زكريا تامر روائياً أم قاصاً ... في "القنفذ"؟

زكريا تامر روائياً أم قاصاً ... في
ينصّ زكريا تامر على غلاف كتابه الجديد «القنفذ» (دار الرياض الريس، 2005) على أنه قصة. وهذا ما ندر أن فعله سواه، حيث يغلب أن ينصّ الكاتب / الكاتبة على «قصص» أو على «رواية»، إن لم يدع الأمر للقراءة ـ ومنها النقد ـ في عقد ملتبس، يزيده قلق المصطلحات والترجمة التباساً.

من هذا القلق أذكر وصف فيليب يونغ لرائعة همنغواي «الشيخ والبحر» بالرواية القصيرة جداً، مقابل وصف نقاد آخرين لها بالقصة الطويلة. وقد عدّ محمد أحمد عطية رائعتي صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة» وسليمان فياض «أصوات» رواية قصيرة، وهذا ما صنف به سليمان البكري «عيون في الحلم» لعبد الرحمن مجيد الربيعي. أما خلدون الشمعة فعدّ «الأبتر» لممدوح عدوان قصة طويلة كما عدها محاولة في الرواية.

تقارب «القنفذ» في حجمها أياً من الروايات/ القصص الطويلة السابقة. والحجم واحد من ذرائع التصنيف هنا، لكنه ليس الذريعة الوحيدة. على أن الأهم هو أن زكريا تامر قدّم في «القنفذ» متواليات سردية، يمكن كلاً منها أن تستقل. بالأحرى يمكن كلاً منها أن تقوم كقصة قصيرة ما عدا «الفخ» أو «الهدية المؤجلة» اللتين يصل بينهما تنصّت الطفل على جديه. ولعل تمحور المتواليات / القصص حول الطفل يلوح لها بالرواية، وهذا ما يزداد قوة في الخاتمة حين يقفز الطفل الراوي إلى شيخوخته ويروي. ولا يبعد عن ذلك طلبُ الطفل من جده أن يشتري له تلفزيوناًً صغيراً في «الهدية المؤجلة» أو أن يحضر التلفزيون في نص «سأشتري بنكاً». ذلك أن «القنفذ» تغري بالقراءة إذ توحّد بين الطفل الراوي ذي السنوات الخمس وطفولة الكاتب المولود عام 1931، وحيث لم يكن التلفزيون حاضراً عام 1936 ولا عام 1956. وعلى رغم غواية القول بأن «غلطة الشاطر بألف»، وعلى رغم وجاهة القول بحنين الشيخ إلى طفولته (النوستالجيا)، فإن حضور التلفزيون يشير إلى الخروج من السرد الذاتي وإلى اللعب بالزمن لتكون طفولة القنفذ طفولة أخرى، بقدر ما هي طفولة الكاتب. ومثل هذا الصنيع واحد من ذرائع القول بالرواية، هذا القول الذي يزيده التباساً توحيد فعل القص للرواية والقصة، ما حدا بتصنيف كل رواية على أنها قصة، لكن العكس ليس صحيحاً.

بسبب ذلك كله، وبعده، يطلع السؤال عما إذا كان زكريا تامر وقع أخيراً في غواية الرواية، بعد إخلاصه قرابة نصف قرن للقصة القصيرة.

لقد درج في «زمن الرواية» وقوع الشعراء في هذه الغواية، كما درج الانتقال العاجل أو المتأخر لكثيرين وكثيرات من كتابة القصة القصيرة ـ والطويلة ـ إلى كتابة الرواية. وفي ظفر الرواية أخيراً بزكريا تامر يتواصل ما عُرِفَتْ به كتابةُ الكاتب للقصة القصيرة، وينهض عالم «القنفذ» على المفردات التي كونت العالم القصصي للكاتب منذ مجموعته «صهيل الجواد الأبيض» (1960). وحسبي الإشارة هنا إلى قصص الأطفال مثل «الكذب» و»الرعد» من مجموعة «الرعد» (1970). فالمخيلة الرامحة والاقتصاد اللغوي وأولوية الحوار من العلامات الكبرى لجمالية «القنفذ» التي يصدق فيها تشبيه جمالية القص عموماً بالرمال المتحركة. هكذا تنعطف اللغة في «شجرة جديدة في باحة بيتنا» من الصيرورة الجارية إلى الحقيقة التي يبتدعها الطفل (صار شجرة..)، ولذلك يحل الفعل الماضي محل الفعل المضارع. وهكذا تؤنسن مخيلةُ الطفل الطبيعة والحيوان والطير والأشياء: الحيطان تتنصت وتبكي والهواء مغرور وللأسماك لغتها والقطة واشية و... وفي ذلك يبرز الوحش والعدوانية في الإنسان مقابل براءة الطبيعة. فالرجال الأجلاف الراغبون في إدامة الجوع تنهال فؤوسهم على الطفل الذي صار شجرة، والطفل في «المغارة الأخرى» يتمنى أن يصير حرامياً ويتمنى أن يصير أخوه الأكبر ملاكماً ليضرب أقوى الرجال ويذلهم. وفي «الملح» يعتدي الفتيان على الطفل ثم يتهيبونه بعد أن تدرع بالحجر وضرب أحدهم.

بعبارة أخرى: الوحش قائم في الخارج المجتمعي حيث تنتفي الألفة، ومكين في نفس الفرد (الطفل)، وبالمقابل: هي ذي الطبيعة مثل الأسرة: العش الدافئ ومركز تكثيف الألفة على رأي باشلار.

يقوم هذا التناقض في المدينة التي تزيدها السنون المنقضية بين طفولة القنفذ وشيخوخته توحشاً، كما تجلو الخاتمة «سألت». بل إن التوحش ينال الطبيعة نفسها، فالماء بدل طبائعه وبات يهوى الشجار وإهانة الناس، والقط ينظر الى الشيخ باحتقار، ولذلك يعزم الشيخ على أن يرسم مدينة ليس فيها أي حي، وشوارعها وبيوتها جبال رماد. على أن خاتمة «القنفذ» هذه تومئ إلى البديل في سؤال الشيخ ابنه الطفل أن يرسم قرية صغيرة ـ وليس مدينة ـ لا يعيش فيها غير القطط والطيور والشجر، لكأن الرومانسية تترجّع هنا في الحنين إلى الريف وفي اليأس من المدينة. فهل ما زال للرومانسية مطرح في ما آل إليه عالم «القنفذ» بين طفولته وشيخوخته، بعدما فعل الفساد والاضطهاد في الطبيعة والبشر ما فعل؟

أياً يكن الجواب، هي ذي قصة «القنفذ» تدفع بمثل هذه القراءة لأن «تتقنفذ» وهي تعيش انقصاف ربيع دمشق الثاني كانقصاف ربيعها الأول، هذا إن كان ثمة حقاً ربيع أول أو تال أو أخير أو «ربيع في الرماد» كما هو عنوان مجموعة زكريا تامر الثانية (1963) والتي عززت ما وعدت به المجموعة الأولى من اللحظة التامرية في تطور القصة القصيرة العربية. وكان قولي بـ «اللحظة التامرية» قد جرّ عليّ غضب جبرا إبراهيم جبرا في الملتقى الثاني للكتابات القصصية والروائية (الشارقة 1989)، ربما لغيرة مبدع كبير مثل جبرا من مبدع كبير مثل تامر. وعسى ألاّ يجرّ عليّ القول بروائية زكريا تامر في «القنفذ» غضب آخرين.

(نبيل سليمان - "الحياة")

التعليقات