03/04/2023 - 12:04

نسويّة الصدمة

تحافظ شهرزاد في ألف ليلة وليلة على حياتها، وعلى رقبتها من خلال سرد القصص كلّ ليلة، حتّى وقع الملك في حبّها، ولتصير ملكته. عاشت النساء الملوّنات وغيرهنّ من المهمّشات لفترة طويلة على رواية قصص صدمتهنّ والويلات الّتي مررن بها

نسويّة الصدمة

(Getty)

تشقّ المحامية باكستانيّة المولد والناشطة النسويّة والعضو السابق في مجلس إدارة منظّمة العفو الدوليّة رافيا زكريّا طريقها نحو فعاليّة مجتمعيّة محلّيّة لجمع تبرّعات لقضايا المرأة الدوليّة: اقترحت صديقة اسمها كمتحدّثة عن موضوع النسويّة في باكستان، ولدهشتها، عند وصولها إلى الفعاليّة، قابلتها امرأة بيضاء ووبّختها لعدم ارتدائها لباسها الأصليّ. طلب منها بعدها الوقوف أمام منضدة مغطّاة بمنتجات تشوتشيكيّة[1] سياحيّة تبدو كأنّها حرف يدويّة باكستانيّة، وأن تروّج لمنتجات بلدها، وأنّ تحمّل النساء البيض المتبرّعات والنساء «الأصليّات» الأخريات على شراء السلع المعروضة، وعند إدراكها لسخافة الفكرة، غادرت زكريّا المكان، وجلست في سيّارتها تبكي لمدّة نصف ساعة من الذلّ الّذي تعرّضت له.

هذا السيناريو مألوف لدى كثير من النساء ذوات البشرة الملوّنة، فغالبًا ما تخدم النساء الأميركيّات السود كوجوه للتنوّع في المنظّمات ذات الميول اليساريّة، ولكن لا يسمح بأن يكون لهنّ رأي في إدارة هذه المنظّمات. تمجّد النساء المولودات في الخارج لأصالتهنّ الغرائبيّة في أماكن العمل، ويطلب منهنّ استعراض أصولهنّ بالأزياء، مثل دمى دوليّة، ولكن لا يسمح لهنّ بالتحدّث. تتجاهل المنظّمات النشاط السياسيّ لهؤلاء النسوة، أو يتمّ استيعابهنّ في الحملات التنظيميّة، دون القيام بأيّ شيء، سوى أن يؤدّين الدور الّذي أمرت زكريّا بتأديته، حرفيًّا، أو مجازيًّا: عليك بالوقوف في منطقة العرض، وحاولي أن تبدي «أصليّة»، ولا تتحدّثي إلّا إذا تحدّث الناس إليك.

تتناثر هذه القصص في كتاب زكريّا الأخير، «ضدّ النسويّة البيضاء: ملاحظات على الاختلال». وتتحدّث في فصل بعنوان «جرائم الشرف، وختان الإناث أي [تشويه الأعضاء التناسليّة الأنثويّة]، والتفوّق النسويّ الأبيض»، عن نفاق النسويّات البيض اللّاتي يعربن عن صدمتهنّ تجاه مثل هذه العادات، ولكن لا يمكن أن يربطن بينها وبين الممارسات غير العادلة المماثلة في ثقافتهنّ؛ وتكشف زكريّا في الكتاب أيضًا عن قصّتها عندما هربت وهي في الخامسة والعشرين من زوجها الباكستانيّ خوفًا من أن يقتلها، ودخلت ملجأ للعنف الأسريّ. يندرج ما كنت ستتعرّض له تحت تعريف هيومن رايتس ووتش لجرائم الشرف: «التعدّي على حياة المرأة لمجرّد تصوّر أنّها تصرّفت بطريقة "تسيء إلى شرف" عائلتها».

