20/03/2023 - 11:57

كيف تُخرب الرَّأسمالية المُجتمعات؟

يناقش المقال العلاقة بين الرأسمالية والمجتمع، ويحاج أن الرأسمالية تقوض الروابط المجتمعية التي تربط الناس ببعضهم البعض، ويقترح أن الرأسمالية تعطي الأولوية للمكاسب الفردية على الرفاهية الجماعية، مما يؤدي إلى مجتمع ينفصل فيه الناس عن بعضهم البعض ومجتمعاتهم.

كيف تُخرب الرَّأسمالية المُجتمعات؟

(Getty)

- الباب الأول -

يوجد اقتصادان فاعلان في عالم اليوم، وهو ما يعني وجود نوعين متباينين جذريًا من الحياة الاقتصادية: الأول هو الاقتصاد كما يراه معظم الاقتصاديين والكُتاب ويتحدثون عنه. والثاني هو الاقتصاد كما يعيشه معظم الناس، ولنطلق على الأول اسم «الاقتصاد العلوي/الاقتصادات العلوية». وهي اقتصاديات المنافسة والمعرفة غير المتكافئة وحقوق المساهمين والتدمير الخلّاق، وهي النظام المهيمن، إذ نعرفُ كل شيء عن الاقتصاديات العلوية، وتضج أدمغتنا بقصصه بسبب المقالات التجارية والتحليلات المالية والقصص عن أغنى الأشخاص أو الشركات أو الدول على كوكبنا. بيزوس. بافت. غيتس. ماسك. زوكربيرغ. فوربس 400[1]. فورتشن 500[2]. بورصة ناسداك. مؤشر نيكاي وغيرها الكثير.

ولنطلق على الثاني اسم «الاقتصاد السفلي/الاقتصادات السفلية» والتي لا نسمع عنها كثيرًا، لأنها أقل إثارة وأكثر لزوجة، حيث تنطوي على آليات النجاة/البقاء (كنقيض للحياة) والتضامن المجتمعي والحسابات النقدية الورقية، وهو النظام الاقتصادي الذي يشمل أغلب سكان العالم، ويجعله هذا أكثر أهمية من الأول.

- الباب الثاني -

(Getty)

«التناقض الأساسي ليس بين ما هو ملكي وما هو ملكك، بل بين ما هو ملكي وما هو ملكك وما هو ملكنا».

يتولى ريكي دوليسون مسؤولية أراضي عائلته في بولان، جورجيا، والتي مُررت من جيل إلى جيل، حتى وصلته (الجيل الرابع)، وقد حقق نجاحًا كبير في عمله في مزارع الخنازير، ولخص إنجازه في الآونة الأخيرة بقوله: «أفضل شيء قمت به في الزراعة هو أنّي مسؤول عن سلسلة التوريد لديّ: فأنا أزرع علفي، وأربي الخنازير، وأعالج اللحوم، وأوزع منتجي»، حتى بنى علامته التجارية الخاصة Warrior Creek Premium Meats، وسُميت على اسم الجدول الذي يتدفق بجانب حقوله، والآن بعد انضمام ابنته لياندرا إلى العمل، فقد نقل إرث المزرعة إلى الجيل الخامس. أدرك دوليسون بمرور الوقت أن النمو في السوق الحديثة لن يتحقق بالعمل الفردي، ولهذا اجتمع قبل ست سنوات مع مجموعة من المزارعين السود الآخرين في جورجيا وكنتاكي لافتتاح الجمعية التعاونية AgFirst Community Cooperative، وأضاف، «ليست المشكلة في كيفية زراعة المحصول، بل في كل التغييرات التي أدخلها النظام العالمي».

خذوا السجق على سبيل المثال. أخبرني دوليسون أنه إذا أراد بيع السجق في متاجر السوبر ماركت، فيجب أن تحصل مزرعته على شهادة «ممارسات زراعية صالحة»، ويتطلب استخراجها استثمارات كبيرة في الممارسات والمعدات الحديثة، وهنا أوضح دوليسون: «نحن مزارعون سود، لدينا بعض المُعدَّات القديمة، ولا يمكننا تحمل شراء الأدوات الجديدة، ولا نعمل على هذا المستوى العالي من الإنتاج».

