19/12/2023 - 19:31

هل يحيي السابع من أكتوبر العملية السياسيّة الفلسطينيّة؟

توجد حقيقة صعبة في الوقت الحالي ولا يمكن تجنبها، وهي أن هدف إسرائيل المُعلن والمتمثل في القضاء على حماس بوصفها قوة سياسية وعسكرية هدفٌ لا يمكن تحقيقه، بل إنه، بصراحة، وصفة للموت والدمار غير المنتهي...

هل يحيي السابع من أكتوبر العملية السياسيّة الفلسطينيّة؟

آثار القصف الإسرائيليّ في غزّة (Getty)

بعد عشرة أسابيع على بداية الحرب الوحشية على غزة، ما زال القادة الإسرائيليون يصروّن على أن حملتهم العسكرية سوف تتواصل إلى أن تقضي على حماس، بيد أنهم لم يوضحوا بعد ما الذي سيعنيه ذلك عمليًا، أو من وماذا يتوقعون أن يسد فراغ الحكم الذي ستخلفه مثل هذه النتيجة. ونظرًا لغياب هدفٍ واضحٍ للجيش الإسرائيلي، كثرت التكهنات حول ما سيحدث بعد توقف هطول القنابل. تتراوح سيناريوهات «اليوم التالي» المطروحة ما بين الأفكار الخيالية والبعيدة عن التطبيق مثل فرض وصاية عربية على القطاع، وبين الدعوات الصريحة والمزعجة، ومعظمها من الإسرائيليين، لتهجير أغلب أو كل سكان قطاع غزة إلى مصر. وقد وضعت إدارة بايدن معايير «اليوم التالي»، التي تستبعد، من بين أمور أخرى، التهجير القسري للفلسطينيين من غزة أو إعادة احتلال إسرائيل للقطاع. بالإضافة إلى ذلك، قالت الإدارة الأميركية إنها تريد رؤية عودة السلطة الفلسطينية «المُجدّدة» إلى قطاع غزة، وهي التي تسيطر اسميًا على أجزاء من الضفة الغربية. وخلافًا لكل ما فعلته هذه الإدارة في السنوات الثلاثة الماضية، فهي تقول الآن إنها جادة بشأن عملية سياسية تتوج بحل الدولتين، مع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة إلى جانب إسرائيل.

ومن المرجح أن تصطدم رؤية الإدارة الأميركية المفعمة بالأمل ببعض الحقائق الصعبة على أرض الواقع، فلا أحد يعرف متى أو كيف ستنتهي هذه الحرب، وكم ستكون مساحة غزة بعدها، وكم عدد سكانها الذين سيبقون أحياءً فيها بعد انتهائها. كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن إسرائيل لن تسمح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى قطاع غزة، ووعد بإبقاء القوات الإسرائيلية في القطاع إلى أجل غير مسمى، بما في ذلك وضع خطط لإنشاء «منطقة عازلة» دائمة داخل القطاع من شأنها أن تزيد التضييق على الأراضي المتاحة للفلسطينيين. وقد أكد نتنياهو لشركائه في ائتلافه الحكومي أنه الزعيم الوحيد القادر على منع إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.

تتحرك الأحداث على الأرض بالفعل في اتجاهات خطيرة. من الصعب فهم الحجم الهائل للموت والدمار في غزة. ووفقًا لوزارة الصحة في غزة، فقد أدى الهجوم الإسرائيلي حتى الآن إلى مقتل ما لا يقل عن 18,800 شخص، معظمهم من المدنيين (بما في ذلك 8200 طفل). وقد أدت العملية إلى تهجير أكثر من 80% من سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وجعلت معظم شمال قطاع غزة غير صالح للسكن. أدت القيود الصارمة التي تفرضها إسرائيل على إمدادات الغذاء والماء والوقود لسكان غزة إلى تفشي الأمراض والجوع على نطاق واسع، وهو ما وصفته الأمم المتحدة بـ «كارثة إنسانية ملحمية»، بل إنها دفعت مسؤولي الأمم المتحدة والمراقبين الآخرين إلى إصدار تحذيرات من احتمال وقوع إبادة جماعية. كما يزيد استخدام التجويع الجماعي والمرض سلاحًا، جنبًا إلى جنب مع الانهيار شبه الكامل لنظام الرعاية الصحية والقصف المتواصل للسكان المحشورين في مساحات تتقلص باستمرار، من احتمالية تعرض بعض أو كل الفئات الضعيفة في قطاع غزة للخطر يومًا بعد يوم. وسيضطر السكان إلى عبور الحدود إلى مصر. وتتوافق هذه النتيجة مع رغبة نتنياهو في «تقليص» عدد سكان القطاع.

