خمسينيات القرن الماضي، ولم تكن إفريقيا على قائمته، وعلى الرغم من نجاحه في البداية، إلا أنه تعثَّر لغياب حماس الجهات المانحة والحكومات، وهم ما سمح بعود الملاريا من جديد). بدا الهدف المتمثل في القضاء على كل حالة إصابة بالجدري في العالم، بدلا من مجرّد قمع الفيروس، هدفًا نبيلًا بشكل غير معقول.

كتب مدير مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (الأميركي) السابق وليام فوج، في كتابه المنشور عام 2011؛ "بيت يشتعل: حرب استئصال الجدري" حول جهود القضاء على الجدري: "كان الكل يقولون (للعاملين في جهود الاستئصال) إن جهودهم كانت عقيمة، وإنهم يضرون بفرص حياتهم المهنية".

تحسنت تكنولوجيا الحقن، واختُرعت إبر جديدة متشعبة خاصة للجدري، جعلت من الممكن استخدام كمية أقل من اللقاح، وتحسن السفر إلى الخارج، مما سهَّل شحْن اللقاحات وإيصال عاملي الصحة العامة إلى الأماكن التي تحتاجهم. كما أنها وفَّرت قوة دافعة للقضاء على المرض في جميع أنحاء العالم، لأن السفر زاد من احتمالية انتشار مرض الجدري في أي مكان في العالم.

أدى تفشي المرض في مدينة نيويورك عام 1947، والذي يعود إلى مسافر من المكسيك، إلى بذل جهد محموم لتطعيم 6 ملايين شخص في أربعة أسابيع. يقول هندرسون إن أوروبا شهدت دخول الفيروس من جديد مرارًا عبر مسافرين من آسيا، وأحصيت 23 عملية تفشي مختلفة (مناسبات مختلفة يجلب فيها شخص ما الجدري إلى البلاد) في غضون خمس سنوات.

بينما نواجه كوفيد-19، مع وجود لقاحات فعالة أخيرًا، نواجه نفس التحدي الذي واجهه العالم مع الجدري في الخمسينيات من القرن الماضي: لا يهم توفر اللقاح ما لم ترافقه أيضًا الإرادة الدولية والإبداع لإيصاله إلى جميع الأشخاص الذين يحتاجونه، والكثير منهم سيكون مترددًا ومتشككًا.

أوضح هندرسون وفوج في كتبهما أن البشر قد واجهوا في رحلتهم للقضاء على الجدري تحديات غير عادية، وغالبًا ما بدت مستعصية تمامًا، حيث لم تكن هناك طرق أو مستشفيات، ولا بنية تحتية لإخطار منظمة الصحة العالمية بتفشي مرض الجدري في المناطق الفقيرة من العالم. كما أن الحروب الأهلية والمجاعات وأزمات اللاجئين، جعلت مراقبة المرض والتطعيم ضده أمرًا صعبًا للغاية. لكن السمات الأخرى للجدري جعلت من السهل القضاء عليه أكثر من العديد من الأمراض الأخرى.

وواحدة من أهمّ سماتهِ، أنه لم ينتقل للبشر عبر الحيوانات، وهذا يعني، على عكس أمراض أخرى مثل الإيبولا، أن الجدري لا يعيش في مجموعات الحيوانات التي يمكنها نقل الفيروس للبشر من جديد. بمعنى أنه إذا استأصلنا الفيروس عند البشر، فسينتهي إلى الأبد. وبمجرد تعافي أي مصاب منه، فسيكون مُحصنًا مدى الحياة، ويحتاج البشر فقط إلى لقاح واحد ضده في أغلب الحالات.

ومن سماته أيضًا أن الإصابة بهِ تفرض ظهور أعراض تعرِّف المصاب بهِ، وتمتد فترة حضانة الفيروس لأسبوع، وأتاح ذلك لمسؤولي الصحة العامة، السيطرة عليهِ من خلال إستراتيجية "التطعيم الحلقيّ"، أي أنه كلما أُبلغ عن حالة، كان يجري تطعيم كل شخص قد اتصل (أو ظنّ أنه اتصل) بالشخص المصاب، وبشكل عامٍ كان يجري تطعيم كل شخص في مُجتمع الشخص المصاب، للسيطرة على المرض.

