في رهان على الثقافة: فهرس مشارف يمتد "نحو الكون كافة"

-

في رهان على الثقافة: فهرس مشارف يمتد
في عدد صيف 2005 من الفصلية الثقافية "مشارف"، الصادرة من حيفا، لا تكتفي بطرح سؤال مفتوح على رهانها، كما افتتحت افتتاحيتها، بل إنها تطرح جوابًا واضحًا، بوصفه صياغة وبوصفه موقفًا أيضًا:

"تراهن "مشارف" على الثقافة. وهي لا تني تثبت، عددًا عددًا، أن رهانها ليس عسير المنال إذا ما كان منطلقًا من مدّ خط الأفق نحو الكون كافة". سؤال / مسألة الثقافة المقترح يُعبَّر عنه بفهرسها الذي يمتد جغرافيًا ولغويًا "نحو الكون كافة". وكأنها مقولة يُراد تسجيلها: الثقافة هي التنوع الواعي والانفتاح المتكافئ على كل ما هو آخر. وحين يقال هذا فلا يُقصد الصنف "المُتعالي" من الثقافة، وهو بلاغ يظهر خلف بسمتين قاهريـّتين على غلافها. صورة لماسح أحذية مصري جالس في ميدان "قصر الشمع" بمصر القديمة، يرفع يده بالتحية ويشرق ابتسامًا والى جانبه واقفًا صبي يضاهيه في دفء التحية واشراقة البسمة. هذه الصورة التي التقطتها عدسة رئيسة التحرير تُحضر القاهرة الشعبية كجزء ثقافي حيّ بشكل واعٍ، وليس كمشهد من فولكلور مفروض من قلب نزعات لم تعترف بالتكافؤ، لم تمارسه، فخسرته!

في العدد الراهن الذي يحمل الرقم التسلسلي 27 لا يزال الشعر كوة القارئ الأولى على المجلة. وهو يبدأ فعلا في قصيدة "كوة" مع سركون بولص، الشاعر العراقي المقيم في سان فرانسيسكو الأمريكية. والى جانبها القصائد: لا شيء منذ آدم/ لحظات في الحديقة/ حديث مع رسّام في نيويورك بعد سقوط الأبراج/ طفلة الحرب/ الأطفال المسحورون والمدينة/ يوميّات من قلعة فيبرسدورف/ شارة الانبعاث/ سكّة/ طنجة/ رؤيا في "فندق النصر"/ عرّافة أزمّور/ صوت أيامي، أزمنة الآخرين، وآخرها: جبل القدّيس.

في "طفلة الحرب" المهداة "الى طفلة عراقية ولدت في الحرب، وفي الحرب ماتت":
"كم طالت الحرب
يا طفلة؟
كم من الليالي
في قاع أية بئر؟ أية أبدية للأذى الآتي
من كل الجهات؟
ماذا كان الجنرال ذو الأربع نجمات
سيفعل، إن حرموا طفلته من حليبها ليوم واحد؟"

الشاعر الفلسطيني المقيم في غزة، باسم النبريص، يطل في باقة من مجموعة شعرية بعنوان: "مقال في معنى الريح" ضمّت: أملاك/ إستمهال/ إختزال/ شهوات/ كيف أصبحت غريبًا تحت سماء خانيونس؟ وغيرها.

في الأخيرة نقرأ:
"إلحق!
تفاحة آدم سقطت كفأر
في زغب رئتيك الثقافيتين
فتخثرت إستغاثات كافكا مُسوخًا أمام بؤبؤيك
وتصمّغ أنف غوغول ضفدعة خلف اللسان!
إلحق!"



بدافع عهدها على التجديد والمساهمة في إثراء معنى النص عبر تنويع صوره، ضمت المجلة محورًا جديدًا من مضمار أدب الرحلات أو السفر عنونته بـ "ترحال". ويكتب فيه سعيد فرحان، الكاتب والتشكيلي العراقي المقيم في لوزان - سويسرا: "القاهرة - لوزان One Way Ticket"، فنقرأ:

"يصعب امتلاك نظرة ناقدة حادة للحياة في القاهرة، على الأقل بالنسبة لي. إن هذا الجحيم الأرضي بسعادته، ببؤسه، بمجده وبجماله، لا يدع مجالاً لأن تكون محايدًا. يتحدث أصدقائي السويسريون أحيانًا عن التلوّث المريع، عن انعدام أرصفة المشي، عن الغبار الأسود، عن الوساخة، عن المساومة المتعبة في كل شيء، عن دجل سائقي التاكسي (....) غير أنني كنت قد قررت منذ البدء أن أفتح في دفتر ذاكرتي نافذة تطل على قاهرة قلبي. لقد منحتني هذه المدينة هبات جمة وحررتني من ثقل الإطار ومن مواد الرسم الكلاسيكية..".