وكما أشارت نانسي داوسون، الأستاذة والزميلة في الجمعية التعاونية التي تزرع حديقة حضرية بمساحة ثلاثة أفدنة (12.140 متر2) في راسلڨيل، كنتاكي: «لا يستطيع معظم صغار المزارعين تلبية هذه المعايير بمفردهم. من أين سأحصل على 35,000 دولار لجرار جديد؟».

لا يتطلب الانضمام إلى الجمعية التعاونية AgFirst من المزارعين التوقيع على أراضيهم لتحويلها إلى ملكية مجتمعية والعمل في الحقول بشكل مشترك، وإنما يشجعهم على مشاركة المعارف والموارد وتقسيم التكاليف، ومواصلة السماح للمزارعين لجني ثمار جهودهم فرديًا، وهو ما أوضحه دوليسون بقولهِ «لم نجتمع لتحقيق مليون دولار. نعم نريد كسب المال، لكنا تجمعنا لأننا نريد البقاء، وألا تنتهي أعمالنا».

استعدت كاريليا جوس، في قرية هينترهين السويسرية الخلابة (التي يبلغ عدد سكانها نحو 60 نسمة) المرتفعة في كانتون غراوبوندن الألبي، لنقل قطيع عائلتها المكون من 18 بقرة إلى المراعي على منحدرات الجبال بالقرب من منزلها. تبدو جوس وعائلتها، في أرض العجائب السويسرية، مُعتمدين على أنفسهم، تمامًا مثل قصة وليام تيل الفلكلورية[3]، إلا أن لنجاح جوس أسباب تعاونية، إذ تبيع حليب أبقارها إلى جمعية تعاونية للألبان عمرها 176 عامًا في بلدة نيفينن المجاورة. تشتري الجمعية التعاونية الحليب من نحو 20 مزارعًا، وينتج صانع جبن مستأجر 160 طنًا من أجبان جبال كانتون غراوبوندن العضوية (bündner bergkäse)، وهي أجبان ألبية تُصنع فقط في عدد محدود من الوديان السويسرية. كما تستفيد الجمعيات التعاونية من بقايا تصنيع الجبن وتربح منها، إذ يباع السائل المتبقي بعد تجمد الجبن (مصل/شرش اللبن) إلى شركة وتحوله إلى مسحوق بروتين (أو كما يعرف تجاريًا باسم واي بروتين Whey Protein). واعترفت جوس بأن حياة عائلتها لن تكون كما هي ولن تستمر في الزراعة بدون الجمعية التعاونية: «لا يمكن لمزارعي الألبان كسب عيشهم بدون التعاونيات التي تصنع الجبن، وسيتعين عليها بيع أبقارنا».

يعمل يانيك فاسر على الجانب من الآخر من الكانتون نفسه بشكل تعاوني، والذي تتبع عائلته جذورها في ڨال موستير حتى القرن الخامس عشر الميلادي، ويرعى فاسر أبقاره العشرين مع مئات الأبقار الأخرى من 11 مزارعًا آخر، ويبيعون حليبهم إلى جمعية تعاونية محلية. يحب فاسر النموذج التعاوني لدرجة أنه ساعد زملاءه المزارعين في تكوين نموذجين تعاونيين إضافيين للحبوب واللحوم، ويضغط عليهم لتأسيس تعاونيات لكل الأمور مثل الحقول والحصاد المشترك وتأجير الأقنان، ويواجه صعوبة في إقناع جيرانه، إلا أنه لا يتوقف عن المحاولة، وقال إن أهمية التعاون ليست أيديولوجية، بل اجتماعية واقتصادية، وأكد لي أن «هذا سيكون مفيدًا للغاية لمدينتنا».