سيعتمد مستقبل غزة أيضًا، إلى جانب الحقائق التي تفرضها إسرائيل على الأرض، على التطورات داخل السياسة الفلسطينية الداخلية. قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن الفلسطينيين بحاجة إلى أن يكونوا «في قلب» المحادثات حول مستقبل غزة. ولكن ليحدث هذا، لا يحتاج الفلسطينيون إلى إحياء مؤسسات الحكم والأمن فقط، بل وإلى إحياء المؤسسات السياسية: يوجد افتقار إلى قيادة سياسيَّة فعّالة؛ بسبب تدهور المؤسسات السياسية الفلسطينية، ولا سيما السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، المنظمة الجامعة التي تمثل ظاهريًا مختلف الفصائل المشاركة في الحركة الوطنية الفلسطينية.

ويتضح أمامنا الآن أن الانقسام والركود الذي اُبتليت به المؤسسات السياسية الفلسطينية على مدى السنوات الستة عشر الماضية كان كارثيًا، ليس فقط للفلسطينيين، بل للإسرائيليين والمنطقة أيضًا. وكما حذر العديد من المحللين (وأنا منهم) منذ فترة طويلة، فإن الانقسام المنهك بين حماس وفتح، أكبر فصيلين سياسيين فلسطينيين، اللذين خاضا حربًا على غزة في عام 2007، أصبح مصدرًا دائمًا للعنف وعدم الاستقرار. وعلى الرغم من أن الكثير من هذا الخلل السياسي الفلسطيني كان سببه ذاتيًا، فقد عملت إسرائيل بنشاط على تعزيز الضعف والانقسام بين الفلسطينيين للحفاظ على حكمهم غير المحدود على الأراضي المحتلة. وقد تجسد نهج فرق تسد في التعامل مع الفلسطينيين في أمل نتنياهو الساخر في أن يؤدي دعم حماس في غزة إلى منع التوصل إلى حل الدولتين في نهاية المطاف، وقد وضعت أحداث 7 أكتوبر نهاية لهذه السياسة.

ولذلك فإن أي مناقشة حول «اليوم التالي» يجب أن تقوم على تشجيع ظهور قيادة سياسية فلسطينية موحدة ومتماسكة. وسوف يكون لزامًا على الزعماء الفلسطينيين أن ينحّوا جانبًا التزاماتهم الحزبية، كما يتعين على إسرائيل والولايات المتحدة أن يتخلوا عن الفكرة غير الواقعية على الإطلاق والتي تتلخص في إمكانية استبعاد حماس إلى الأبد من السياسة الفلسطينية. ولن يكون إقناع الفلسطينيين أو إسرائيل وحلفائها الأميركيين بالقيام بذلك بالمهمة السهلة، لكنهم إذا فشلوا في تقديم هذه التسوية، فمن غير المرجح أن تتحسن الظروف الإنسانية والأمنية في قطاع غزة، وستظل التسوية الدبلوماسية بعيدة المنال.

كارثة أخرى

آثار القصف الإسرائيليّ في غزّة (Getty)

إن الأحداث التي تتكشف في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول ذات طبيعة تاريخية، على قدم المساواة مع اللحظات الكارثية الأخرى في التاريخ الفلسطيني، مثل نكبة عام 1948، التي راح ضحيتها حوالي 800 ألف فلسطيني، أي حوالي ثلثي سكان فلسطين العرب أثناء الانتداب البريطاني. وقد أُجبر السكان وقتها على ترك منازلهم، أو فروا ومُنعوا من العودة، وعلى قدم المساواة مع حرب الأيام الستة عام 1967، عندما استولت إسرائيل على الأجزاء المتبقية من فلسطين التاريخية والضفة الغربية وقطاع غزة، وطردت 300 ألف فلسطيني آخر من منازلهم أو دفعتهم للفرار. وكما حدث في عامي 1948 و1967، فمن المرجح أن تغير الحرب الحالية في قطاع غزة مسار السياسة الفلسطينية بطرق من المستحيل التنبؤ بها.

