النفوذ الصهيوني في العالم بين الحقيقة والخيال- الولايات المتحدة نموذجا

النفوذ الصهيوني في العالم بين الحقيقة والخيال- الولايات المتحدة نموذجا
انشغل العقل العربي مطولا في البحث عن طبيعة العلاقة التي تربط الصهيونية بالغرب، وقدم إجابات متباينة اختلطت في سياقها الحقائق بالأوهام، وكتاب الباحث الفلسطيني د.طلال ناجي «النفوذ الصهيوني في العالم بين الحقيقة والوهم /الولايات المتحدة نموذجا» يحاول تفنيد هذه الإجابات، ووضع تصور متكامل للموضوع انطلاقا من حقائق التاريخ ومجريات الواقع. والكتاب قد صدر حديثا عن مركز دراسات الغد العربي بدمشق، وهو يتألف من سبعة فصول، تتناول الموضوعات التالية : النفوذ الصهيوني انطلاقا من الدور الوظيفي للصهيونية واندماجها في النسق الاستعماري، العلاقة الصهيونية-الأميركية منذ التأسيس وحتى دخولها في مرحلة اللاعقلانية ودور المحافظين الجدد في ذلك، ثم مكونات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وعوامل تكوين الرأي العام الأميركي وأثرها على العلاقات الصهيونية -الأميركية، وقد قدم للكتاب د. جورج حبش مؤكدا اعتماد الباحث «على منهج علمي صارم في تتبع المعلومة وتوثيقها وتحليلها تحليلا موضوعيا دقيقا، لكي يقارب حقيقة النفوذ الصهيوني وحجمه ومدى تأثيره الفعلي على الأرض».


في معرض بحثه عن مكونات قوة النفوذ الصهيوني في العالم والتحالف الاستراتيجي الذي يربط الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني بالولايات المتحدة والغرب، يستبعد الدكتور طلال الفرضية القائلة بوجود حكومة مركزية يهودية تسيطر على العالم، وينفي وجود «بروتوكولات حكماء صهيون» ويعتبر كل ذلك ضربا من الأساطير، فهو يعتقد بأنه لا يمكن لليهود أن يكونوا قد شكلوا حكومة مركزية سرية عالمية للتحكم بمصير الكون.


وأن كل ما جرى في العالم من أحداث قد سبق ونوقشت في هذه الحكومة وصدر قرار بها، ثم تم تنفيذ القرار، كذلك يرى أنه لا توجد برتوكولات صادرة عن أية جهة صهيونية أو يهودية، فهذه بدعة قيصرية روسية من المخابرات الروسية التي صاغت هذه البروتوكولات، وهي تطوير لرواية فرنسية بعنوان «حوار في الجحيم» طورت بحيث تظهر وكأنها حوار بين حكماء يهود يناقشون كيفية التحكم بمصير الكون، فمجموع اليهود في العالم لا يتجاوز تعداده بموجب إحصاءات المؤتمر اليهودي العالمي 13 مليون وبضعة آلاف نسمة.


وهؤلاء لا يمكن لهم أن يتحكموا بمصير ستة مليارات إنسان يعيشون على الكرة الأرضية، والكتاب يعالج مسألة النفوذ الصهيوني من منطلق حركة سياسية سخرت الدين اليهودي لمصلحة ومآرب الحركة الصهيونية ومن أجل استعمار فلسطين وطرد الشعب الفلسطيني وإقامة كيان غاصب ودخيل على حساب حقوق أصحاب الأرض الفلسطينيين، وفي هذا السياق يستبعد الباحث أيضا الصبغة الدينية التي يحاول البعض في الغرب إضفاءها على الصراع العربي الصهيوني، معتبرا إياه صراعا سياسيا بالدرجة الأولى.