يرى تجار سوق ألابا الدولي في لاغوس بنيجيريا، في أساطيرهم الخاصة، أنهم حواريون متحمسون لآدم سميث. اسألهم وسيخبرونك. كان صعود ألابا المذهل على مدى العقود الأربعة الماضية من 18 تاجرًا يختبئون في الأدغال إلى مركز تجاري عالمي يضم آلاف التجار نتاجًا لأمريْن: رأسمالية السوق الحرة المحلية غير المقيدة ونعمة الله. التجارة في هذا السوق تعني أن تعمل بنشاط، ويُعرِّف العمل النشيط أسلوب حياتك. أكثر من نصف الشباب في نيجيريا عاطلون عن العمل، لكن آلاف الشباب يعملون في الأسواق. وعلى الرغم من أن عملة النيرة، العملة الوطنية، تشهد انخفاضًا حادًا مُستمرًا، إلا أن التجار ما يزالون يبرمون صفقات بمليارات الدولارات سنويًا.

يسقط العجب حين نعرف أنه هذا السوق يقدم، نوعًا ما، إثباتًا للمفهوم التجريبي للسوق الحُرة. قال لي الرئيس السابق للسوق، سلستين أوميوهابيك إيزيني، «السياسة الوحيدة التي نفهمها هنا هي سياسة المعدة. كل ما تراه هنا هو نتيجة لما تمكن الأشخاص أنفسهم من وضعه في مكانه الصحيح». استغرق الأمر مني أسابيع، وأنا أتجول في السوق قبل أن أكتشف وجود حقيقة مكملة تكمن تحت خطاب السوق الحرة، وهي بنية موازية خفية تستند إلى عادات قبيلة الإيغبو، ولكنها غير موصوفة وغير مدونة في القانون. لا تشمل هذه البنية التجارة، وهي غير فعَّالة وغير مُربحة، وهي مجموعة من العادات القائمة على تبديد مبالغ طائلة بالإيثار (أو بشكل غير أناني): برنامج ضخم وجماعي وقَبليّ لرأس المال الاستثماري يُحضر فيه كل تاجر مجموعة من المتدربين، ويمول جهودهم الفردية إلى أن يتعلموا الصنعة ويصيروا تجارًا، وعلى عكس كل الأساليب المعروفة لرأس المال الاستثماري، يقوم نموذج الإيغبو على نموذج الوفاء بالعطاء (Paying it Forward)[4]، فبدلًا من سداد الممولين عند تحقيق الأرباح، يجلب التجار الجدد متدربين جددًا ويعلمونهم ويمولونهم، وهلّم جرًا.

جمع غودي سي دايك، في أحد الأيام وأنا هناك، بعضًا من متدربيه السابقين في الكشك الضيق حيث يبيع الأجهزة المنزلية، وأكد أن بعض هؤلاء الشباب حققوا نجاحات أكثر منه، وهو ما أشعره بالفخر، كما لو أنه معلم حقق كل طلابه الشُهرة والثروة، وقال إن الأمر يتجاوز الربح الفردي، وأنه سعيد بأن مساهمته في القانون غير المكتوب للسوق ستساعد في رعرعة متدربيه، ومتدربي متدربيه مستقبلًا، وهو ما سيعزز نموًا مُستدامًا في السوق وفي المدينة وفي القبيلة وفي الدولة، حتى بعد فترة طويلة على وفاته.

وقف عشرات الأشخاص في الصباح الباكر في البرد على قمة تلٍ، وأمسك كل منهم مجرفة، كما لو أنهم عناصر في لوحة غرانت وود «القوطية الأميركية». كنا هناك لنشهد إعادة إحياء لتقليد قديم جليل يعود تاريخه إلى ما قبل تأسيس الجمهورية الأميركية. تجمع الناس لقرون في قرى شمال نيو مكسيكو للانضمام إلى اللامبيا[5] السنوية (Annual Limpia)، التنظيف الربيعي لقنوات الري التي تجلب المياه إلى المزارع المحلية. كنَّا بالقرب من قناطر خندق ريّ قرية أباكيو (Acequia del Pueblo Abiquiú) فوق القرية التي عاشت فيها جورجيا أوكيفي وحيث صاغت لوحاتها الانطباعية للجمال القاسي والفرداني للجنوب الغربي عبر استخدام العظام المبيضة والزهور الرقيقة، والرمال الدوامة والقرون المدببة. شعرتُ أننا كنا نشارك في شيء يتخالف والأعراف الاقتصادية التي تعتز بها الولايات المُتحدة الأميركية.

