16/01/2024 - 18:16

عندما تفشل الذاكرة: لماذا تلتزم ألمانيا بدعم إسرائيل؟

في منتصف ديسمبر/كانون الأول، ومع قتل عشرين ألف فلسطيني وظهور تهديد تفشي الأوبئة بين ملايين من النازحين، كانت صحيفة دي ڤيلت ما تزال تدعي أن جملة «حرّروا فلسطين هي التحية النازية الجديدة»...

عندما تفشل الذاكرة: لماذا تلتزم ألمانيا بدعم إسرائيل؟

ملصق للمستشار الألماني أولاف شولتز (Getty)

التقى كونراد أديناور، مستشار ألمانيا الغربية، في مارس/آذار 1960، بنظيره الإسرائيلي ديفيد بن غوريون في نيويورك. كانت ألمانيا قد وافقت قبلها بثماني سنوات على دفع ملايين الماركات كتعويضات لإسرائيل، لكن دون إقامة علاقات دبلوماسية بين البلديْن. وكانت لغة أديناور في اجتماعهما واضحة لا لبس فيها، إذ قال لبن غوريون إن إسرائيل هي «قلعة الغرب [...] وأستطيع إخبارك بأننا سنساعدكم، ولن نترككم وحدكم». وصار أمن إسرائيل قضية محورية عند المؤسسة الحاكمة في ألمانيا، حسب تعبير أنجيلا ميركل في عام 2008. وقد استخدم القادة الألمان مثل هذه العبارات بوضوح متزايد في الأسابيع التالية للسَّابع من أكتوبر/تشرين الأول. تميَّز تضامن ألمانيا مع الدولة اليهودية وجعلها الدولة الوحيدة التي تستخدم ذِكرى ماضيها الإجرامي أساسًا لهويتها الجماعية. عندما التقى أديناور ببن غوريون في عام 1960، كان يترأس عملية منهجية تهدف لاجتثاث النازية من الوعي الألماني بقرارٍ من المحتلين الغربيين صدر عام 1945، وللمساعدة في قمع رعب الإبادة اليهودية. كان الشعب الألماني أيضًا، من وجهة نظر أديناور، ضحية لهتلر، وأشار إلى أن معظم الألمان تحت الحكم النازي «ساعدوا إخوانهم من المواطنين اليهود بكل سرور أينما استطاعوا».

كان لسخاء ألمانيا الغربية تجاه إسرائيل دوافع تتجاوز العار أو الواجب الوطني، أو تحيزات المستشار، الذي وصفه كاتب سيرته بأنه «استعماريّ من أواخر القرن التاسع عشر»، إذ كان يكره القومية العربية لجمال عبد الناصر، وكان مُشجعًا للعدوان الأنجلو-فرنسي-الإسرائيلي على مصر عام 1956. ومع اشتداد الحرب الباردة، قرر أديناور أن بلاده بحاجة إلى قدر أكبر من السيادة ودور أكبر في التحالفات الاقتصادية والأمنية الغربية، وأن طريق ألمانيا الطويل باتجاه الغرب يمر عبر إسرائيل. تحركت ألمانيا الغربية بسرعة بعد عام 1960، لتصبح المورِّد الأكثر أهمية للمعدات العسكرية لإسرائيل، بالإضافة إلى كونها المسؤول الرئيس عن تحديثها الاقتصادي. لقد أوضح أديناور نفسه بعد تقاعده أن تقديم الأموال والأسلحة لإسرائيل كان ضروريًا لاستعادة «مكانة ألمانيا الدولية»، مضيفًا أنه «لا ينبغي الاستهانة بقوة اليهود حتى اليوم، وخاصة في أميركا».