يرجع الباحث علاقة الصهيونية بالغرب والولايات المتحدة الأميركية إلى جملة من الأنساق الفريدة أهمها النسق الاستعماري، ويرى أن هجرة اليهود وتوزع جالياتهم في العالم، لم يكن عشوائيا وإنما ارتبط بالدور الوظيفي الذي لعبته الجماعات اليهودية في إطار التشكيل الاستعماري الأوروبي الغربي، فتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين كان الاستعمار الإنجليزي أول من دفع باتجاهه، والمؤرخون يتحدثون أن الحركة الصهيونية في مؤتمرها السادس بعد وفاة مؤسسها هرتزل، تبنت قرارا بأن تُنشأ الدولة في أوغندا.


وكان هناك عدة خيارات أخرى كالأرجنتين وسيناء وفلسطين، وفي ذات مرة كان الخيار في قبرص أو الجبل الأخضر في ليبيا، أي كانت هناك العديد من الأماكن المرشحة لتحقيق الفكرة الصهيونية الهادفة إلى تجميع اليهود في بقعة من العالم وإقامة كيان لهذا التجمع على أساس العقيدة اليهودية كرابط ومحفز بالاعتماد على التوراة المزيفة الموجودة الآن والتي ليس لها علاقة بالتوراة الأصلية كما نزلت على النبي موسى، لكن بريطانيا هي التي ضغطت على الحركة الصهيونية لتحويل أنظارها من أوغندا إلى فلسطين، وكانت حينها تخطط لانتداب فلسطين ووراثة الدولة العثمانية المريضة.


كي ترث السيطرة على أراضي الشرق الأوسط، وإن ما يدعم العلاقة الوثيقة بين الصهيونية والغرب عموما وأميركا بشكل خاص، هو المصلحة المشتركة والاندغام في نسق استعماري واحد، وليس استخدام أي قوة ضاغطة من قبل أحد الأطراف، وهذا يفسر سيل المساعدات المختلفة التي أغدقها الغرب على الكيان الصهيوني، كما يفسر اندراج الكيان الصهيوني في سياسة وظيفية خدمت النسق الاستعماري الأوروبي القديم سابقا، وتخدم النسق الاستعماري الأميركي بإجماله حاليا، لكن حين تتعارض المصالح الغربية أو تتهدد يكون على إسرائيل أن تذعن للغرب.


وهنا يسوق الكاتب الكثير من الأدلة، منها مثلا في عام 1956 عندما احتلت إسرائيل قطاع غزة وسيناء بالتواطؤ مع فرنسا وبريطانيا، وكانت العملية من أجل السيطرة على قناة السويس وضد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد تأميم القناة، وكان ديفيد بن غوريون زعيم إسرائيل في ذاك الوقت، وكانوا يسمونه بالنبي، حينها أصدر الرئيس الأميركي أيزنهاور تعليماته إلى بن غوريون بأن ينسحب من سيناء وغزة، وأذعن بن غوريون للأمر بعد أن وقف في الكنيست وبكى، وكيف أجبر الرئيس بوش الأب في حرب الخليج الأولى أحد غلاة اليمين الصهيوني المتطرف إسحاق شامير .


وكان رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية عام 1991، كيف أجبره أن لا يرد على الصواريخ التي أطلقها العراق على إسرائيل، حتى لا تختلط الأوراق في المنطقة، وتدخل إسرائيل الحرب التي تشن على العراق لطردها من الكويت، والتزمت إسرائيل بهذا، وكيف أُجبر إسحاق شامير رغما عن أنفه أن يذهب إلى مدريد، وكان لا يريد ذلك، وحين ضغط عليه جورج بوش الذي كان يريد أن يجني ثمار الحرب على العراق، قال شامير مقولته الشهيرة: بما أني أجبرت على المجيء، فإني سأضيع وقت العرب لعشر سنوات مقبلة دون نتائج.