إن الهجوم المستمر على غزة بالفعل هو الحدث الأكثر دموية وأكبر تهجير قسري للفلسطينيين في التاريخ. وكما أن الهجوم المروع الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول سيشعر به الإسرائيليون لسنوات عديدة، فإن حجم الدمار البشري والمادي الهائل الذي ألحقته إسرائيل بغزة سوف يترك بصمة لا تمحى من الوعي الوطني الفلسطيني لأجيال قادمة. وكما هو الحال مع النكبة، فإن الصدمة الجماعية التي تعيشها غزة اليوم تمر بمرحلة تتجاوز حدودها بين الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وإسرائيل والشتات، بل وعلى نطاق أوسع في جميع أنحاء العالم العربي، وسوف تشكل الوعي السياسي للجيل القادم من القادة الفلسطينيين.

توجد حقيقة صعبة في الوقت الحالي ولا يمكن تجنبها، وهي أن هدف إسرائيل المُعلن والمتمثل في القضاء على حماس بوصفها قوة سياسية وعسكرية هدفٌ لا يمكن تحقيقه، بل إنه، بصراحة، وصفة للموت والدمار غير المنتهي. وكلما سارع المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون إلى التصالح مع هذه الحقيقة، كان وضع الجميع أفضل. لقد فشل القصف العنيف الذي دام شهرين ودمَّر أجزاء كبيرة من البنية التحتية المدنية في قطاع غزة في إزاحة حماس عن السلطة أو إضعاف قدراتها العسكرية بشكل كبير، بما في ذلك قدرتها على إطلاق الصواريخ، ولم يعطّل أنظمة القيادة والسيطرة الخاصة بها إلا بالنزر اليسير. إن صفقة الرهائن مقابل الأسرى، على الرغم من أنها لم تدم طويلًا، إلا أنها أظهرت أهمية حماس المستمرة. وليس أمام إسرائيل خيار سوى التعامل مع هذه الجامعة. وتشير دراسة حديثة أجرتها مجلة +972 إلى أن إسرائيل ربما تتعمد إلحاق أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين وأحداث المعاناة على أمل حثَّ سكان غزة على الانقلاب على حماس، ولكن لا توجد أدلة تُذكر على حدوث مثل هذا التحول. ومن المرجح أن يكون القصف والغزو الإسرائيلي لغزة قد حقق تأثيرًا معاكسًا، الأمر الذي سيدفع العديد من الفلسطينيين نحو حماس، كما أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية.

حماس جزء لا يتجزأ من السياسة الفلسطينية ولها جذور عميقة في المجتمع ولها أتباع كثيرون داخل الأراضي المحتلة وخارجها. ومهما كانت بعض أفعالها أو أفكارها مقيتة، فمن المرجح أن تظل حماس جزءًا من المشهد السياسي الفلسطيني في المستقبل المنظور. وما دامت ظروف الاحتلال والحصار وغير ذلك من أشكال العنف البنيوي الإسرائيلي قائمة في غزة، فإن شكلًا ما من أشكال المقاومة العنيفة من قِبَل حماس، أو أي جماعة أخرى مثلها، سوف يستمر.

العودة إلى قطاع غزّة؟

جنود إسرائيليّون في أحد الأنفاق في غزّة (Getty)

من غير الواقعي أن نتوقع، بسبب صمود حماس وأسباب أخرى، أن يتمكن منافسو الجماعة في السلطة الفلسطينية من الانقضاض على غزة والسيطرة على القطاع ببساطة. وعلى الرغم من تفضيلات الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، فمن غير المرجح أن تعود السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة في أي وقت قريب، على الأقل ليس بتشكيلها الحالي. فمن ناحية، رفض الائتلاف الحكومي الذي يتزعمه نتنياهو هذا الاحتمال صراحة، لكن حتى لو أمكن إقناع القادة الإسرائيليين بتغيير رأيهم، فإن السلطة الفلسطينية ترى إمكانية استعادة السيطرة على الأراضي المدمرة بمثابة الكأس المسمومة. لا يريد أي زعيم فلسطيني أن يُرى وهو يسيطر على غزة على ظهر الدبابات الإسرائيلية، وخاصة شخصاً ضعيفاً للغاية، ولا يحظى بشعبية مثل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والذي قال إن السلطة الفلسطينية لن تعود إلى غزة ما لم يتم إنشاء طريق واضح لإقامة الدولة الفلسطينية.