يصف هندرسون التحوّل إلى التطعيم الحلقي بأنه كان تغييرًا إستراتيجيًا ومحوريًا لمكافحة الجدري. فبدلا من النضال من أجل التطعيم بنسبة 100%، والذي ثبت أنه غير قابل للتحقيق في البلدان منخفضة الدخل، فقد سمح لفرق الصحة العامة بتركيز مواردها حيث تشتد الحاجة إليها. ونظرًا لإعلان أجزاء كبيرة من العالم أنها خالية من الجدري، صار بالإمكان تركيز الموارد بكثافة في المناطق التي ما يزال المرض فيها متفشيًا. وفي حين أن تفشي الجدري في بلد نامٍ، لم يكن ليجتذب اهتماما دوليا كبيرا في الخمسينيات، فإنه بحلول عام 1970 اجتذب أفضل موارد مراقبة الأمراض والاستجابة لها في العالم، حيث حاول متتبعو انتقال المرض تحديد كل شخص تعرّض للإصابة، ومعرفة مصدر انتشار الفيروس، وعلى هذا المنوال، طُعِّمت المجتمعات المحلية بسرعة فائقة، واستمرّت أعداد الإصابات في الانخفاض، وشهد العالم في عام 1975 آخر حالة من فيروس الجدري الكبير في بنغلاديش، وشهد في عام 1977 آخر حالة من الجدري الصغير في الصومال.

تعقّب الأطباء الفيروس وطعَّموا كل مخالط محتمَل للحالة، ولم يصُب أي منهم بالمرَض، ولم ترصد جهود المراقبة حول العالم أي حالات جديدة، وهو ما حدا بجمعية الصحة العالمية بعد ذلك بعامين، إلى أن تعلن الانتصار على الجدري.

دروس للحاضر والمستقبل

يجب أن يبرز انتصار البشرية على الجدري كواحدة من أكثر لحظاتنا فخرا، إذ أنَّها دعت العلماء والباحثين من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك بين الدول المتنافسة في منتصف الحرب الباردة، للتعاون وللعمل معًا للقضاء عليهِ. ولسوء الحظ، لم نكرّر هذا النجاح أبدًا ضدّ أي فيروس آخر يصيب البشر. ربما بعض الحظ ضدّ شلل الأطفال، حيث نقترب من استئصاله. استأصل شلل الأطفال البري في إفريقيا، وبقي فقط في بعض المناطق التي أنهكتها الصراعات مثل أفغانستان وباكستان. استخدم "التطعيم الحلقي"، كما في معركة الجدري، بنجاح في جهود الصحة العامة ضد الأمراض الأخرى، وآخرها لقاح الإيبولا الجديد، والمستخدم ضد تفشياته في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

ولكن في حالات أخرى، مثل فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) وكوفيد-19، تركنا الأمراض الجديدة تنمو إلى أبعاد جائحية. وعلى الرغم من أن هذه الأمراض كانت لها آثار مدمّرة، يجدر بنا أن نأخذ في الاعتبار أنها كانت بالإمكان أن تكون أسوأ مما كانت، إذ من المحتمل تسرّب بعض الفيروسات من المختبرات، أو أن تنتقل من الحيوانات إلى البشر وأن تكون مميتة وقابلة للانتقال مثل الجدري، وقد أوضح كوفيد-19 أننا لسنا مستعدين للتعامل معها.

تجاوز مركز هاربور الطبي بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس الطبي سعة أسرَّتِه في قسم العناية المركزة، وأُجبر على علاج مرضى كوفيد -19 في وحدات العناية المركزة المؤقتة (Getty Images)

لماذا كان صعبًا عمليًّا أن نبني على نجاحنا؟ لأن كثيرا من الأمراض تستوفي تحديات الجدري نفسها، إلى جانب تحديات أخرى جديدة، ولدى بعضها، مثل الملاريا أو الإيبولا، خزانات حيوانية، مما يعني أن ضمان عدم إصابة البشر بالمرض ليس كافيا للقضاء عليها. وينتقل بعضها الآخر بدون أعراض، مثل فيروس الإيدز أو كوفيد-19، مما يجعل مراقبة المرض أكثر صعوبة. (توضيح مهم للصحة العامة: يمكن أن ينتقل فيروس الإيدز عن طريق الأشخاص الذين لا يشعرون بالمرض، وهو "انتقال بدون أعراض"، ولكن لا يمكن أن ينتقل عن طريق الأشخاص الذين لا يمكن اكتشاف مستويات الفيروس من خلال مؤسسات إدارة العلاج).