كانت هذه هي «الألاعيب السياسية عديمة المبادئ»، كما وصفها بريمو ليڤي، والتي عجلت من إعادة تأهيل ألمانيا بعد سنوات قليلة فقط من انكشاف نياتها الإبادية المعادية للسامية. ازدهرت بعد الحرب في ألمانيا فلسفة مَحبّة السامية ضمن إستراتيجية بُنيت على ظهر الصور النمطية القديمة المعادية للسامية، بيد أنها صارت الآن مقترنة بعاطفة جيَّاشة تجاه اليهود. وكان الروائي مانيس سپيربر أحد هؤلاء الذين نفروا من هذه الظاهرة الجديدة، وكتب إلى أحد زملائه «إن محبتك للسامية تحبطني، وتحط من قدري، وهي مثل مجاملة مبنية على سوء تفاهم سخيف [...] أنتم تبالغون في تقديرنا نحن اليهود بطريقة خطيرة وتصرون على محبة شعبنا بأكمله. أنا لا أطلب هذا، ولا أتمنى لنا، أو لأي شخص آخر، أن نكون محبوبين بهذه الطريقة». وفي كتابه «ألمانيا وإسرائيل: الغسيل الأبيض وبناء الدولة (2020)»، يصف دانييل مارويكي الطريقة التي ظهرت فيها النظرة إلى إسرائيل باعتبارها تجسيدًا جديدًا للقوة اليهودية وأنها أيقظت الأوهام الألمانية النائمة. وقد تعجب تقرير قدمه وفد ألمانيا الغربية إلى محاكمة أيخمان في القدس عام 1961 من «النوع الجديد والصالح للغاية من الشباب الإسرائيلي»، الذين «يتميزون بطول القامة، وغالبًا ما يكونون بشعر أشقر وعيون زرقاء، وأحرار ويحددون مصيرهم بأنفسهم في إسرائيل بوجوهٍ تعكس اعتداد عالٍ في النفس» ولا تظهر في سيماهم «تقريبًا أيًا من السمات التي اعتاد المرء أن ينظر إليها على أنها يهودية». وأعربت صحيفة دي ڤيلت[1] الألمانية في تعليقها على نجاحات إسرائيل في حرب عام 1967، عن أسفها لـ «سوء سمعة» اليهود بين الشعب الألماني: أي أنهم لا يحملون أي مشاعر قومية، وليسوا مستعدين أبدًا للقتال، بل هم جاهزون دائمًا للاستفادة من المجهودات الحربية للآخرين، بل تبين أن اليهود في الواقع «شعب صغير وشجاع وبطولي وعبقري». كان أكسل سپرينغر، ناشر صحيفة دي ڤيلت، من بين كبار أرباب العمل النازيين المتقاعدين في فترة ما بعد الحرب.

مظاهرة مؤيّدة لفلسطين في برلين (Getty)

لم يكن تصوير الإسرائيليين على أنهم محاربون آريون، مثل تشبيه موشيه ديان بارفين رومل، متناقضًا وفقًا لصحيفة بيلد، بل كان ضرورة حتمية بالنسبة لبعض المستفيدين من المعجزة الاقتصادية الألمانية. يكتب مارويكي أن أديناور أوقفَ قرضًا كبيرًا وتوريد المعدات العسكرية وجعلها «معتمدة على طريقة تعامل إسرائيل مع محاكمة» أدولف آيخمان: لقد صُدم عندما علم باكتشاف الموساد لأيخمان بعد أسابيع فقط من لقائه مع بن غوريون. لم يكن يعلم أن مدعٍ عامٍّ يهودي ألماني أبلغ الإسرائيليين سرًا بمكان وجود أيخمان)، وكان يخشى مما قد يكشفه أيخمان. وبذل جهودًا غير عادية لضمان عدم توجيه أصابع الاتهام إلى أقرب المقربين إليه، هانز غلوبكي، باعتباره الداعية لقوانين نورمبرغ العنصرية في المحاكمة. تظل العديد من التفاصيل الدنيئة محبوسة في الملفات السرية للمستشارية الألمانية والمخابرات الألمانية. وجدت بيتينا ستانغنيث في الأرشيف ما يكفي لإظهار، في كتاب «أيخمان قبل القدس (2014)»، أن أديناور جنَّد وكالة المخابرات المركزية (الأميركية) لحذف أي إشارة إلى غلوبكي من مقال في مجلة لايف. ومن المعروف الآن أيضًا أنه بناءً على تعليمات أديناور، قام صحفي ومتعامل يُدعى رولف ڤوغل بسرقة ملفات يحتمل أن تدين غلوبكي من محامٍ من ألمانيا الشرقية في فندق الملك داوود في القدس.

