"عرب فلسطين المحتلة 1984- فلسطينيو الجليل نموذجا

كلما تقدمت القضية الفلسطينية شوطا في فضاء التفاوض حلت في وجه المتفاوضين عقبة هي أشبه بالمستحيل السياسي، عنينا بها عقبة اللاجئين الفلسطينيين 1948. اذ على الدوام، ومنذ اتفاقات اوسلو بين منظمة التحرير والدولة العبرية، ظل ملف اللاجئين ناهيك عن ملف القدس، يشكلان الحد الفاصل بين سلام مشوب بالاستحالة وحرب مفتوحة على اتجاهات لا حصر لها.


حتى ان كثيرين من خبراء الصراع العربي ـ الصهيوني باتوا على ما يشبه اليقين ان على موضوع اللاجئين يتوقف المسار الاجمالي لتسوية القضية الفلسطينية في خلال العقد الاول من القرن الجاري.


هل يعني هذا أن ملف اللاجئين بات سياسيا في منطقة المستحيل وانه عامل التفجير الاخير لكل تسوية ناقصة حتى لو استطاعت موازين القوى الاقليمية والدولية انجازها في اجل منظور؟ على قاعدة هذا السؤال ينبني الهيكل العام لدراسة الباحث الفلسطيني قيس ابراهيم قيس «عرب فلسطين (1948) فلسطينيو الجليل نموذجا» واذا كان القسم الاول من العنوان اي (عرب 48) قد حظي بعناية دارسين كثر على امتداد اجيال النكبة، فان قسمه الثاني يمنح الكتاب سمة خاصة ونادرة كونه يركز على منطقة من فلسطين ظلت محاطة بالكثير من الظلال والتغييب،


وربما لهذا السبب يكتسي هذا الكتاب اهميته المعرفية والسياسية والثقافية في نطاق الجدل الذي لا ينتهي حول القضية الفلسطينية وتداعياتها.لماذا قضية «عرب الجليل» الآن وما الدوافع التي حفزت المؤلف الى الدخول في مثل هذا المدخل السياسي والاجتماعي والقانوني؟


في تمهيده للكتاب يرد المؤلف قيس قيس على السؤال فيما يشبه المزج بين الشخصي والسياسي والثقافي في سيرته الذاتية: ربما لاني انتمي الى عرب الجليل ففي الجليل الغربي نشأ والدي واجدادي منذ مئات السنين الى ان كانت النكبة عام 1948 فخرج والدي ونفر من اقاربي واهل بلدي لاجئين الى لبنان مع الالاف من ابناء قرى الجليل ومن شمال فلسطين الذين هجروا من وطنهم وفرض عليهم العيش لاجئين منذ نيف وخمسين عاما ورغم ان التهجير والتدمير شمل معظم قرى ومدن الجليل، الا ان قريتي ـ


يضيف المؤلف ـ «نحف» وبحكم موقعها في عمق منطقة الجليل، على طريق عكا ـ صفد، لم تهجر او تدمر وبقيت عامرة وكان عدد سكانها عام 1948 يقدر بـ 1800 نسمة تقريبا وقد تضاعف عدد سكانها مرات عديدة بسبب الزيادة الطبيعية في نسبة المواليد كذلك بسبب انتقال عدد من اهالي القرى العربية المهجرة للسكن فيها وقد بلغ عدد سكانها وفق الاحصاءات الاخيرة ما يقارب 10 آلاف نسمة.


هناك جملة من الدوافع الموضوعية ستحمل المؤلف على خوض مثل هذه المحاولة الفريدة ولو انها انطلقت من شعور متشائم لديه عبر عنه بالقول «ان الدافع الذي حفزني على اختيار موضوع بحثي عن عرب الجليل هو احساسي بان الامل بدأ يتحول الى سراب» غير ان المؤلف وهو يعكس مثل هذا الاحساس بدا على جانب من الواقعية حين عرض الى جملة من المتغيرات اهمها مايلي:


اولا: بعد بدء المفاوضات مع العدو الاسرائيلي في مدريد عام 1991، وتوقيع اتفاقية اوسلو في العام 1993، بدا واضحا ان هناك تجاهلا لمصير الشعب العربي الفلسطيني، تمثل في تأجيل بحث موضوع «اللاجئين» الى المرحلة النهائية من المفاوضات وبالتالي عدم ادراج «موضوع الجليل» ومصير العرب الفلسطينيين الذين استمروا في العيش في ظل الاحتلال الاسرائيلي منذ العام 1948 على جدول اعمال المفاوضات


علما ان الجليل كان تابعا للدولة العربية في حدود مشروع التقسيم الذي صدر عن الامم المتحدة عام 1947 وهذا سلاح قوي كان يمكن ان يستخدمه المفاوض الفلسطيني في تحسين شروط التفاوض الا ان مسار عملية التفاوض خلال العقد الاخير (بعد عام 1991) اثبت ان سقف المفاوض الفلسطيني هو ادنى بكثير من قرارات الشرعية الدولية رقم (242 و338).


