ذئاب في ثياب حملان

ذئاب في ثياب حملان
هذا كتاب يبحث في الاصول، وينقب في حفريات الشواهد التاريخية، الظاهر منها، وذلك القابع تحت القشرة الخارجية لجسد هذا التاريخ الذي يتحرك الآن بعنف. هذا التاريخ هو قصة الاصولية الأميركية، التي نشأت من خلفية الاختراق اليهودي لبعض اوجه الفكر المسيحي.


أما المؤلف أميل أمين فهو باحث جاد، له العديد من الابحاث والدراسات التي تنشر في الصحافة العربية، عاش طويلاً في باريس وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، درس الفكر الأوروبي وتاريخه من فولتير مروراً بجان جاك روسو الى مونتسيكيو وكتابه الخالد «روح القوانين». يتناول الكاتب قصة الأصولية في ستة عشر فصلاً، مضيفاً لها أربعة ملاحق . في الفصل الأول يتناول الكاتب «لوثر أبوكل أصولية».


إنه مارتن لوثر، المولود سنة 1483 في ايسليبن بمقاطعة ساكس الألمانية، عاش طفولة خشنة، وفي سنة 1505 على إثر صدمة نفسية سببها خوفه من الموت، دخل دير نساك القديس او غسطينس في إيرفورت، وعاش فيه حياة الناسك الخشنة، وعقب اتمام الدراسات الفلسفية واللاهوتية رسم كاهنا. وعرف عنه القلق الفكري والتمرد، فهو الذي اشعل شرارة لهيب أعمال السياسة من خلال المنطلقات الدينية المسيحية والتي ستتبلور فيما بعد لتصل الى ما هي عليه الآن. ويقول المؤلف:


بدأ لوثر كبطل شعبي مستاء من الوسائل التي يستخدمها البلاط الروماني في جباية الضرائب ومن تكدس الاموال التي تمتلكها الكنيسة في ألمانيا، وطال تمرد لوثر حتى حرمه البابا في يناير 1521، وحكم بطرده من الامبراطورية، فاختفى سنة 1521. وفي خلوته نقل الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية ضاربا عرض الحائط باللغة اللاتينية التي كانت تستخدمها الكنيسة الكاثوليكية لكنه سرعان ما سيطلب من اتباعه العودة الى اللغة العبرية.


ونظر لوثر في أطروحاته كفكرة ان اليهود هم شعب الله المختار، وأن المسيح ولد يهودياً، ومن أجل استماله اليهود لأفكاره وكذلك من أجل أموالهم، يغالي لوثر في التقرب إليهم حتى يعلن ان الباباوات والقسيسين وعلماء الدين ـ ذوي القلوب الفظة ـ تعاملوا مع اليهود بطريقة جعلت كل من يأمل ان يكون مسيحيا مخلصاً يتحول الى يهودي متطرف «انني لو كنت يهوديا ورأيت كل هؤلاء الحمقى يقودون ويعلمون العقيدة المسيحية، فسأختار على البديهة أن أكون خنزيرا بدلاً من ان أكون مسيحياً».


وفي قمة التطرف الذي سيورث لأتباعه من المحافظين الجدد من أتباع التيار البروتستانتي. يقول مارتن لوثر «إننا كالكلاب ـ أي المسيحيين ـ التي لا مكان لهم إلا تحت المائدة لالتقاط الفتات الذي يتساقط من على موائد اربابنا اليهود، وأن ذلك هو أمر حددته طلاقة القدرة الإلهية منذ القدم، فهم السادة ونحن العبيد».


وفي السياق الطبيعي لحركة التاريخ، كان لابد لهذه الافكار من أن تؤثر من المسيرة التاريخية لأتباعه من رجال الدين البروتستانت، حتى أصبحت عندهم اليوم تعني أمورا جدية قادت العالم الى ما نراه الآن من طروحات تصادمية، وأصبحت تعني عندهم، أن اليهود هم المرجعية الوراثية للسيد المسيح. لكن أحلام لوثر تكسرت على صخرة الأطماع اليهودية وأيديولوجيتهم الاختراقية منذ فجر المسيحية حتى الساعة،


وهو ما أخذ من عمر لوثر أكثر من عشرين سنة حتى يدرك ذلك ـ مابين إصدار لوثر كتابه الأول «المسيح ولد يهوديا» عام 1523 وإصداره لكتابه «اليهود وأكاذيبهم» سنة 1544 نحو واحد وعشرين سنة»،يقول المؤلف: ان لوثر مضى في منظومة الكراهية الموجهة ضد اليهود «ولتحطم بيوتهم، ولتنزع منهم كتب صلواتهم وتلمودهم وكتابهم المقدس بأسره، وليحرم على حاخاماتهم أن يلقنوا الناس تعاليمهم بعد ذلك من الآن فصاعداً، وإلا عوقبوا بالإعدام...»


وهكذا تبدلت مواقع مارتن لوثر ـ لكن بعد أن بذر بذور مفاهيمه في أتباعه. ومن مصادفات القدر، أن يجد هذا الفكر الجديد أرضاً خصبة جديدة تمثل أرض الميعاد الثانية، كما أطلق عليها البعض من المهاجرين ـ أي الولايات المتحدة الأميركية. وهكذا كان مارتن لوثر الجد الأعظم للمحافظين الجدد. وأصبحت تفسيراته واجتهاداته وقراءاته للديانة المسيحية مدخلاً لكل أوروبا في فهم جديد للمسيحية يرى في اليهود الأجداد وشعب الله بعد ان كانت الكنيسة الكاثوليكية ترى فيهم آثمين ومارقين قتلوا السيد المسيح.