ومما بعث على ارتياح أديناور أن حلفاءه الإسرائيليين الجدد قاموا بحماية غلوبكي، وحافظوا على ما وصفه مارويكي بـ «هيكل التبادل الخاص بالعلاقات الألمانية الإسرائيلية»: وهو الإعفاء الأخلاقي لألمانيا، التي لم تُجتَث فيها النازية ومعاداة السامية اجتثاثًا كاملًا، مقابل المال والأسلحة. كما كان من المناسب لكلا البلدين تصوير خصوم إسرائيل العرب، بما في ذلك جمال عبد الناصر بـ «هتلر النيل»، على أنهم التجسيد الحقيقي للنازية. قللت محاكمة أيخمان من حقيقة استمرار النازية في ألمانيا بينما بالغت في تقدير وجودها في الدول العربية، مما أثار حفيظة مُحلل واحد على الأقل: كتبت حنّا أرندت أن غلوبكي «كان متورطًا في المحرقة أكثر من مفتي القدس السابق، إلا أنه حظي باهتمام أقل في أثناء المحاكمة». وأشارت أيضًا إلى أنه بينما برَّأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون العديد من الألمان من خلال وصفهم بأنهم «محترمين»، إلا أنه لم يتحدث عن أي عرب فاضلين بطريقة مماثلة.

تصف إسراء أوزيوريك في كتابها «حاملو الذنب البريؤون: ذاكرة المحرقة وانتماء المسلمين في ألمانيا بعد الحرب»، الطريقة التي كان السياسيون والمسؤولون والصحفيون الألمان، الآن في ظل صعود اليمين المتطرف، يحركون الآلية القديمة «لتطهير» ألمانيا من خلال شيطنة المسلمين. أحبطت الشرطة الألمانية في ديسمبر 2022 محاولة انقلاب قامت بها جماعة رايخسبرغر، وهي جماعة متطرفة تضم أكثر من عشرين ألف عضو، وكانت تخطط لهجوم على البوندستاغ. وأصبح حزب «البديل من أجل ألمانيا»، ذي الانتماءات النيو-نازية، ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد، ويرجع ذلك جزئيًا إلى سوء الإدارة الاقتصادية من قبل التحالف الذي يقوده أولاف شولتز. وعلى الرغم من معاداة السامية الواضحة لدى كبار السياسيين مثل هيوبرت أيوانغر، نائب رئيس وزراء باڤاريا، فإن «الألمان البيض ذوي الخلفية المسيحية» يرون أنفسهم «على أنهم حققوا خلاصهم من ذنبهم وفي إعادة الديمقراطية»، وفقًا لأوزيوريك. ويتم بموجب هذا إسقاط «المشكلة الاجتماعية الألمانية العامة المتمثلة في معاداة السامية» على أقلية من المهاجرين العرب، الذين يتم وصمهم بعد ذلك بأنهم «أكثر المعادين للسامية»، وأنهم ويحتاجون إلى «تعليم وتأديبٍ إضافيين».

تزايدت كراهية اليهود وكراهية الإسلام في ألمانيا في أعقاب هجوم حماس، وبعد هجوم الأرض المحروقة الذي شنته إسرائيل على غزة، والحملة الصارمة التي شنتها الحكومة الألمانية على المظاهر العامة الداعمة لفلسطين. ومؤخرًا، حث الرئيس الاتحادي لألمانيا فرانك-ڤالتر شتاينماير جميع الأشخاص ذوي «الجذور العربية» في ألمانيا على التنصل من كراهية اليهود وإدانة حماس. وأعقب ذلك نائب المستشار روبرت هابيك بتحذير أكثر وضوحًا للمسلمين: لن يُتسامح معهم في ألمانيا إلا إذا رفضوا معاداة السامية. انضم أيوانغر، وهو سياسي يُحب التحية النازية، إلى الجوقة التي تلقي باللوم في معاداة السامية في ألمانيا على «الهجرة غير المقيدة». إن إدانة الأقلية المسلمة في ألمانيا باعتبارها «الناقل الرئيسي لمعاداة السامية»، كما تشير أوزيوريك، هو قمع لحقيقة أن ما يقرب من «90% من الجرائم المعادية للسامية يرتكبها ألمان بيض يمينيون».