لكنّ زكريّا تشير إلى أنّ «وفاة بعض النساء البيض اللّاتي التقيتهنّ في الملجأ، وواجهن احتمال تعرّضهنّ لعنف من شركائهنّ؛ لأنّهنّ تركنهم» يمكن اعتباره أيضًا جرائم شرف، وكتبت: «لا أحد يلاحظ أنّ الشرف والأنا تكرار لنفس قوى الهيمنة الأبويّة». تساعد مثل هذه القصص في توضيح بعض نقاط زكريّا، إلّا أنّ قوّة الكتاب تنبع من نقده المنهجيّ والمؤسّسيّ، والّذي لا يعتمد فقط على قصص التعاطف. يوجد فصل بعنوان «المنقذ الأبيض من المجمّع الصناعيّ والنسويّة الملوّنة الجاحدة» والّذي يناقش بالتفصيل محاولة قادة منظّمة غير حكوميّة دوليّة في التسعينيّات التخلّص من مواقد حرق الأخشاب في أجزاء من المناطق الريفيّة في الهند، واستبدالها بمواقد حديثة، حيث رأى هؤلاء القادة أنّ حرق الأخشاب يمثّل مشكلة بيئيّة (على الرغم أنّ الأمر لم ينطو على قطع الأشجار بأكملها)، وأنّ «المواقد النظيفة» ستريح النساء من مجهود جمع الحطب، وستحوّلهنّ إلى عاملات مستقلّات بأجر، ولكن فشلت هذه المحاولة؛ لأنّها لم تضع في حسبانها الجانب الثقافيّ لاستخدام النساء للمواقد الخشبيّة منذ عام 1800 قبل الميلاد[2].

لكنّ النساء لم يردن المواقد. وصرّحت غيتا سين، النسويّة الهنديّة والمؤسّسة المشاركة لمنظّمة الفجر DAWN (بدائل التنمية للنساء في عصر جديد): «لا أرى في المساواة مع الرجال الّذين يعانون أنفسهم من البطالة والأجور المنخفضة وظروف العمل السيّئة والعنصريّة داخل البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة القائمة هدفًا مناسبًا أو جديرًا بالسعي خلفه». وجدت النساء أنفسهنّ في نظام يتجاهل احتياجاتهنّ ورغباتهنّ الفعليّة.

ومع تواصل قصص زكريّا المثيرة في الكتاب، يضجر المرء منها، ويبدأ بالبحث عن تحليلات أوضح لأوضاع النساء. لماذا يجب على امرأة باكستانيّة سمراء تتمتّع بسنوات من الخبرة التحليليّة كمحامية وناشطة أن تكشف للقارئ أوّلًا عن حياتها الخاصّة للتأكيد على أصالتها؟ ولماذا تكشف عن صدمتها وعن حياتها كناجيّة من العنف المنزليّ؟ هل هذا طلب من المؤلّفين البيض؟

لا تشعر كيلا شولر بالتأكيد بمثل هذا الضغط. يحمل كتابها، الّذي نشر بعد شهرين فقط من كتاب زكريّا، أيضًا عنوانًا استفزازيًّا: «المشكلة مع النساء البيض: تاريخ بديل للنسويّة»، وتكتب:

" النسويّة البيضاء هي الأعلى صوتًا من بين الفئات الداخليّة للحركة النسويّة، وحظيت بأكبر قدر من الاهتمام، كما كانت الدافع وراء أغلب التاريخ المكتوب حول النضال من أجل حقوق المرأة... ليس المشكلة في النسويّة البيضاء فيما تتناوله وفيما تتجاهله، وإنّما فيما تفعل وفيمن تقمع».

يقدّم الكتاب سلسلة من «التواريخ البديلة» في فصول يعرض كلّ منها قصص امرأتين: إحداهنّ نسويّة بيضاء، بمفهوم النسويّة الكلاسيكيّ، وأخرى تتناقض حياتها وعملها مع الأولى ومنسيّة تاريخيًّا (وفقًا لشولر). لذلك، تقارن، على سبيل المثال، حياة وعمل هارييت بيتشر ستو، الّتي اشتهرت بتأليفها كتاب «كوخ العمّ توم»، مع حياة هارييت جاكوبس، الّتي اشتهرت أيضًا بأنّها مؤلّفة كتاب «وقائع في حياة فتاة مستعبدة»[3] المنشور عام 1861. وتقارن في فصل آخر بين جانيس ريموند، النسويّة المعروفة بمناهضتها للتحوّل الجنسيّ ومؤلّفة كتاب «إمبراطوريّة المتحوّلين جنسيًّا» The Transsexual Empire، وبين ساندي ستون، العازفة والفنّانة والمتحوّلة جنسيًّا. كتبت ستون دحضًا شهيرًا للنسويّات مثل ريموند بعنوان «الإمبراطوريّة» تردّ: بيان ما بعد التحوّل الجنسيّ[4]. تقدّم شولر تمرينًا مثيرًا يوضّح فروق السلطة بين النساء السود أو السمراوات والنساء البيض. لم تكشف شولر أيّ قصص عن نفسها، لكنّها تزوّدنا بالعديد من القصص عن النساء اللّائي تكتب عنهنّ: قصص عن التهميش أو الشهرة، وتجاوز الشدائد، والتحرّر وفقدان الحرّيّة. لا تقدّم شولر في هذه العمليّة، على الرغم من أهدافها السامية وكلماتها اللاذعة، أيّ انتقادات حقيقيّة وحاسمة لسلطة النسويّة البيضاء، بل تكرّر ديناميّات السلطة الّتي اضطهدت النساء غير البيض تاريخيًّا.