يشكل كل خندق ([6]Acequia) من خنادق الريّ الـ 700 في نيو مكسيكو مُجتمعًا صغيرًا حيث يتوزع الجريان الجبلي بشكل عادل ومنصف قدر الإمكان على المزارعين في المنطقة. وقد جلب المستعمرون الإسبان نظام الري بالخنادق إلى الولايات المتحدة في القرن السابع عشر، ويبدو بأنهم كانوا قد تعلموه من سُكان شمال أفريقيا، والذين احتلوا معظم شبه الجزيرة الإيبيرية[7] قبل ما يقرب من 1000 عامٍ. أوضحت مارثا مونتويا تروخيو، المفوضة المنتخبة لمجتمع خندق رينكون في پوجواكي، والذي يبلغ طوله 2.6 ميل (4.18 كم)، خارج مدينة سانتا في (Santa Fe)، حيث يغذي الخندق 60 مزرعة خاصةً وحقولًا تتبع لشعوب البويبلون[8] (أو شعوب البويبلو) من سكان أميركا الأصليين: «شهدت مناطق الخنادق والساقيات لدينا أول شكل من أشكال الحكومة». يوفر خندق رينكون الصغير المياه لـ 158 فدانًا (حوالي 639.5 دونمًا) من الأراضي الزراعية

لا تعمل الساقيات بدوافع الربح (وهذا لا ينفي رغبة المزارعين الذين يستخدمونها في الربح)، ويُقال إن الري بالغمر في الحقول، والذي يفضله معظم المزارعين (يمكن أن يكون الري بالتنقيط والدفيئات الزراعية مكلفة) يؤدي إلى خسارة الكثير من الماء للتبخر، ولكن هذه المجموعات الصغيرة من المزارعين صمدت خلال فترات الازدهار والكساد والجفاف والعواصف المطرية الشديدة، ونجت من تنقل الملكية، ومن تحديات التطوير العقاري.

- الباب الثالث -

(Getty)

«يكون الاقتصاد ناجحًا بقدر ما يكون تشاركيًا: عندما تكون نسبة الأشخاص الذين ينتفعون منه انتفاعًا كاملا عالية»

يعدنا نظامنا الاقتصادي بما لا يستطيع تحقيقه. يتعهد بتوفير الثروة والمساواة. هذا ما تدور حوله الاستعارة الساحرة لـ «اليد الخفية» والتي صاغها آدم سميث في عام 1759 في كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» (وأعيد ذكرها مختصرةً إلى حد ما عام 1776 في كتاب «ثروة الأمم»): «لا يستهلك [الأغنياء] أكثر من الفقراء إلا قليلًا، وعلى الرغم مما في طبعهم من أنانية وجشع [...] فإنهم يتقاسمون مع الفقراء كلَّ ما تتمخض عنه التحسينات التي يبدعونها. إن أمثال هؤلاء الأغنياء يتحركون وفقًا لإرشادات يد خفية لتحقيق التوزيع نفسه تقريبًا لضروريات الحياة، والذي كان ليتحقق لو كانت الأرض مقسَّمة إلى حصصٍ متساوية فيما بين كل سكانها، وبهذا فإنهم يعززون مصلحة المجتمع دون نية لفعل ذلك أو دراية بأنهم يعززونها، ويوفرون الوسائل اللازمة لتكاثر بني البشر»[9].

اعتبر سميث تقسيم العمل، حيث ينقسم الإنتاج إلى مهام فردية، باعتباره القوة الدافعة لهذه العملية، ووصفه في بداية «ثروة الأمم»، بأنه «أعظم تحسن» طرأ على «شؤون المجتمع العامة» في تاريخ البشرية، ولكنه وبعد 700 صفحة يعود للحديث عن الموضوع نفسه وحيال تأثيره، فيقول إن «التقدم في تقسيم العمل» يزيد من غباء وجهل الأفراد لأكبر حدٍ ممكن لدى الإنسان[10] [...] وفي كُل مُجتمعٍ متحضرٍ تقع العمالة الفقيرة، أي السواد الأعظم من الشعب، في هذه الحالة».