ولكن في ما يتعلق بالأمور التي يمكننا التحكم فيها، فيمكننا تعلُّم بعض الدروس من تجربتنا في القضاء على الجدري، وأولاها هو أن برنامج استئصال الجدري استغرق جهودا بطولية ونظامًا صحيًّا عامًّا مدعومًا وجيّد التمويل، وثانيها أن الأشخاص الذين يراقبون الأمراض والتطعيم في الأجزاء النائية والخطيرة التي مزّقتها الحرب من العالم، يخاطرون بحياتهم في معركتنا الحالية، ولا يمكنهم أن ينجحوا إلا إذا توافقت جهودهم مع التزام من جانب حكومات الدول الغنية بعدم ترك البلدان الفقيرة وراءها، ولتلبية احتياجات التمويل لبرنامج القضاء على الفيروس، وألّا تقوَّض جهودهم عبر عمليات تجسّس تابعة لوكالة المخابرات المركزية والتي تحاكي حملات التطعيم.

قال رئيس تحرير المجلة الطبية The Lancet، ريتشارد هورتون، في كانون الأول/ ديسمبر 2020، إن "فيروس كورونا الذي نكافحه اليوم ليس الجدري"، ولكن "الكبار كفاية ليتذكروا قصة القضاء على الجدري"، سوف يلاحظون الدروس التي تعلمناها بسرعة من تجاربنا السابقة، مثل أهمية توزيع اللقاحات والبنية التحتية والدور الأساسي للتنسيق الدولي والقيادة في منظمة الصحة العالمية.

تتطلب الجهود العالمية للقضاء على كوفيد-19 والاستجابة الأفضل للجائحات المستقبلية، وجود مركز للأمراض والوقاية منها، وأن يحظى هذا المركز إلى جانب منظمة الصحة العالمية بتمويل جيّد ليجذبا أفضل المواهب العلمية، وألا يخضعا للتلاعُب السياسيّ الذي يقف عائقًا أمام مهمة مراقبة الأمراض بدقة.

صناديق حرق الجثث التي تحتوي على جثث مرضى كوفيد -19، في كوينز بنيويورك (Getty Images)

درس آخر نتعلمه، أننا إذا نجحنا في التنسيق الدولي للقضاء على الجائحات والأوبئة، علينا أن نعي أهمية الالتزام بهِ، وعدم التنازل عنه. بعد سرد تاريخ القضاء على الجدري، يتحول حوار هندرسون إلى موضوع مختلف: "القوارير المتبقية (التي تحتوي على الفيروسات)" في أيدي الحكومات، إذ أشار هندرسون برغبته في تدميرها، خشية وقوع حادث أو فعل فاعل قد يؤدي إلى إطلاق الجدري مرة أخرى بين البشر، وقد وقعت عدة حوادث كان تفشي الفيروس فيها مرجّحًا. فبعد عام من إعلان القضاء على الجدري، أدت إجراءات السلامة المخبرية السيئة إلى تفشي مرض آخر في برمنغهام في المملكة المتحدة، وقبل بضع سنوات فقط، عُثر على قوارير للجدري، مخزّنة بشكل غير صحيح في معمل بالولايات المتحدة. نحن بحاجة إلى أن نتعامل مع أبحاث الأمن البيولوجيّ ومسببات الأمراض، بجديّة أكبر.

علينا أن نُفكر بكوفيد-19، في السياق الأوسع لمحاربة البشرية للأمراض الانتقالية، باعتباره تذكيرًا لما يمكن أن يحصل، فعلى الرغم من سوئهِ، إلا أنه لم يكن الأسوأ. كان يمكن أن يكون معدل انتشاره أسرع، أو أن يكون معدل إماتته أعلى.

ظهرت أمراض أسوأ بكثير من كوفيد-19 في تاريخ البشرية، ولدينا كل الأسباب للاعتقاد بأننا قد نواجهها مرة أخرى في يوم من الأيام.

نأمل أن يكون الدمار الذي خلّفه كوفيد-19، قد جعلنا على دراية بالعمل الذي يقوم به خبراء الصحة العامة وعلماء الأوبئة، والدور الحاسم لبرامج التنسيق ومراقبة الأمراض في جميع أنحاء العالم (التي لا تزال تعاني من نقص التمويل)، والأهوال التي يمكن أن تحدثها الأمراض عندما لا نستطيع السيطرة عليها.

لدينا مجال للتحسين... ويُثبت تاريخ مكافحة الجدري بأننا قادرون على ذلك.

اقرأ/ي أيضًا | كارثة الغذاء القادمة

التعليقات