ويظل هذا غير محتمل إلى حد كبير بالنظر إلى حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، التي تفضل أجزاء منها الضم المباشر للأراضي الفلسطينية، وسجل إدارة بايدن في الشرق الأوسط، بما في ذلك إحجامها عن الضغط على إسرائيل. فضلًا عن ذلك فإن السلطة الفلسطينية بالكاد تستطيع السيطرة على المناطق المحدودة الخاضعة لولايتها القضائية، وهي الآن في حالة انهيار بطيء، ولا يرغب عباس في أن يرث المشاكل الإنسانية والأمنية الهائلة الناجمة عن التدمير الإسرائيلي لغزة. ومن المرجح أن يكون هذا الشعور متبادلًا، إذ من غير المرجح أن يكون الفلسطينيون في غزة متحمسين لاحتضان سلطة عباس الفاسدة والضعيفة. وفي النهاية، ونظرًا لانخفاض شعبية عباس الشديدة ووجود حماس المستعصي على الأرض، فإن أي عودة للسلطة الفلسطينية ستظل تتطلب موافقة حماس.

يرى الكثيرون داخل فلسطين وخارجها، في ضوء الشرعية الضعيفة للقيادة الفلسطينية الحالية، أن الانتخابات الجديدة، التي لم تُعقد منذ عام 2006، عنصر ضروري في نظام ما بعد الحرب وإعادة إعمار قطاع غزة. لكن فرص إجراء التصويت منخفضة للغاية. لقد تسبب الهجوم الإسرائيلي على القطاع في إحداث حالة من الاضطراب والدمار والمعاناة على نطاق واسع، ومن المرجح أن تستمر الظروف لبعض الوقت. وهذه الظروف ببساطة لن تسمح بإجراء الانتخابات. ثم هناك السؤال الدائم الذي لا مفر منه حول ما إذا كان سيتم السماح لحماس بالمشاركة. ويكاد يكون من المستحيل أن نتصور أي ظرف قد تسمح فيه إسرائيل أو الولايات المتحدة حتى لحماس (ولو تغيرت) بالتنافس في الانتخابات المقبلة. ومع ذلك فإن العملية الانتخابية التي تستبعد حماس صراحة من شأنها أن تحرمها من الشرعية، وقد تؤدي حتى إلى حرب أهلية أخرى. باختصار، من الصعب للغاية رؤية طريق للمضي قدمًا في السياسة الفلسطينية مع حماس، ولكن بالقدر نفسه، لا يوجد طريق للمضي قدمًا بدونها.

إحياء منظمة التحرير الفلسطينية

غارات إسرائيليّة في غزّة (Getty)

توجد طرق للتغلب على هذه المعضلة الأساسية، ولكنها تتطلب تفكيرًا رزينًا وتواضعًا من جانب الأطراف كافة. أولًا وقبل كل شيء، يتعين على المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين أن يتصالحوا مع حقيقة مفادها أن حماس سوف تظل، بشكل أو بآخر، تشكل قوة في السياسة الفلسطينية. ويتعين عليهم أن يتخلوا عن فكرة أنهم قادرون على إعادة هندسة السياسة الفلسطينية بحيث تتناسب مع الاحتياجات السياسية الإسرائيلية (أو الأميركية)، وهو الغرور الذي ساعد في تآكل الشرعية الداخلية للزعماء الفلسطينيين منذ بدأت عملية أوسلو في عام 1993. ولا يقل أهمية عن ذلك أن القادة الفلسطينيين من مختلف ألوان الطيف السياسي يجب أن يضعوا خلافاتهم الضيقة جانبًا لمعالجة التحديات الوجودية الحقيقية التي يواجهونها الآن.