وهكذا سرت وتغلغلت دعوة لوثر في اتحاد أوروبا حاملة معها طروحات ومفاهيم عبرانية حاول أن يتراجع عنها لاحقاً، لكن الوقت كان قد فات. والتف حوله بعض تلاميذه مثل كميلانكتن وزونجلي، وكانت فرنسا مع جان كالفن الذي لم يكن من رجال الدين المسيحي مثل لوثر وزونجلي، بل كان علمانيا. وقدر لهذا الرجل أن يكون الدعامة الرئيسية لتأسيس الكنائس المسيحية في أوروبا القديمة، التي ستتبلور عنها لاحقاً الاتجاهات اليمينية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية.


وفي الفصل الثالث من الكتاب «إرهاصات ما قبل الصهيونية»، يرى الكاتب والباحث إميل أمين، إن بداية التأهيل للبعث اليهودي القومي، كان من خلال ادعاء حركة الاصلاح الموهوم، بأن اللغة العبرية هي اللسان المقدس، واللغة التي أوحى الله بها لشعبه، وهو ما أدى فيما بعد إلى ان الحروف العبرية قد أخذت طريقها الي الطباعة.


ينتقل الباحث بعد ذلك في فصلة الرابع «انجلترا والبيوريتانيون» ويجيب عن سؤال:


ما هي البيوريتانية وعن ماذ تعبر ؟ قائلاً: إنها حركة تمثل أشد أشكال الحركات الانشقاقية تطرفا ومغالاة، وهي الوريث الشرعي للكالفينية التي ترجع الى جان كالفن (1509 ـ 1564) الذي كان مغالياً في النظر الي حرفية الكتاب المقدس وبالذات للعهد القديم، مما جعل من جماعة البيوريتانيين يجمعون بين اتجاه حب الخير لليهود والنظر اليهم على أنهم خلفاء العبرانيين القدامى.


وقد وجد هذاالفكر أرضيه خصبة له في الجزر البريطانية وهو التعبير الذي كان يستخدم للدلالة على الامبراطورية البريطانية لاحقاً. وقد تم إطلاق اسم «البيوريتانز» بدءا من عام 1564، ويرجع الى أنهم طالبوا بتطهير المذهب البروتستانتي الانجليزي من كل الطقوس والعبادات غير الواردة في العهد القديم


وهكذا تم إحداث تهويد للفكر المسيحي داخل الولايات المتحدة الأميركية وبين بعض الفئات الدينية وتم استخدام مصطلحات وتعبيرات توراتية مثل أرض الميعاد رحيل صهيون والعودة.. الخ وفي الفصل الخامس من الكتاب «مولد إسرائيل الجديدة»، يرى الباحث ولادة إسرائيل من رحم البروتستانتية المنشقة.


أما في الفصل السادس «اكتشاف أرض الموعد الجديدة» فيقول المؤلف : إن اكتشاف العالم الجديد المتمثل في أميركا بشمالها وجنوبها، كان الباعث الديني عاملا مؤثراً ومهماً فيه، فقد أدى فشل الحملات الصليبية إلى ضرورة اكتشاف أميركا.


وكانت لسيطرة الأتراك على شرقي البحر المتوسط وما اقترفه العثمانيون في القسطنطينية والأسرة الملكية المناهضة للمسيحية في فارس وتركستان من إغلاق الطرق البرية، ومنع المرور فيها سببا في جعل الطرق القديمة للتجارة بين الشرق والغرب باهظة التكاليف ومحفوفة بالمخاطر، وتشبثت إيطاليا وفرنسا بقضايا تلك التجارة على الرغم من كل عوامل التثبيط من ضرائب الطرق والحرب.


ولكن البرتغال واسبانيا كانتا بعيدتين جداً في الغرب، وكان من الصعب عليهما الاستفادة من مثل هذه الاتفاقات ولم تكن مشكلتهما تحل إلا بالعثور على طريق آخر، وقد وجدت البرتغال طريقا حول افريقيا ولم يعد أمام اسبانيا إلا أن تجرب حظها في المرور غرباً. ولم يكن ظهور كريستوفر كولمبس إلا فتحا جديداً سيقدر له ان يغير لا من أمن جغرافية العالم فقط، بل من أيديولوجياته ومستقبل امره.


وكان الاكتشاف بمثابة الطريق بعد ذلك لهجرات عديدة جاءت الى العالم الجديد وعلى رأسها ومن أوائل الهجرات جاء البيوريتانيون البريطانيون لكي يعيشوا في هذه الارض الجديدة أرض الميعاد، وهم المختارون من الأطهار، وهكذا تمثلوا كل ما جاء في العهد القديم وبدأت مسارات صهينة المسيحية من بعض روافد البروتستانية في العالم الجديد. ويعني ما سبق ان المكون العبراني داخل في التشكيل البنيوي للولايات المتحدة منذ ظهورها.


(عرض: أمين اسكندر - "البيان")

التعليقات