وقد تعلم نتنياهو أيضًا من الجهود التي بذلتها ألمانيا في فترة ما بعد الحرب في الغسيل الأبيض للتاريخ، وادّعى في عام 2015 أن مفتي القدس أقنع هتلر بقتل اليهود بدلًا من طردهم ببساطة. وبعد ثلاث سنوات، غير موقفه لدعم قانون حزب القانون والعدالة البولندي الذي يعاقب ادعاءات التواطؤ البولندي في الهولوكوست، والذي كان قد انتقده سابقًا. كما أنه أضفى الشرعية على جهود ليتوانيا والمجر لتبرئة دولهما من المحرقة، وأثنى على البلدين لنضالهما الشجاع ضد معاداة السامية (قارن إفرايم زوروف، المؤرخ الذي ساعد في تقديم العديد من النازيين السابقين للمحاكمة، هذا بـ «الإشادة بمنظمة كو كلوكس كلان "KKK" لدورها في تحسين العلاقات العرقية في الجنوب»). كما رافق نتنياهو مؤخرًا إلون ماسك إلى أحد الكيبوتسات التي استهدفتها حماس. بعد أيام فقط من تغريدة ماسك الداعمة لنظرية المؤامرة المعادية للسامية. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، بدا وكأنه يقرأ من نص محاكمة أيخمان، وهو يعلن بانتظام أنه يقاتل «النازيين الجدد» في غزة من أجل إنقاذ «الحضارة الغربية»، في حين يواصل آخرون في مجموعته من المتعصبين اليهود الحفاظ على جوقة الدعم بوصف سكان قطاع غزّة على أنهم «دون البشر»، و«حيوانات»، و«نازيون».

إن هذا الخطاب الانتقامي الصادر عن حصن الغرب المدمر يتردد صداه في أوروبا وأميركا. لطالما دعم القوميون البيض إسرائيل: دولة عرقية قومية تنتهك البروتوكولات القانونية والدبلوماسية والأخلاقية الدولية من خلال لغتها الدّاعية لفرض التجانس العرقي، وسياسة التوسع الإقليمي التي لا تتزعزع، وعمليات القتل والهدم خارج نطاق القانون. واليوم، فإن التجلي المتطرف لما وصفه ألفريد كازين، في مجلته الخاصة عام 1988، واصفًا إسرائيل بـ «الدولة الحازمة والعنيدة» يُستخدم أيضًا بوصفهِ مسكِّنًا للعديد من المخاوف الوجودية داخل الطبقات الحاكمة الأنجلو–أميركية. في كتابها «إسرائيلنا الأميركية» (2018)، وصفت إيمي كابلان الطريقة التي تُسقط بها النخبة الأميركية مخاوفها وأوهامها على إسرائيل. لكن محبة السامية التي تفرضها الدولة والتي تشكل علاقة ألمانيا بإسرائيل تنتمي إلى نظام آخر من التعقيد والشراسة.

فقبل وقت قصير من هجوم حماس، نجحت إسرائيل، بمباركة أميركية، في إبرام أكبر صفقة أسلحة تبرمها على الإطلاق مع ألمانيا. ذكرت صحيفة فايننشال تايمز في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني أن مبيعات الأسلحة الألمانية لإسرائيل آخذة في الارتفاع منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول: الرقم لعام 2023 يزيد بأكثر من عشرة أضعاف عن العام السابق. ومع بدء إسرائيل في قصف المنازل ومخيمات اللاجئين والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس في قطاع غزّة، وترويج وزراء الحكومة الإسرائيلية لمخططاتهم للتطهير العرقي، كرر شولتز النَّص المكتوب له مسبقًا: «إسرائيل دولة ملتزمة بحقوق الإنسان والقانون الدولي وتتصرف وفقًا لذلك». ومع تكثيف حملة نتنياهو للقتل العشوائي والتدمير، وصل إنغو غيرهارتز، قائد سلاح الجو الألماني، إلى تل أبيب مشيدًا بـ «دقة» الطيارين الإسرائيليين، كما صُوِّر مرتديًا الزي العسكري وهو يتبرع بالدم للجنود الإسرائيليين.