ويدرك العديد من الفلسطينيين بالفعل ما يجب القيام به من أجل إحياء سياساتهم: وهو فك ارتباط السلطة الفلسطينية عن منظمة التحرير الفلسطينية. وفي حين من المفترض أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية هي العنوان الرسمي للحركة الوطنية الفلسطينية التي تمثل الفلسطينيين في كل مكان، فقد أُنشئت السلطة الفلسطينية في الأصل بموجب اتفاقيات أوسلو كهيئة حاكمة مؤقتة تشرف على شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. وفي هذه العملية، دُمِّرت منظمة التحرير الفلسطينية، وأدمجت مواردها المؤسسية والبشرية بشكل فعال في السلطة الفلسطينية تحسبًا لقيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف. لم تؤت هذه الحالة ثمارها قط. بل وعندما أصبحت السلطة الفلسطينية هي المركز الفعلي للسياسة الفلسطينية، هُمِّشت منظمة التحرير الفلسطينية، وسمح لها بالضمور. يجب أن يكون الهدف الآن هو عكس هذه العملية من خلال خفض أهمية السلطة الفلسطينية ورفع أهمية منظمة التحرير الفلسطينية، مع رسم الخطوط الفاصلة بينهما بشكل أكثر وضوحًا. ومن الممكن تحقيق هذا الترسيم من خلال تشكيل حكومة تكنوقراط توافق عليها جميع الفصائل، بما في ذلك حماس، ولكنها لا تضم أعضاء من أي منها. ويجب أن تكون مثل هذه الحكومة انتقالية حتى إنشاء دولة فلسطينية فعلية، أو على الأقل حتى تسمح الظروف بإجراء الانتخابات. ولأن هذه الحكومة لن تضم حماس، فمن الممكن أن تتلقى مساعدات من المانحين الدوليين، وأن تعمل كمزود للخدمات، وليس كهيئة سياسية.

وخلافًا لمعظم الأنظمة السياسية الأخرى، حيث يتولى نفس الأشخاص عمومًا وظائف الحكم والقيادة السياسية، فإن واقع الاحتلال الإسرائيلي والترتيبات التي أنتجتها اتفاقيات أوسلو تعني أن الذين يحكمون الفلسطينيين ليسوا بالضرورة نفس الذين يقودونهم. وفي هذا التمييز تكمن فرصة. وفي الوقت نفسه الذي تعمل فيه الإدارة الفلسطينية التكنوقراطية على تحقيق الاستقرار وإعادة بناء غزة، يجب على منظمة التحرير الفلسطينية أن تتطور حتى تتمكن من توفير قيادة سياسية فلسطينية ذات مصداقية والتمتع بشرعية ودعم الشعب الفلسطيني. ويجب أن تتوسع لتشمل حماس والفصائل الأخرى الموجودة حاليًا خارج مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، فضلًا عن ممثلي المجتمع المدني الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة وفي الشتات. حُدّدت هذه الصيغة الأساسية في اتفاقيات المصالحة الفلسطينية المتعاقبة منذ عام 2011، لكن بفضل إحجام عباس عن تقاسم السلطة، وكذلك عدم قدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على قبول دور سياسي لحماس، لم تُنفَّذ قط.