تحرص شولر على تقديم حياة النساء اللّواتي تكتبهنّ على شكل دروس سهلة الفهم للنسويّات اليوم، وتعرّض نفسها باعتبارها الراوية الكبرى للحكايات، وهي بذلك تبسط حياتهم إلى مجموعة محدودة من الأعراض والمشاكل، وتستحضر القوالب النمطيّة العرقيّة السلبيّة القديمة ذاتها، ولنأخذ هذا الفصل مثلًا «أمّهات مستوطنات وأيتام أصليّون: أليس سي فليتشر وزيتكالا سا». كانت أليس سي فليتشر[5] عالمة أنثروبولوجيا بيضاء ساهمت في تمرير قانون دوز لعام 1887: والّذي أنهى شرعيّة الملكيّة الجماعيّة للأراضي بين الشعوب الأصليّة وفرض الملكيّة الخاصّة[6]، وقد أدّى ذلك إلى مزيد من توغّلات الدولة في حياة السكّان الأصليّين وتبرير الفصل الوحشيّ للأطفال عن أسرهم في محاولة لـ «تثقيفهم» بعيدًا عن أساليب أجدادهم. كانت زيتكالًا سا[7] كاتبة وناشطة في يانكتون[8] داكوتًا، وكتبت عن تجربتها في حرمانها من والدتها عندما كانت طفلة. يبدأ فصل شولر عنها: «قبل أن تسمع زيتكالًا سا البالغة من العمر ثماني سنوات عن التفّاح الأحمر الكبير في الشرق، ركضت بحرّيّة فوق البراري والتلال الخضراء المتدحرجة جنوب شرق ولاية ساوث داكوتًا. وفور انتهائها من عملها الصباحيّ في خياطة تصاميمها بالخرز على جلد الغزال، أو من مساعدة والدتها في تجفيف الفواكه أو اللحوم لفصل الشتاء، كانت تقفز على المنحدرات خلف الأوغام[9]»، وقصص أخرى.

تتحدّث شولر بناء على قصص زيتكالا سا المختلفة عن حياتها، لكنّها تصوغ أيضًا قصّة تعتمد على الصورة النمطيّة لطفل أميركيّ أصليّ يركض بحرّيّة في الطبيعة، وقد تنطبق تلك الصورة على زيتالكا سا، لكنّها كانت تمتلك أيضًا آراء وممارسات غير تقليديّة حول الزواج، من بين أمور أخرى كثيرة، فهي أوّل أميركيّة أصليّة درست الكمان في معهد نيو إنگلاند للموسيقى وكتبت الأوبرا. كانت ذات مواهب متعدّدة وبروح مشتعلة وشرسة، بيد أنّ كلّ هذا صار ثانويًّا لهويّتها الأساسيّة، والأسوأ من ذلك، جعلتها شولر امرأة منسيّة، حيث تختتم:

«ما بقي من إرثها كان محجوبًا إلى حدّ كبير بمعايير المستعمرين الّتي قاومتها بشدّة. نشرت صحيفة نيويورك تايمز نعيًا موجزًا ذكرت فيه نشاط السيّدة آر تي بونين، من أجل حقوق الهنود [إشارة إلى اسمها الإنجليزيّ]، ذكر في شهادة وفاتها فقط: غيرترود بونين من داكوتا الجنوبيّة - ربّة منزل».