ربما مزيج من الذهول والدهشة والرفض للواقع الذي يفرض ان جزءا من اهل قرية «نحف» التي ولد فيها المؤلف سيصبحون او اصبحوا «اسرائيليين» وهو الامر الذي دفعه الى الكتابة عنهم وكشف حقيقة الواقع الذي يعيشونه في ظل «الدولة اليهودية».


ثانيا: لاشك ان موقعها «القضية الفلسطينية» و«الصراع العربي الاسرائيلي» كان من بين الموضوعات التي استحوذت على اهتمام السياسيين واقلام الباحثين في الاوساط الفلسطينية والعربية والدولية، وما كتب في هذا المجال يصعب حصره وتصنيفه وتبويبه الا ان الملفت ان عرب 1948 لم يحظوا بالاهتمام المطلوب فبقي واقعهم شبه مجهول لا يعرفه الا نفر من الباحثين الذين فرضت عليهم معاناتهم وتجربتهم الخاصة ان يلقوا الاضواء على هذا الجانب المظلم من واقع التجربة الحياتية الصعبة لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني الذي قدر له ان يعيش في ظل الاحتلال الصهيوني.


وبحسب ما نعرف مما انتجته التجربة البحثية الفلسطينية يمكن الاشارة هنا الى بحثين يتيمين لكن على جانب من الاهمية، الاول صدر عام 1972 لحبيب قهوجي بعنوان «العرب في ظل الاحتلال الاسرائيلي منذ 1948» والثاني: في العام 1973 للباحث صبري جريس بعنوان «العرب في اسرائيل»


والكتابان يعتبران المصدرين الوحيدين اللذين ارخا واقع العرب في اسرائيل من مختلف جوانبه حتى تاريخ صدورهما اما موسوعة «بلادنا فلسطين» التي قام باعدادها المؤرخ مصطفى الدباغ فانها في الجزء المتعلق «بديار الجليل» هي اقرب ما تكون الى الجغرافيا التاريخية منها الى التاريخ السياسي وقد تناول المؤرخ تاريخ مدن وقرى الجليل عبر العصور التاريخية القديمة والمعاصرة حتى نهاية الانتداب البريطاني لكنه لم يعن بالفترة الواقعة بعد عام 1948 الا في ما ندر.


الموسوعة الفلسطينية التي صدرت عام 1990، قدمت عدة ابحاث عن واقع العرب في اسرائيل لكنها في معظمها جاءت تكراراً لما ورد في كتابي قهوجي وجريس، وهي مستندة الى المراجع والاحصاءات اليهودية وهي مراجع واحصاءات لا تتصف بالدقة والموضوعية


وبالتالي فان هذه الكتابات على اهميتها لم تتمكن من تغطية التاريخ المتعلق بالانسان العربي في الجليل حتى نهاية الثمانينيات اما الفترة الممتدة الى العام 1998 الذي شهد نهاية نصف قرن من العيش في ظل الاحتلال الاسرائيلي فقد شهدت تطورات مهمة في ميدان التأريخ للعرب في الجليل وفي بقية الاراضي المحتلة عام 1948.


ثالثا: ارتباط الكتابة عن الجليل والاراضي المحتلة بالاطروحات السياسية: اذ حتى عام 1973 اهتمت مؤسسات البحث الفلسطيني في تقصي اخبار واوضاع «العرب في اسرائيل» الا ان هذا الاهتمام تراجع بعد العام 1974 الذي شهد بداية الاطروحات السياسية الجديدة التي تمثلت في البرنامج المرحلي للحل السياسي


وهو الذي يعني بالضرورة التخلي مرحليا عن المطالبة بالجزء الذي احتل عام 1948، وهذا المنطق يقضي بالابتعاد عن دراسة اوضاع الشعب الفلسطيني في هذا الجزء انسجاما مع «موضوعية» التوجهات السياسية الجديدة


لقد اصدر مركز الابحاث الفلسطيني المئات من الكتب والدراسات التي تناولت مواضيع التعليم والاقتصاد والواقع الاجتماعي ومصادرة الاراضي والاستيطان في الجليل والاراضي المحتلة عام 1948 حتى منتصف السبعينيات ثم انصب الاهتمام على دراسة الموضوعات السياسية التاريخية للصراع العربي ـ الصهيوني


اضافة الى الواقع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين الشتات على اعتبار انها المناطق القادمة «للدولة الموعودة» بناء للتوجهات السياسية الجديدة لقياديي منظمة التحرير الفلسطينية.


وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت اثر اجتياحها عام 1982، اقتصر الحديث عن عرب الجليل على عدد قليل من الابحاث والمقالات التي نشرت في مجلة شئون فلسطينية وهي حصيلة جهد فردي ومعاناة شخصية لعدد من الباحثين وحملت هذه المقالات صفة الموسمية حيث كانت تصدر في مناسبة الذكرى السنوية ليوم الارض في اغلب الاحيان.


لكن التطور الذي شكل منعطفا في الحركة السياسية لعرب الجليل سيبدأ بعد توقيع اتفاق اوسلو عام 1993 فعلى مدى العقود الماضية كان فلسطينيو 1948 في موقع التلقي للسياسات الخارجية الفلسطينية والعربية واليوم وبعد انكفاء الحركة الوطنية الفلسطينية ـ على ما يقرر المؤلف ـ بات لزاما على الحركة السياسية لفلسطينيي 1948 ان تطور برامجها السياسية، والتنظيمية والنضالية.


غير ان المؤلف يعود ليستطرد مستدركا ان الوصول الى قيادة سياسية وبرنامج سياسي للقوى العربية في فلسطين المحتلة عام 1948، ليس امرا يسيرا، فباستثناء نفر قليل من القيادات لم يقدم احد اي تصور لرؤية مستقبلية للعلاقة مع الكيان الصهيوني،


ومع السلطة او الدولة الفلسطينية اذا ابصرت النور وتبقى الآراء موحدة في القضايا المطلبية المتعلقة بالحقوق المدنية والانسانية مع العلم ان الجميع يدرك ان ذلك الهدف غير قابل للتحقيق في كيان لا دستور فيه الا ما اقره الكنيست عام 1985 يعرف فيه دولة اسرائيل بانها دولة قومية للشعب اليهودي، وان الانتماء اليهودي لا المواطنة الاسرائيلية هي المعيار للانضواء تحت تعريف الدولة التي لا تشمل في تعريف هويتها المواطنين غير اليهود


هذا بالاضافة الى العديد من التشريعات والقوانين التي صيغت في الكنيست لتخدم اليهود دون سواهم من المقيمين في الكيان. وتدرك القيادات العربية في فلسطين المحتلة عام 1948 اكثر من غيرها ان الكيان الصهيوني بكل مؤسساته خاصة الامنية على اهبة الاستعداد لسحق اية ظاهرة فيها ادنى تهديد للامن الصهيوني سواء كانت هذه الظاهرة تحركا جماهيريا ام نشاطا سياسيا مما يعني ان «الديمقراطية الاسرائيلية» المزعومة يضيق هامشها الى حد التلاشي


اذا كان من يحاول الاستفادة منها غير اليهود ولنا في انتفاضة يوم الارض في عهد باراك وتضامن اهالي الجليل مع حركة الانتفاضة المتواصلة في الضفة الغربية وغزة فضلا عن الاثر السياسي والنضالي الذي شكله انتصار المقاومة الاسلامية في لبنان في مايو العام 2000 ودحر قوات الاحتلال الاسرائيلي من القسم الاعظم من جنوب لبنان.


قسم المؤلف كتابه الى ثلاثة اقسام وكل قسم منها الى عدد من الفصول حسب الموضوعات التالية:


القسم الاول: بعنوان التحولات السياسية والديمغرافية في الجليل، وكان عنوان الفصل الاول: احتلال الجليل حيث تضمن هذا الفصل نقاطا مهمة تركزت على استعراض شامل للقرى والبلدات التي دمرت والاهداف الصهيونية وواقع المدن والقرى العربية عام 1948.


الفصل الثاني تناول المرحلة الاولى من العمل السياسي بعد النكبة والعضوية في الاحزاب العربية، اضافة لعضوية العرب في الاحزاب الصهيونية.


اما الفصل الثالث من القسم الاول، فيتعلق بالمرحلة الثانية بعد عام 1977 وعوامل تشكل المرحلة الجديدة، وصولا الى الاحزاب العربية الراهنة.


القسم الثاني: خصص لدراسة الوضع الاقتصادي الذي قسم الى ثلاثة فصول، تناول المؤلف في كل فصل منها دراسة مرحلة من المراحل التاريخية: الاولى: انتهت عام 1966 بانتهاء الحكم العسكري، والثانية: انتهت عام 1977 بالانقلاب الاقتصادي الذي تمثل بالتحول نحو الاقتصاد الرأسمالي بعد وصول اليمين الاسرائيلي الى الحكم، والمرحلة الثالثة استمرت حتى عام 1998.