وفي مثال أكثر إثارة للقلق للتكافل الألماني-الإسرائيلي في فترة ما بعد الحرب، أعاد وزير الصحة الألماني، كارل لوترباخ، تغريد مقطع فيديو يزعم فيه دوغلاس موراي، الناطق باسم اليمين المتطرف الإنجليزي، أن النازيين كانوا أكثر أخلاقًا من حماس. أعادت كارين برين، نائبة رئيس الاتحاد الديمقراطي المسيحي ووزيرة التعليم في ولاية شليسفيغ هولشتاين، تغريد المقطع نفسه وقالت «شاهدوا واستمعوا». وكتب يان فليشهاور، المحرر المساهم السابق في مجلة دير شبيغل[2]، متحدثًا عن مقطع الفيديو «هذ إشارة عظيمة». ورددت فيرونيكا غريم، عضو المجلس الخبراء الاقتصاديين الألمان: «إشارة عظيمة حقًا». كشفت صحيفة زود دويتشه تسايتونغ[3]، التي «شهَّرت» في عام 2021 بخمسة صحفيين لبنانيين وفلسطينيين في دويتشه فيله ووصفتهم بأنهم معادون للسامية، كما أنها هاجمت الشاعر الهندي ومؤرخ الفن رانجيت هوسكوت، بأدلة واهية مشابهة، واعتبرته مفتريًا ضد اليهود لمقارنته الصهيونية بالقومية الهندوسية. ونبهت صحيفة دي تسايت[4] القراء الألمان إلى غضب أخلاقي آخر: «غريتا ثونبرغ تتعاطف علانية مع الفلسطينيين». وبعد رسالة مفتوحة، انتقد فيها آدم توز وصموئيل موين وأكاديميون آخرون بيان يورغن هابرماس الداعم لتصرفات إسرائيل، ادَّعى أحد المحررين في صحيفة فرانكفورتر ألجماينه تسايتونغ[5] أن لليهود «عدو» في الجامعات يُدعى دراسات ما بعد الاستعمار. ونشرت مجلة دير شبيغل صورة غلاف لشولتز إلى جانب ادعائه بأننا «نحتاج إلى ترحيل المهاجرين بوتيرة واسعة مرة أخرى».

وذكرت صحيفة نيويورك تايمز، متأخرة، في أوائل ديسمبر/كانون الأول، أن «المسؤولين الألمان يتصفَّحون منشورات وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل المفتوحة، والتي يعود بعضها إلى أكثر من عقد من الزمن». لطالما عاقبت المؤسسات الثقافية الممولة من الدولة الفنانين والمثقفين من الجنوب العالمي الذين يظهرون أي تلميح أو تعاطف مع الفلسطينيين، وسحبوا الجوائز والدعوات، وتسعى السلطات الألمانية الآن إلى تأديب حتى الكتاب والفنانين والناشطين اليهود. وكانت كانديس بريتز، وديبورا فيلدمان، وماشا غيسن آخر من «تلقوا محاضرات»، كما قال إيال وايزمان، «من قبل أبناء وأحفاد الجناة الذين قتلوا عائلاتنا والذين يجرؤون الآن على إخبارنا بأننا معادون للسامية».

فماذا إذن عن ثقافة الذاكرة التاريخية التي نالت استحسانا كبيرًا في ألمانيا؟ تقول سوزان نيمان، التي كتبت بإعجاب عن التغلب على مآسي الماضي والتصالح معه (Vergangenheitsbewältigung) في كتاب «التعلم من الألمان (2020)»، إنها غيرت رأيها الآن. وكتبت في أكتوبر/تشرين الأول: «لقد انحرفت الحسابات التاريخية الألمانية عن مسارها الصحيح. هذا الحماس المفرط في محاباة للسامية [...] قد اُستخدم نفسه، بشكل باعثٍ على السُخرية، لمهاجمة اليهود». يشير أندرو بورت في كتابه «لن تتكرر أبدًا: الألمان والإبادة الجماعية بعد الهولوكوست»، الذي يدرس الرد الألماني على عمليات القتل الجماعي في كمبوديا ورواندا والبلقان، إلى أن «جهود ألمانيا، الجديرة بالثناء، التي بذلتها لمواجهة الهولوكوست قد أدّت عن غير قصدٍ إلى تفاقم هذه المشكلة، عبر جعل الألمان أقل حساسية تجاه العنصرية. إن اقتناعهم بأنهم تركوا عنصرية أسلافهم المسعورة وراءهم، ربما سمح لهم، على نحو متناقض، بالتعبير بلا خجل عن أشكال مختلفة من العنصرية».