ويعطي هذا انطباعًا أنّ زيتكالًا سا كانت وما زالت في طيّ النسيان، وأنّ شولر تعيد إحياء تاريخها المنسيّ، ولكن في الواقع، كانت زيتكالًا معروفة، ويكتب عنها منذ فترة: سمّى المشروع الوطنيّ لتاريخ المرأة شهرًا كاملًا باسمها تيمّنًا بها في عام 1997، وسمّيت فوّهة بركان على كوكب الزهرة باسمها في عام 2006، وغيّرت مقاطعة أرلينغتون، فيرجينيا، حديقة كانت تسمّى باسم هنري كلاي إلى اسمها تكريمًا لها في عام 2020. خصّصت غوغل إحدى رسومات الشعار المبتكرة لها في 22 فبراير 2021. لكن بطبيعة الحال، فإنّ تحويل زيتكالا إلى شخصيّة حزينة وحيدة ومنسيّة لا يؤدّي إلّا إلى تقدّم مشروع شولر. إذا كانت المشكلة الأساسيّة في النسويّة البيضاء هي أنّها «حظيت بأكبر قدر من الاهتمام»، فإنّ مشروع شولر لوصف إرث زيتكالا على أنّه منسيّ هو جزء من هذه المشكلة.

تتلقّى ساندي ستون معاملة مماثلة: في نهاية الفصل المخصّص لها، تصف شولر كيف تصير ستون عاطفيّة عند قراءة أعمالها: «تنهّدت كلماتها. كانت تحلم بأن تكون يومًا ما جزءًا من مجتمع المنظّرين، وهي الآن من بين المئات والمئات من المنظّرين». من المفترض أن يكون الـمرء مؤثّرًا، وهو كذلك لحدّ ما، ولكن هل ينتهي الأمر عند هذا الحدّ؟ ستون أيضًا باحثة وناشطة وفنّانة معترف بها دوليًّا. لماذا تختزل الإنجازات العظيمة إلى لحظة عاطفيّة واحدة؟ المرأة المتحوّلة جنسيًّا والحزينة هي بالتأكيد قصّة يمكننا الاستغناء عنها في نهاية الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين: فهذا جانب آخر من الصورة النمطيّة للمرأة المتحوّلة جنسيًّا والشرّيرة. تصنّف شولر نفسها ضمنًا على أنّها النسويّة البيضاء الّتي تمنح ستون طريقة للوجود. لنكن صريحين: شولر هنا هي المنقذ الأبيض.

يجد البياض طريقه إلى كلّ شيء، أحيانًا بشكل غير محسوس.

يثير وجود ستون في الكتاب قضيّة شائكة أخرى غطّيت بسرعة: هويّتها كامرأة بيضاء. رحلة ستون الطويلة كامرأة عابرة وشخصيّة عامّة جديرة بالملاحظة، إلّا أنّها كانت وما تزال بيضاء. إذا كان الكتاب عبارة عن نقد للنسويّة البيضاء، فلماذا نتظاهر بأنّ ستون لا تستفيد من امتيازاتها البيضاء؟ لم تعترف شولر في أيّ وقت بمزايا الهويّة العرقيّة لستون: حتّى بياضها غير معترف به. بل إنّ شولر تتّجه في الفصل نفسه لاستخدام سرد رمزيّ عن الناشطتين المتحوّلتين مارشا بي جونسون وسيلفيا ريفيرا (إحداهنّ سوداء والأخرى من بورتوريكو) وعن الجماعة السياسيّة الراديكاليّة Street Transvestite Action Revolutionaries (STAR) الّتي أسسنها، ولا أحد ينفي أهمّيّة هذا الأمر في تاريخ الحركة الكويريّة، لكنّه يستحقّ أن يكون أكثر من مجرّد إلهاء عن الهويّة العرقيّة للمرأة البيضاء في المركز، إلّا إنّ بياض ستون يكتسب غطاء بقصص عاطفيّة من حياتها ومن خلال الالتفاف إلى النشاط الثوريّ الأسود للمتحوّلين، في حين أنّه يجب العمل على تاريخ المتحوّلين جنسيًّا ونشاطهم السياسيّ، بكلّ تعقيداته، في كلّ مكان، أمّا أن تستخدم قصص امرأتين متحوّلتين مشهورتين ملوّنتين في فصل يتجاهل بياض موضوعه المركزيّ فلا يفيد أحدًا.