الفصل الاول: شمل المرحلة الاولى من عام 1948 ـ الى 1966 وتناول هذا الفصل عدداً من النقاط المهمة من مثل الواقع الاقتصادي قبل 1948، والارض في الاستراتيجية الصهيونية وقوانين مصادرة الاراضي اضافة الى السياسة الاسرائيلية لمواجهة الاقتصاد العربي ومحاربته وبداية تحول اليد العاملة العربية من الزراعة الى العمل المأجور، ومصاعب العمل في هذه المرحلة.


في الفصل الثاني: جرى بحث المرحلة الثانية 1966 ـ 1977 وتم الحديث عن السياسة الاسرائيلية حيال الاقتصاد العربي من خلال «الخطة الخمسية» وتصنيف المناطق اقتصاديا اضافة الى دراسة واقع المجالس المحلية العربية والزراعة والعمل العربي في مجال الصناعة والوظائف والحركة المصرفية.


القسم الثالث حمل عنوان تعليم العرب في «اسرائيل» وتناول على مدى فصلين اشكالية التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي التي برزت من خلال استراتيجيات «التهويد» وطمس الهوية العربية من جانب سلطات الاحتلال على امتداد نصف قرن من الاحتلال.


تناول الفصل الاول من القسم الثاني: التعليم في الجليل بين عهد الانتداب وقيام اسرائيل ومرتكزات العقيدة الصهيونية في مجال التعليم ومراحل التعليم وفروعه والزاميته بالاضافة الى واقع المدرسة العربية والعوامل المباشرة وغير المباشرة المعيقة لتعليم العرب في الجليل.


اما الفصل الثاني في هذا القسم فقد تناول جملة من المحاور المتعلقة بهذا الجانب ومنها: واقع عملية التعليم في مراحلها المختلفة، في المرحلة الابتدائية تناول الكتاب الهدف من وضع وتقسيم المناهج، خاصة في مواد التاريخ والجغرافيا واللغة العربية وفي المرحلة الثانوية تناول دور المجالس المحلية العربية في التربية والتعليم واثر الوضع الاقتصادي،


وكذلك المنهاج في المرحلة الثانوية وفي المرحلة الجامعية جرى بحث مصاعب التعليم في هذه المرحلة اضافة الى واقع ومطالب التعليم العربي في المرحلة الراهنة وتناولت في الخلاصة ذكرى اسباب وجدوى تعديل مناهج مادتي التاريخ واللغة العربية.


ان المسعى الذي شكل الخلاصات الاساسية في كتاب قيس قيس «عرب فلسطين المحتلة 1948 ـ فلسطينيو الجليل نموذجا» وجد ما يمنحه صفته المرجعية من خلال الاسئلة والاشكاليات التي جاءت على مدى صفحاته الاربعمئة والخمس والثلاثين، فلقد اضاء هذا الكتاب على منطقة مجهولة من فلسطين دأب الاحتلال الصهيوني على مدى اكثر من نصف قرن على محو البعد الوطني لعرب الجليل، من خلال سياسة «الاسرلة» و«التهويد»


كما يضيء الكتاب على واقع العرب والفلسطينيين في مواقع اللجوء والشتات وهي اضاءة سوف تساهم في سد ثغرة اساسية في الادبيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بالقضية الفلسطينية عموما، وبعرب الجليل بصفة خاصة. هكذا يدخل كتاب قيس ابراهيم قيس في سياق بحثي نادر غير ان الامر لا يقتصر فقط على الجانب الاكاديمي فيما يؤديه الكتاب


وانما ايضا واساسا على الجانب السياسي حيث يؤدي مهمة استراتيجية في الفضاء الاجمالي للقضية الفلسطينية، اهمها استعادة الهوية الوطنية لفلسطينيي منطقة الجليل بوصفهم جزءا من حركة الشعب في كفاحه الوطني ومسيرته في تقرير مصيره وتحقيق استقلاله الوطني الشامل.


ومن ناحية اخرى تؤدي هذه المهمة الاستراتيجية وجها معرفيا لجهة كشف ما هو مجهول عن حقيقة معاناة الاقلية العربية في الكيان الاسرائيلي في اتجاه التأكيد على ان «الاسرلة» كهوية طارئة وعارضة، لن تكون بديلا عن الهوية الوطنية والقومية للعرب الفلسطينيين. وان قبل بها قلة من المنتفعين.

التعليقات