في كتابه أيضا تناول الدكتور طلال تاريخ العلاقات الأميركية الصهيونية، ووصف المرحلة الحالية منها بمرحلة اللاعقلانية، وأرجع ذلك إلى وجود تيار يميني محافظ في الإدارة الأميركية على رأسه ديك تشيني ومن كبار رموزه دونالد رامسفيلد، كانوا وراء توريط الرئيس بوش الابن والولايات المتحدة الأميركية في حربها على العراق، وهذا التيار يؤمن بعقيدة دينية مسيحية متطرفة، تستند إلى أفكار بروتستانتية قديمة، تقول إن جميع اليهود في إسرائيل الناشئة عام 1948 جزء من الخطة الإلهية للمصير إلى الملحمة الكبرى التي تتحد فيها قوى الخير «الولايات المتحدة وحلفاؤها» ضد قوى الشر «المسلمين وا��عرب».


وسوف تؤدي تلك المعركة إلى دمار الأرض، وهي مقدمة ضرورية لعودة المسيح المخلص، ولذا فهذا التيار هجومي ويسعى للمواجهة والنزاع بدل التفاوض والتسويات، وهو ينتهج سياسات عدوانية إزاء كل دول العالم، ويعمل على دعم إسرائيل بكل قوة، وبسبب تغلل التيار اليميني المحافظ في الإدارة الأميركية ومراكز القرار، باتت السياسة الأميركية الخارجية تتسم باللاعقلانية في المرحلة الراهنة تحديدا فيما يتعلق بسياساتها اتجاه المنطقة العربية والصراع العربي الصهيوني.


تطرق الباحث أيضا لما يعرف بسياسة «هندسة الرضا الديمقراطي» ووصفها بأنها نوع من أنواع الديكتاتورية المقنّعة، فالسياسات الأميركية تستند إلى جملة من الشعارات الرنانة التي تنادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، ويمكن أن تطبق هذه الشعارات إذا لم تتعارض مع المصالح الأميركية أو تمسها بأذى، أما إذا شعرت الإدارة الأميركية بأي خطر يهدد مصالحها أو مصالح حلفائها، فإن هذه الشعارات تتهاوى، فما سمعنا عنه من اعتقالات تعسفية ومداهمات وتنصت على المكالمات الهاتفية في أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر، أو ما وصلنا عن الجرائم التي ارتكبها الجنود الأميركان في العرا�� بعد احتلاله يؤكد هذه المقولة.


لكنهم في الإعلام الأميركي يتحدثون عن العمليات الاستشهادية والمقاومة الفلسطينية والعراقية ضد الاحتلال بوصفها عمليات إرهابية، وينسون حقيقة الممارسات الوحشية والقتل الجماعي وتدمير البيوت التي يقوم بها جنود الاحتلال في فلسطين والعراق، وفي هذا السياق يفرد الباحث صفحات عدة للإشارة إلى مدى سيطرة اللوبي الصهيوني على وسائل الإعلام في أميركا.


ويؤكد في معرض حديثه أن الرأي العام مصنوع، وهي حقيقة موضوعية على الأقل في الولايات المتحدة الأميركية، فالموقف السياسي يصوغه الإعلام، والمواطن الأميركي العادي لا يتلقى معلوماته ومعارفه إلا من التلفزيون، وهذا الأخير لا يقدم إلا المعلومات التي تقر بالمصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة.


لكن رغم كل هذه المعطيات والشواهد التي يسوقها الباحث في كتابه، فإنه يؤكد في النهاية على أن نفوذ الصهيونية وقوة الكيان الصهيوني وغطرسته، تنبعان من قوة القوى الإمبريالية ومن ضعف العرب وتشرذمهم وعجزهم عن إنجاز مشروعهم القومي النهضوي، وأن مواجهة المشروع الصهيوني رهن بوحدة العرب ونهضتهم.


الكتاب: «النفوذ الصهيوني في العالم

بين الحقيقة والوهم»

الولايات المتحدة نموذجا

الناشر: مركز دراسات الغد العربي ـ دمشق 2004

الصفحات: 471 صفحة من القطع الكبير
(تهامة الجندي- عن "البيان")

التعليقات