يظهر البياض مرّة أخرى، مثل هيدرا[10] الّتي لا تموت، في الغياب التامّ للمرأة الآسيويّة. في كتاب يدّعي أنّه ضدّ النسويّة البيضاء، ويؤسّس لتاريخ بديل، فإنّ التغاضي عن جزء كبير من سكّان الولايات المتّحدة، وعن جزء يضمّ العديد من النسويّات، لهو أمر مثير للبلبلة، ولكنّه ليس مفاجئًا. يتحدّى التاريخ الأميركيّ الآسيويّ في الولايات المتّحدة الثنائيّات السهلة الّتي تعتمد عليها شولر في كتاب «مشكلة النساء البيض: تاريخ بديل للنسويّة»، لأنّه ولكي تنجح رؤية شولر العالميّة المبسّطة عن القمع، عليها أن تقدّم التاريخ بطرق أقلّ تعقيدًا: العبيد مقابل مالكي العبيد، المستعمر مقابل المستعمرين. سيجلب تضمين الأميركيّين الآسيويّين تيّارات جغرافيّة وإمبراطوريّة وأنماط هجرة معقّدة، بالإضافة إلى ديناميكيّات القوّة الّتي تقاوم الانقسام بين الأسود والأبيض الّذي تعتمد عليه في كتابها: كان الآسيويّون في المملكة المتّحدة ومنطقة البحر الكاريبي وإفريقيا يوصفون أحيانًا بأنّهم سود أو «ملوّنين»، بالركون على تاريخهم والّذي قد يكون مرتبطًا أو غير مرتبط بأعمال السخرة. صنّف المهاجرون الهنود الأوائل أحيانًا على أنّهم من البيض، اعتمادًا على لون بشرتهم. لا يزال الإحصاء الأمريكيّ يعتبر سكّان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من البيض، على الرغم من احتجاج كلتا المجموعتين. العرق بنيّة اجتماعيّة، والبياض بنيّة اجتماعيّة مثلها مثل أيّ فئة عرقيّة أخرى. ولغرض مشروع شولر الكبير، كان يجب أن يكون «الأبيض» جدارًا صلبًا يمكنها توجيه انتقاداتها ضدّه، لكنّ إحضار الآسيويّين (أو الشرق أوسطيّين أو الشمال إفريقيّين) يخفي كلّ أهمّيّة مشروعها، ويثبت أنّ البياض سائل ومتغيّر.

ما الّذي تقدّمه لنا هذه الكتب وهذه القصص في النهاية كحل؟ لا يمكن أن يكون هناك شكّ في أنّ النسويّة البيضاء، في سيطرتها على السياسة والسعي، تظلّ مشكلة مستعصية، وتشغل مساحة وموارد لا تدعم سوى المواقف الخاسرة. حتّى بعد عقود وعدّة «موجات» من النسويّة، لا تزال النسويّة البيضاء غير قادرة على إعطائنا سببًا مقنعًا لدعمها، كما يتّضح من حملة هيلاري كلينتون، والّتي اعتمدت ببساطة على حقيقة أنّها كانت مرشّحة ضدّ ترامب، ويتجلّى هذا النقص الجوهرانيّ عند ليز تروس، والّتي تمثّل مشاكل النسويّة البيضاء الّتي ينبغي أن نتجاهلها.

تشير كلّ من زكريّا وشولر بشكل غامض بالتأكيد إلى «الرأسماليّة» كمشكلة، ولكن في هذه الأيّام، حتّى تاكر كارلسون يتنكّر أحيانًا باعتباره مناهضًا للرأسماليّة، فمن لا يفعل ذلك؟ تستخدم زكريّا لغة خطابيّة مستهلكة:

«أخيرًا، يجب على النسويّات البيض قبول أنّ التضامن الحقيقيّ، حيث تتفاعل جميع أعراق النساء على مستوى من التكافؤ، يعني استيعاب وتقييم العديد من أنواع المعرفة والتجارب المختلفة، خصوصًا تلك المعاني المستخلصة من التجارب الحيّة»

لا يسع المرء إلّا أن يشعر بخيبة الأمل عند قراءة هذه الكلمات، حيث تبدو مثل بيان تأسيسيّ لمنظّمة غير حكوميّة نسويّة أخرى.