ويفسر هذا إلى حد ما اللامبالاة واسعة النطاق في ألمانيا بمصير الفلسطينيين، والاقتناع بأن أي انتقاد لإسرائيل يشكل شكلًا من أشكال التعصب (وهو الموقف الذي يتنافى مع دعم ألمانيا التاريخي للعديد من قرارات الأمم المتحدة ضد الانتهاكات الإسرائيلية). وكان بوسع بورت أن يعزز حجته لتكون أكثر قوة لو أنه تحدث عن إحجام ألمانيا عن الاعتراف الكامل أو التعويض عن الإبادة الجماعية السابقة التي ارتكبتها في جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا الآن) من عام 1904 إلى عام 1908، والتي كانت الأولى في القرن العشرين. وأشار بورت أن ثقافة الذاكرة الألمانية بدت ناجحة حتى هذه اللحظة لأن نُخب ألمانية الحاكمة لم تواجه تحديًا يجبرها على موجهة مفاهيمها وأوهامها التاريخية الخائطة، كما حصل مع أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذين حلموا بعودة العصر الإمبراطوري والاكتفاء الذاتي.

جماجم تعود إلى أفراد قبيلتي هيريرو وناما التي استولت عليها القوات الاستعمارية الألمانية (Getty)

واجهت المحاولات الرسمية لتعزيز صورة ألمانيا في الحاضر من خلال إدانة ماضيها مقاومة داخلية كبيرة، إذ انتقد رودولف أوغسطين، مؤسس ورئيس تحرير مجلة دير شبيغل وراعٍ آخر للنازيين السابقين، في عام 1998 النصب التذكاري للهولوكوست في برلين، وقاله إنه صُمّم لإرضاء نخب «الساحل الشرقي» الأميركي. الذاكرة التاريخية معقدة للغاية بطبيعتها ومتقلبة، ولا يمكن إصلاحها عبر كيانات سياسة وثقافية، وقد بدا دائمًا من أنه غير المعقول أن يؤدي التعليم الأخلاقي الجماعي إلى إنتاج موقف مستقر ومتجانس عبر الأجيال. توجد العديد من العوامل الأخرى التي تؤثر على ما يُتَذكّر وما يُنسى، والوعي الجماعي الوطني الألماني مثقل بقرنٍ من السرية والجرائم والتستر. عزا يوريك بيكر، وهو روائي يهودي بتجربة نادرة، حيث عاش في كل من ألمانيا الشرقية والغربية، في حديثه في ڤايمار عام 1994، صعود النازية الجديدة العنيفة في ألمانيا الاتحادية للتسامح مع النازيين القدامى، بل والترحيب بهم في الغرب إبَّان الحرب الباردة، وهو ما سمح لأيديولوجيتهم بالبقاء.

«حرصوا على أن تكون المراجعة التاريخية للنازية متساهلة قدر الإمكان، وتجنب التدقيق القاسي فيها، وحاولوا قدر المستطاع عرقلة القراءة التاريخية المتفحصة للنازيّة، بل إنهم دعموا بعضهم البعض، وتأثروا ببعضهم. لقد أعاقوا تقدم أولئك الذين فهموا طبيعتهم الحقيقية. وتشير روايتهم إلى أن جوانب تلك الحقبة لم تكن كلها سلبية، محذرين من استبعاد كل شيء منها. بل بدؤوا مؤخرًا في الترويج لفكرة أن الفاشية كانت رد فعل مبررًا على ما اعتبروه أعظم خطأ في تلك الحقبة، أي البلشفية».