على الرغم من الاستعارة الساحرة لليد الخفية، يوجد سرطان في قلب نظام السوق. وإذا كان ما كتبه سميث صحيحًا، بأنه «ليس هناك من مجتمع يمكن أن يكون مزدهرًا وسعيدًا، بينما يرزح معظم أبنائه تحت طائلة الفقر والبؤس»[11]، فمن المستحيل أن نقول إن أي مجتمع على كوكبنا المجنون بالسوق مزدهر وسعيد.

من المؤكد أن سميث لم يكن الوحيد في حيرة من أمره؛ بسبب عدم توافق الربح الفردي والرفاهية العامة، وحاصر هذا اللغز الفلاسفة والاقتصاديين لآلاف السنين، إذ رأى أرسطو منذ أكثر من 2000 عام الحل على أنه مزيج من ضبط النفس والقمع، وجاء في كتابه «السياسة» أن «بداية الإصلاح لا تعني مساواة الملكية بقدر ما تكون تدريبًا للطبقات النبيلة كيلا ترغب في المزيد، ومنع الطبقات الدنيا من اكتساب المزيد من الثروة، وهذا يعني أنه يجب الإبقاء عليهم تحت السيطرة، ولكن دون أن تساء معاملتهم».

عاد ديفيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل بعد عقود قليلة من سميث إلى وجهة النظر الأرسطية القائلة إن مشكلة الفقر هي مشكلة الفقراء: كتب ريكاردو أن الفقراء «جعلوا ضبط النفس غير ضروري، ودعوا إلى الحماقة». وردد ميل الكلام نفسه «يوجد الفقر، مثل معظم الشرور الاجتماعية، لأن الرجال يتبعون غرائزهم الحيوانية»؛ واقترح كلاهما الحلول الأرسطية، ولكن بالتخلي عن فكرة أنه يمكن كبح جماح الأغنياء، وكتب ريكاردو أنه يجب «تعليم الفقراء معنى قيمة الاستقلال [...] وأن عليهم الركون إلى جهودهم لدعم أنفسهم»، وشرح ميل بضرورة «تغيير عادات الطبقة العاملة».

شخَّص جون ماينارد كينز المشكلة نفسها في كتابه «النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود» المنشور عام 1936: «تتمثل العيوب البارزة للمجتمع الاقتصادي الذي نعيشه في فشله في تحقيق التشغيل الكامل وتوزيعه الاعتباطي وغير العادل للثورة والمداخيل»، ولكن كينز كان يخشى التدخل في شؤون الأغنياء، وأشار إلى أن حِرمان الأثرياء من أموالهم، سيدفعهم إلى فورةِ غضبٍ على كل من هم أفقر منهم، وأضاف «لَأنْ يستبد المرء بحسابه البنكي أهون من أن يستبد بالمواطنين الآخرين».

كان جوزيف شومبيتر، بعد أقل من عقد على كينز، واضحًا أيضًا بشأن إخفاقات النظام: «لا تعني الرأسمالية فقط أن ربة المنزل قد تؤثر على الإنتاج باختيارها بين البازلاء والفاصوليا؛ أو باختيار الشاب للعمل في مصنع، أو في مزرعة. بل [أنها] تعني مخططًا للقيم، وموقفًا تجاه الحياة لتبني حضارة عدم المساواة وثروة الأسرة». تنبأ شومبيتر بمستقبل اشتراكي تسيطر عليه الحكومة، ولكنها اشتراكية سلطوية نخبوية: «لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن هذه الاشتراكية ستعني ظهور الحضارة التي يحلم بها الاشتراكيون المتطرفون. ومن المرجح أن تحمل ملامح فاشية».