وتقول شولر: «لا يمكن أن تحتوي النسويّة البيضاء حقوق النساء ذوات البشرة الملوّنة والمتحوّلين والمعاقين والفقراء، لأنّ سياساتها تتعارض بشكل أساسيّ مع بقائهم على قيد الحياة»، وهي تتجاهل هنا مرّة أخرى، بلغة متلاعبة، النسويّات البيض من بين الفقراء والمتحوّلين والمعاقين، واللّاتي قد يمنحهنّ بياضهنّ امتيازات (بل وقد يجعلهنّ عنصريّات!). تشبه شولر في هذا السياق امرأة بيضاء لطيفة تعيش في الضواحي، وتملأ حديقتها بيافطات «حياة السود المتحوّلين مهمّة»، دون وجود شخص أسود متحوّل حولها.

كيف ننتج روايات مختلفة عن النسويّة البيضاء ومشاكلها؟ ماذا لو لم تضمن زكريّا قصصها الشخصيّة؟ وإنّما لو بدأت بالحديث عن تنازع منظّمة DAWN والنسويّات الهنديّات المنتسبات إليها مع الأجندة «النسويّة» الدوليّة الّتي تقودها المنظّمات غير الحكوميّة، وعن نضال المنظّمة الهنديّة في إعادة توجيه الجهود لتتناسب بشكل أفضل مع احتياجات النساء الهنديّات الريفيّات (على الرغم من أنّها ذكرت هذا في الكتاب، إلّا أنّها لم تقدّم تفاصيل كافية حول هذا الموضوع). لو أفردت زكريّا فصلًا من كتابها يتحدّث عن الديناميكيّات في السياق الهنديّ، لكانت قدّمت سردًا فاعلًا عن المقاومة الفعليّة للنسويّة البيضاء، بدلًا من حديثها عن صدماتها الشخصيّة.

تعدّ موضعة الانتقادات والتحليلات الأساسيّة لتدور حول الصدمات والقصص الشخصيّة أمرًا مزعجًا سياسيًّا؛ لأنّه يتطلّب من النساء ذوات البشرة الملوّنة الكشف باستمرار عن أعماقهنّ وأسرارهنّ العاطفيّة للعالم. إذا لم يستطع القارئ فهم ضرورة التغيير، دون أن يثبّت الكاتب أنّ العنف المنزليّ، على سبيل المثال، هو في الواقع صادم، فلماذا نحاول التحدّث مع هؤلاء القرّاء؟ تعتمد زكريّا وشولر على التعاطف، ولكن كيف يمكننا خلق سياسة تغيير دون الاعتماد على إشعار الناس بالذنب والشفقة تجاه النساء؟

لا توصلنا القصص إلى أيّ مكان. احتشدت حركة #MeToo بالقصص، لكنّها كانت منفصلة تمامًا عن أيّ مطلب لتغيير هيكلي أو منهجي، وهو ما يجعلها تفشل فشلًا ذريعًا حتّى الآن دون تحقيق أيّة مكاسب حقيقيّة لملايين النساء اللّواتي ما زلن يتعرّضن للتحرّش في الوظائف متوسّطة أو منخفضة المستوى، داخل أو خارج هوليوود الصاخبة. بكينا ورددنا لعقود من الزمان قصصًا عن نساء حرمن من الإجهاض، وانظروا أين نحن الآن؟ اعتمدت النسويّة لفترة طويلة على محاولة اكتساب التعاطف مع النساء: علينا التخلّص من أسلوب رواية القصص كإستراتيجيّة أساسيّة.

نحتاج إلى الإرادة السياسيّة والتحليل بدلًا من القصص، ولا يكفي أن نستبدل النسويّات البيض بنسويّات مختلفات ملوّنات في مكانهنّ (ولكنّه واجب). ولضمان بقاء السياسة اليساريّة، والّتي لا يمكن للنسويّة أن تحارب إلّا في ميدانها، فعليها أن تؤمن بإمكانيّات أفكارها ومفاهيمها.