لا شك في أن فكرة تطبيع وجود حماس داخل منظمة التحرير الفلسطينية سوف تثير الغضب في إسرائيل، والكونغرس الأميركي، وأماكن أخرى. وهذا أمر مفهوم، لكنه ليس عقلانيًّا. كان استبعاد حماس من السياسة الفلسطينية على وجه التحديد هو الذي سمح للجماعة بالعمل صفتها فاعلًا حرًا ومُفسدًا، وهو ما مكّن من سنوات من العنف وعدم الاستقرار بلغت ذروتها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وعلى العكس من ذلك، فإن ضم حماس إلى الهيئات الحاكمة لمنظمة التحرير الفلسطينية، مثل اللجنة التنفيذية وبرلمانها الذي ظل خاملًا لفترة طويلة، المجلس الوطني الفلسطيني، من شأنه أن يساعد على اعتدال الجماعة والحد من قدرتها على العمل بمفردها. إن قرارات الحرب والسلام، بما في ذلك التخلص من أسلحة حماس، لن تكون في يد أي طرف واحد، بل هي مسألة اتخاذ قرار جماعي وإجماع فلسطيني. ورغم أن هذا سيجعل التوصل إلى تسوية دبلوماسية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية أكثر صعوبة، إلا أن مثل هذا الاتفاق من المرجح أن يستمر. وفي كل الأحوال، فإن مسألة من يجوز له، أو لا يجوز له أن يشارك في السياسة الفلسطينية لا ينبغي أن تكون خاضعة للفيتو الإسرائيلي، كما لا ينبغي أن يُسمح للفلسطينيين باختيار الأحزاب التي يجوز لهم خوض انتخابات الكنيست. والحقيقة أن القيادة الفلسطينية الفعّالة لابد أن تكون قادرة على العمل وفقًا للاحتياجات والأولويات الوطنية الفلسطينية بشكل مستقل عن إسرائيل والولايات المتحدة، اللتين ساعد نفوذهما القسري على مدى العقود الثلاثة الماضية في تآكل شرعية القادة الفلسطينيين في عيون شعبهم.

وكما يعلم الفلسطينيون جيدًا من تاريخهم المؤلم، فإن الأمور السيئة تحدث لهم على وجه التحديد في تلك اللحظات التي لا يملكون فيها قيادة سياسية ذات مصداقية. وهذه بالتأكيد واحدة من تلك اللحظات، كما تفهم القيادة الإسرائيلية الحالية بلا شك، لكن على الرغم من أن القيادة الفلسطينية المرنة وغير الفعّالة قد تخدم مصالح إسرائيل على المدى القصير، إلا أنها كانت سببًا في زعزعة استقرار المنطقة إلى حد كبير والإضرار باحتمالات التوصل إلى تسوية دبلوماسية. إن التحديات التي يواجهها الفلسطينيون تتطلب قيادة قوية من ذلك النوع الذي لم يقدمه عباس، ولا يستطيع أن يقدمه. ورغم أنه من غير المرجح أن يتبنى عباس مثل هذه الإصلاحات من تلقاء نفسه، إلا أن الدول العربية الرئيسة التي لها مصلحة في الاستقرار الإقليمي وتحقيق التطلعات السياسية الفلسطينية، مثل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية، يمكن أن تساعد على إقناعه حتى يحين الوقت الذي يمكن أن تظهر فيه قيادة ذات مصداقية.

آليّات إسرائيليّة في قطاع غزّة (Getty)

ومن المستحيل أن نتصور عملية إعادة بناء غزة أو تحقيق الاستقرار فيها من دون قيادة فلسطينية ذات مصداقية وشرعية وموحدة، وهو ما يتطلب بدوره إحياء السياسة المؤسسية الفلسطينية، وبشكل أكثر تحديدًا، منظمة التحرير الفلسطينية. ولكي يحدث ذلك، ستحتاج الولايات المتحدة، وخاصة إسرائيل، إلى التخلي عن المفاهيم الخطيرة القائلة إن بإمكانهما السيطرة على السياسة الفلسطينية، أو هندستها لتناسب احتياجاتهما السياسية أو الأيديولوجية، أو أنهما قادران على صنع السلام مع مجموعة واحدة من الفلسطينيين، بينما يشنان في الوقت نفسه حربًا على مجموعة أخرى من الفلسطينيين. من الصعب أن نأخذ على محمل الجد الدعم الخطابي الأميركي لقيام دولة فلسطينية مستقلة إذا لم تكن الولايات المتحدة مستعدة حتى للسماح للفلسطينيين بالسيطرة على سياساتهم الداخلية. إن التطبيع مع حماس في سياق إحياء السياسة الفلسطينية سيكون بمثابة تناول دواءً علقمًا لا بد منه، والبديل عنه، أي مواصلة تدمير حماس أو محاولة جر سلطة فلسطينية غير شرعية وغير فعالة إلى غزة، أو فرض انتخابات في ظل أزمة متقلبة، من المرجح أن يأتي بنتائج عكسية كما حدث في الماضي.

التعليقات