سيمون كوزنتس، الحائز على جائزة نوبل في عام 1971 لتطويره ما أصبح يعرف باسم منحنى كوزنتس، وهو رسم تخطيطي يزعم إظهار أن عدم المساواة يزداد في بدايات التطور الصناعي، ولكنه ينخفض بعد ذلك مع تكيف المجتمع مع الحقائق الحديثة، اعترف في كلمة فوزهِ بالجائزة أن رسمه البياني فشل في الواقع في وصف جزء كبير من العالم: «بالتزامن مع الإنجازات الإيجابية الملحوظة للنمو الاقتصادي الحديث، توجد نتائج سلبية غير متوقعة حتى داخل البلدان المتقدمة؛ وتكافح الدول الأقل نموًا في محاولة استغلال الإمكانات الكبيرة للتكنولوجيا الحديثة من أجل الاضطلاع بدور مناسب في العالم الواحد والمترابط (والذي لا يمكنهم الانسحاب منه، حتى لو رغبوا في ذلك)». وأكد أنه حتى في الدول الغنية، فإن النضالات والتوترات السياسية «ستصبح أكثر كثافة وحدة مع اتساع الفجوة المتصورة بين ما تم تحقيقه وما يمكن تحقيقه من خلال النمو الاقتصادي الحديث».

- الباب الرابع -

(Getty)

«لا ثروات عظيمة بدون تاريخ من القواسم المشتركة».

يعمل المجال الاقتصادي العلوي مثل مجتمع مسوَّر (معزول) حيث يمكن للأشخاص الذين لديهم المال التظاهر بأن كل ما يفعلونه ويملكونه في الحياة يعتمد على الجدارة، وأن التعزيزات المجتمعية والتعاونية التي يستفيدون منها ليست سوى ثمار طبيعية لذلك الاستحقاق.

يعتبر التفضيل على أساس القرابة (Legacy Admission/Legacy Preference) في مؤسسات التعليم العالي النخبوية مثالاً ممتازًا. تعد كليات النخبة مجالًا مميزًا للغاية لدرجة أن معظم الجامعات/الكليات تحجز علنًا عددًا كبيرًا من مقاعد الالتحاق لديها كل عام لما يسمى بـ «التفضيل على أساس القرابة»، وهم الطلاب الذين سجّل ودرس آباؤهم أو أقاربهم في نفس المؤسسات التي يرغبون بالدراسة فيه، والذين لم يكونوا ليلتحقوا فيها بأي طريقة أخرى. أفصحت جامعات الآيڤي ليغ (رابطة اللبلاب Ivy League) بأن حوالي 15٪ من طلابها يندرجون تحت بند التفضيل على أساس القرابة. على الرغم من أن الرقم الفعلي قد يختلف، إلا أن هذا أمر مؤكد: من الأسهل بكثير الدخول إلى هذه المؤسسات إذا كان لديك اتصال عائلي مما لو كنت جزءًا من المجموعة العامة للمتقدمين. على الرغم من أن معدل القبول في جامعات الآيفي ليغ أقل من 6٪ تاريخيًا، تقبل جامعة برينستون ما يصل إلى 41٪ من المتقدمين بالتفضيل على أساس القرابة، بينما قبلت جامعة هارفارد 33٪ من المتقدمين بناءً على التفضيل ذاته.

لا يضمن الحصول على شهادة من المؤسسات التعليمية النخبوية النجاح بكل تأكيد، لكنها علامة على المكانة في مجتمع تكون فيه هذه الأنواع من الأمور مهمة للغاية، حيث يمنحك الالتحاق بنفس الكلية مفردات ومجموعة مشتركة من المراجع والنكات، ومعرفة ببعض نفس التقاليد، ونفس المباني، والأساتذة، والحانات، والمقاهي، والمعارف المحلية. تجعلك مثل هذه الإحالات المألوفة جزءًا من نادٍ حصري. عبّر لاري سمرز، رئيس جامعة هارفارد السابق، وهو اقتصادي اعتاد تقديم المشورة لرؤساء الولايات المتحدة، عن ذلك تمامًا عندما قال «إن القبول في تحت بند التفضيل على أساس القرابة جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي توجد فيه أي مؤسسة تعليمية خاصة». معظم الناس حول العالم لا يعيشون في هذا المجتمع المسور طبعًا، لأنهم جزء من الاقتصاد السفلي.

- الباب الخامس -

(Getty)

«لقد عكسنا السوق. نعتقد أنه يتضمن مشترين وبائعين متعارضين يستغلون المعرفة غير المتكافئة لتحقيق الهيمنة وأحيانًا التدمير الخلَّاق، في حين أن الأمر المهم حقًا هو المشاركة، والعمل الجماعي، والجماعة، وتحقيق الرضا».