لقد عمل العديد من الرجال ذوي المناصب الجيدة على تقويض فهم الألمان الغربيين لتواطئهم في الرايخ الثالث. اعتقد فرانز جوزيف شتراوس، أحد قدامى المحاربين في الفيرماخت[6] في «أراضي الدماء»[7] في أوروبا الشرقية والذي أصبح وزير دفاع أديناور ورئيس وزراء باڤاريا فيما بعد، أن أفضل طريقة لإنجاز مهمة «ترك الماضي وراءنا» والتصالح معه تكون عبر الصفقات الدفاعية مع إسرائيل. ويبدو أن رالف ڤوغل، الذي ادعى أن «رشاش العوزي في يد الجندي الألماني أفضل من أي كتيب ضد معاداة السامية»، كان من أوائل المؤيدين لهذا النمط من ترك الماضي وراءنا، وهو ما قالته إليونور ستيرلنغ، إحدى الناجيات من المحرقة والحرب الألمانية. كانت أول أستاذة للعلوم السياسية، بحلول عام 1965، تدعو إلى «محاباة السامية الوظيفية» والتي حلّت محل «التوبة الحقيقية وبناء التفاهم وإرساء أسس اليقظة المستقبلية». إن التشخيص الصارم الذي قدمه فرانك ستيرن في كتابه «الغسيل الأبيض للإشارة الصفراء (1992)» يظل صحيحًا اليوم: فقد كتب أن محاباة السامية الألمانية قد استخدمت في المقام الأول «كأداة سياسية» ليس فقط «لتبرير الخيارات في السياسة الخارجية»، ولكن أيضًا «للتفاخر بموقفٍ أخلاقيٍ مُعين عندما يتعرض الهدوء الداخلي للتهديد من الظواهر اليمينية المتطرفة المعادية للسامية والمعادية للديمقراطية».

ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استدعاء مبدأ المصلحة الوطنية (Staatsräson) لإخفاء تشوهات الديمقراطية الألمانية، إذ تحدت ألمانيا، على سبيل المثال في عام 2021، وفي أثناء سعيها إلى إبرام صفقات دفاعية مع إسرائيل، سلطة المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق في جرائم الحرب في الأراضي المحتلة. وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول، ومع قتل عشرين ألف فلسطيني وظهور تهديد تفشي الأوبئة بين ملايين من النازحين، كانت صحيفة دي ڤيلت ما تزال تدعي أن جملة «حرّروا فلسطين[8] هي التحية النازية الجديدة». يواصل القادة الألمان عرقلة الدعوات الأوروبية المشتركة لوقف إطلاق النار. وقد يبدو إيال وايزمان مبالغًا بقوله إن «القومية الألمانية أخذت في إعادة تأهيل نفسها تحت ستار دعم القومية الإسرائيلية»، لكن من الواضح أن المجتمع الأوروبي الوحيد الذي حاول التعلم من ماضيه الشرير يكافح الآن من أجل تذكر الدرس الرئيس الذي تعلمه. فالسياسيون وصناع الرأي الألمان يفشلون في دعم إسرائيل بمسؤولية، من خلال تضامنهم غير المشروط لنتنياهو وسموتريش وغالانت وبن جفير، ويفشلون في مسؤوليتهم العالمية لتجنب التواطؤ في إيجاد قومية عرقية قاتلة أخرى، خصوصًا مع ارتفاع العنصرية القومية-السلطوية داخل ألمانيا.

** نُشرت هذه المادّة في مجلّة "لندن ريفيو أوف بوكس".


إحالات:

[1] الترجمة الحرفية لاسم الصحيفة تعني «العالم».

[2] مجلة المرآة.

[3] صحيفة جنوب ألمانيا.

[4] وتعني «الأحداث» أو التايمز كما هي مشهورة باللغة الإنجليزية.

[5] صحيفة فرانكفورت العامّة.

[6] تترجم حرفيًا إلى «قوة الدفاع»، وتشير إلى القوات المسلحة لألمانيا من عام 1935 وحتى عام 1945، وتشمل الجيش والبحرية وسلاح الجو.

[7] بولندا وبيلاروسيا وأوكرانيا ودول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، وشمال شرق رومانيا، والأطراف الغربية لروسيا، وهي المناطق التي حكمتها أنظمة ستالين وتأثرت بمجازر هتلر، وأدت جرائم القتل الجماعي فيها إلى قتل حوالي 14 مليون مدني غير مقاتل. جاءت التسمية من كتاب المؤرخ تيموثي سنايدر «بلاد الدم: أوروبا بين هتلر وستالين»، واعتبر من أهم الكتب التاريخية التعديلية، وفاز بجائزة حنّا أرندت لعام 2013 للفكر السياسي.

[8] كان العنوان يشير إلى جملة Free Palestine، ويشبهها بتحية هتلر النازية Heil Hitler.

التعليقات