تحافظ شهرزاد في ألف ليلة وليلة على حياتها، وعلى رقبتها من خلال سرد القصص كلّ ليلة، حتّى وقع الملك في حبّها، ولتصير ملكته. عاشت النساء الملوّنات وغيرهنّ من المهمّشات لفترة طويلة على رواية قصص صدمتهنّ والويلات الّتي مررن بها أملًا في الحصول على الحدّ الأدنى من الموارد من أنظمة قاسية وغير مكترثة. لقد حان الوقت للتوقّف عن سرد قصصنا، والتوقّف عن طلب التعاطف، والمطالبة ببساطة بتغييرات منهجيّة. حان وقت الانتفاضة وقتل الملك. والملكة.


إحالات:

[1] كلمة يهوديّة قادمة من اليديشيّة، وقبلها من اللغات السلافيّة، وتعني منتجات وتحف فنّيّة توزّع، أو تباع في المعارض والمؤتمرات، كما يشير المصطلح إلى الهدايا التذكاريّة الّتي تباع في المناطق السياحيّة.

[2] ولأنّ المواقد الحديثة بحاجة إلى موارد وقدرات صيانة غير موجودة محلّيًّا.

[3] سيرة ذاتيّة كتبتها هارييت جاكوبس، واستخدمت الاسم المستعار ليندا برينت عند نشرها الكتاب، حيث يوثّق حياتها كعبدة بلغة موجّهة إلى النساء البيض في الشمال الأميركيّ لتوضّح لهنّ شرور نظام العبوديّة، وقد ناشدت الإنسانيّة عند تلك النسوة من أجل زيادة معرفتهم ودفعهنّ للعمل ضدّ العبوديّة.

[4] توجد استعارة ساخرة في العنوان من سلسلة حرب النجوم Star Wars، خصوصًا بالإشارة إلى فيلم The Empire Strikes Back والصادر عام 1980.

[5] عالمة أعراق وأنثروبولوجيا أميركيّة، درست ووثقت ثقافة السكّان الأصليّين في الولايات المتّحدة الأميركيّة، كما عملت في مدراس تعليم السكّان الأصليّين اللغة الإنجليزيّة لإدماجهم في المجتمع الأميركيّ، وعاشت مع شعب السو (أوّل أمّة أصليّة مكثت في الولايات المتّحدة) لدراستهم، وعملت مترجمة فوريّة مع الزعيم «الدبّ الواقف» في محاكمته الشهيرة والتاريخيّة للحقوق المدنيّة.

[6] سمح الرئيس الأميركيّ بسمح الأراضي التابعة للشوب الأصليّة وتقسيمها على شكل حصص للأفراد من السكّان الأصليّين، ويحصل كلّ من يقبل بهذه الحصّة، وبالعيش المنفرد بعيدًا عن القبيلة على الجنسيّة الأميركيّة.

[7] كاتبة وشاعرة ومحرّرة ومترجمة وموسيقيّة ومربّية وناشطة سياسيّة ومدنيّة، اسمها يعني «الطائر الأحمر»، وعرفت بعد زواجها باسم «غيرترود سيمونز بونين»، وكانت إحدى مؤسّسي المجلس الوطنيّ للهنود الأميركيّين في عام 1926، والّذي أنشئ للدفاع عن حقوق السكّان الأصليّين بالمواطنة الأميركيّة وغيرها من الحقوق المدنيّة الّتي حرموا منها منذ الاستقلال، وشغلت زيتكالا منصب رئاسة المجلس حتّى وفاتها عام 1938.

[8] سمّيت على اسم قبيلة اليانكتون من شعوب السو والّتي عاشت غربيّ داكوتًا، ويأتي اسمها من الكلمة الداكوتيّة I-hank-ton-wan، والّتي القرية الأخيرة.

[9] الوغم أو الوقب أو wigwam، وهي غرفة صغيرة مقبّبة استخدمها الأميركيّون الأصليّون وقبائل الأمم الأولى في كندا لإجراء الطقوس المختلفة، وتختلف عن بيوت التيبة المستخدمة للسكن من حيث الشكل والبناء والوظيفة.

[10] حيّة كبيرة في الأساطير اليونانيّة قتلها هرقل، ويزعم أنّه لها تسعة رؤوس، أي أنّك كلّما قطعت واحدًا، نبت رأس آخر مكانه.

التعليقات