أنا مدين ببعض تفكيري في هذا الأمر، على سبيل المفارقة، لكتابات إحدى مؤيدي السوق الحُرة المُطلقة (أو الرأسمالية المطلقة)[12]. كان بول هاين، مؤلف كتاب مدرسي مؤثر نُشر قبل 40 عامًا بعنوان «طريقة التفكير الاقتصادية»، حالة شاذة بالنظر إليهِ كونه خبيرًا اقتصاديًا. بدأ حياته المهنية كطالب لاهوت مع أيديولوجية مناهضة للرأسمالية، ثم قرأ الكتب الاقتصادية، وتحرك عبر الطيف السياسي ليصبح مؤمنًا حقيقيًا بالسوق الحرة. ألقى هاين في عام 2000، قبل وفاته (مبكرًا جدًا بالسرطان)، محاضرة فكك فيها جميع الانتقادات الأخلاقية للرأسمالية، كلها، باستثناء انتقاد واحد، الذي أشار إلى أنه كان صحيحًا بلا منازع. عبّر هاين عن هذا النقد الصحيح بطريقة نموذجية فريدة وفي كلمة كوآنية[13] فعالة من ثلاث كلمات: «الرأسمالية تُخرِّب المجتمعات».

يعتقد هاين أن المجتمع أمر أساسي لحياة الإنسان، وعلى الرغم من التزامه الراسخ بالحرية المتضمنة في طريقة التفكير الاقتصادية، فقد كان متأكدًا من أن الاقتصاد وحده لن يخلق التآزر المُجتمعي، وأشار إلى أننا يجب ألا «نتوقع أن يولد السوق مجتمعًا. ولن نحصل عليه من خلال محاولة تحويل السوق إلى حوض استحمام ساخن واسع في كاليفورنيا[14]». وكانت نصيحة هاين الأساسية: «ابحثوا عن طرق لتطوير المجتمعات دون تدمير السوق».

يعتبر المجتمع فئة اقتصادية غير معترف بها. يمكن أن يؤدي التكاتف على المستوى المحلي إلى خفض التكاليف، كما هو الحال مع تعاونيات الألبان السويسرية، وتمكين المجتمعات من الاحتفاظ بنصيب أكبر من ثروتها، وتبقى الفائدة الرئيسية للعلاقات المجتمعية والتعاونية أكثر أساسية: فهي توفر منصات يمكن للناس من خلالها الاطلاع على مستقبلهم في أثناء تقدمهم.

يأتي التغيير دائمًا من الأسفل، أي في علاقات الاقتصاد السفلي، حيث يمكن أن يزدهر النمو وتنتشر المساواة. يمكن إنشاء المنصات الاجتماعية عبر إقامة أقسام للإطفاء من المتطوعين، وعبر تمكين الجيران من بناء العلاقات من خلال إدارة أنظمة المياه إدارة مشتركة. تتشكل الشبكات الاجتماعية عبر جمعيات رعاية الأطفال أو جمعيات الآباء والمعلمين. تُعطي كل جمعية مدنية (أو مجلس حي، أو كنيسة، أو شبكة عمل اجتماعي، أو مخزن طعام) الناس منظورًا أوسع. يمكن للثقة المُجتمعية أن توفر للناس ميزة، كما يتضح من جمعيات الادخار والائتمان التي تدار جماعيًا.

يمكننا من خلال هذه المؤسسات ذاتية الحكم، التي ينضم إليها الناس بقلوبهم قبل عقولهم، أن نأمل في التأثير على أكثر مشاكل نظامنا استعصاءً.


إحالات:

[1] قائمة أغنى 400 أميركي، ونُشرت للمرة الأولى في عام 1982 وما تزال مُستمرة حتى اليوم، وتنشر كل عام في شهر سبتمبر.

[2] قائمة أغنى وأكبر 500 شركة في الولايات المتحدة من حيث إجمالي الإيرادات، وتشمل الشركات العامة والخاصة التي تكون إيراداتها مُعلنة. نُشرت القائمة لأول مرة في عام 1955، وما تزال مستمرة حتى اليوم.

[3] بطل شعبي ومزارِع سويسري، ويعد جزءًا من حكايات استقلال سويسرا عن الإمبراطورية النمساوية، وتقول الحكاية إن الحاكم النمساوي للمنطقة غيسلر وضع قبعته في قلب سوق القرية، أمر الناس بالانحناء لها كرمز لطاعة الإمبراطورية، إلا أن تيل، الفلاح المشهور بالرماية، رفض الانحناء للقبعة، فعاقبه غيسلر بأن يضع تفاحة على رأسه ابنهِ، وأن يصيبها، فأخذ تيل سهمين، ورمى السهم الأول باتجاه التفاحة وأصابها، وعندما سؤال عن أخذه لسهمين، قال بأنه كان سيرمي غيسلر بالثاني لو أصاب ابنه بالسهم الأول بدلًا من التفاحة. أمر غيسلر بعدها بسجن تيل في قلعة بالقرب من بحيرة لوزان، إلا أنه تمكن من الهرب، ونصب كمينا لغيسلر وقتله، وهو ما أشعل فتيل حرب الاستقلال السويسريّة.

[4] مصطلح دارج باللغة الإنجليزية، ويعني أن أفضل طريقة لكي ترد الخير الذي فعله أحدهم معك أن تقدم الخير لشخصٍ آخر، ويقوم بعدها الشخص الآخر بفعل الخير لآخر، وهلّم جرًا، وأفضل ترجمة للمصطلح هي «الوفاء بالعطاء».

[5] كلمة لاتينية مشتقة من كلمة limpiar، والتي تعنيف التنظيف/التطهير.

[6] كلمة إسبانية تعود جذورها إلى كلمة «الساقية» في اللغة العربية، ويمكن ملاحظة الشبه في طريقة نطق الكلمة الإسبانية.

[7] يشير الكاتب إلى الفتح الإسلامي للأندلس، وإلى اختراع العرب لأساليب الري بالخنادق، خصوصًا في قصر الحمراء وما حوله.

[8] الأميركيون الأصليون الذين كانوا يسكنون جنوب غرب الولايات المتحدة، والذين تشاركوا في الممارسات الزراعية والمادية والدينية، والتقى بهم الإسبان في مطلع القرن السادس عشر، ونظرًا لطبيعة القرى المركبة والبيوت متعدد الطوابق، أطلقوا على تلك القرى اسم «بويبلوس» والتي تعنى «القرى» أو المدن الصغيرة.

[9] نُقلت الترجمة بتصرف للتناسب والنص في المقال من كتاب «آدم سميث: مقدمة موجزة» لإيمون باتلر، والذي ترجمه علي الحارس مع مؤسسة هنداوي (صفحة 87-88).

[10] يُشير آدم سميث أيضًا إلى أن الإنسان الذي يقضي حياته كلها في إنتاج وتعلم مهارة واحدة فقط يصير بعدها غير قادر على التفكير ولا حتى المشاركة الفعالة والمجتمع، بل وحتى إلى غياب ممارسته في الدفاع الوطني عن بلده، وللتخلص من تقدم مبدأ تقسيم العمل إلى هذه الحالة ينادي بالتدخل الحكومي عبر تعليم الناشئة والتعليم المستمر لتفادي فقدان العاملين لحماستهم وقدرتهم على تأدية المهام على أكمل وجه.

[11] من كتاب «آدم سميث: مقدمة موجزة» لإيمون باتلر، والذي ترجمه علي الحارس مع مؤسسة هنداوي (صفحة 103).

[12] والتي لا تسمح للدولة بالتدخل في السوق أو الاقتصاد إطلاقًا.

[13] الكوآن، قصة أو حوار أو سؤال أو لغز أو مقولة ملغزة تقال بغرض التمرين الذهني، ويمكن تعريفه باختصار على أنه تدريب عقلي على موضوعات التأمل.

[14] معروف أن أحواض الاستحمام الساخنة في كاليفورنيا واسعة، وتعبّر عن أسلوب حياة الأشخاص الذين يسكنون في الولاية، حيث يتجمعون في الحوض، ويتحدثون وهم في حالة استلقاء واسترخاء.

التعليقات