أما الكاتب الفلسطيني محمود شقير المقيم في "مدينة الترحال"، القدس، بشقها المحتل، فيكتب "باريس من الألف الى السّين". ومن "محطة اللوفر" يكتب خيطـًا يصل باريس بالقدس:

"تجولت طويلا في أنحاء المتحف، وكلما تعبتُ جلستُ على مقعد هنا أو هناك وسط حشود من البشر القادمين من شتى أنحاء الدنيا. توقفت عند لوحة أعادتني الى ما يجري في بلادي: يظهر دافيد في اللوحة حاملا المقلاع وبين يديه رأس جولييت بعد أن تمكن من قتله! توقفت عند لوحة أخرى كبيرة جدًا عن عرس في قانا الجليل..".


في باب النصوص يكتب القاص الفلسطيني نصار ابراهيم "القلم المكسور!". ويجمّد لحظة شديدة التفاعلات عن "إحساس غامض كان يضغط على صدره وهو يتوجه الى طاولة الكتابة" وسط التساؤل: "لمَ هذا الانقباض الداخلي المضني؟!".

أما "الشهادة" في هذا العدد فهي بقلم الشاعرة والكاتبة الفلسطينية المقيمة في غزة، دنيا الأمل اسماعيل، بعنوان "ساعة حائط، نشرة أخبار، وحياة لا تأتي". فيما يلي مقطعان:

"أموت أكثر من خراب الروح، وفساد الألم، حين تدخل المتاجرة الى قائمة الأثاث المنتهك والخسائر الوهمية، فأحزن بصمت ناقص من تمرده".

وتختتم:
"أتركوا لي رفيف قلبي، وجنون روحي، ومساحة أحلم فيها بالغد، فهل هذا كثير؟!"..
وكأنها ترسل بلاغـًا لمن يهمّه الأمر..!

في محور "رؤى" يطرق الشاعر والمفكر العراقي فوزي كريم ملفًا ثقافيًا مفصليًا تحت العنوان "تهافت الستينيين". وهو خوض في حدود الابداع والايديولوجيات حين يشتدّ وتر انغلاقها، وحين تقترب من خنق أنفاس الابداع. وهو يلاحظ أن:
"النزعة الراديكالية لدى المثقفين باتجاه اليوتوبيا كانت علامة فارقة للجيل الستيني في روسيا القرن التاسع عشر، ولقد انتظرت مئة سنة لكي تعاود الظهور لدى ستينيي الغرب في القرن العشرين. ولا بأس أن تجد من يمثلها لدى ستينيي العالم الثالث، في محاكاة ألفناها في حياتنا الثقافية طول القرن العشرين". كريم يتناول السؤال بأدوات المقارنة مفككا مصطلحات مثل اليقين والحياد، الحداثة بين الابتكار والاستيراد، الشيء الحي والرمز الميت، كل هذا في سياق الاقتراب من فهم ما طرأ على حدود الثقافة بالايديولوجيا.

وتحت عنوان "الكتابة بلغة أجنبية: بين الأصالة والانصهار"، يكتب الباحث د. باسيليوس حنا بواردي عن المبدعين العرب ممن يكتبون بلغات أجنبية، مشيرًا الى أنها "كتابة ترقى في مرجعيتها الى هويات متنوعة، وقد يكون في ذلك سر قوتها وضعفها على حد سواء. فهي نصوص تبحث في الجديد المُتبنّى عن الجديد المفقود في المرجعية الأصلية، نصوص تتوق الى كسر حواجز الأبعاد القومية الثقافية المحدودة".

وفي نص "حكم الصبي" تخرج الكاتبة الفلسطينية نسرين مغربي في رحلة بأثر استرجاعي مع امرئ القيس، متزودة بعدّة التحليل النفسي الأدبي، ومما تخلص إليه: "لا يستطيع الوصول الى هوية امرئ القيس الحقيقية إلا من يملك فطنة ودراية كافيتين، تتيحان له كشف الحقيقة. هناك صراع بين الأصل والظل على الهوية وبالتالي على الحقيقة".

محور "ثقافة عبرية" جرى تخصيصه لشاعر وكاتب اسرائيلي بارز هو إسحق لاؤور، وقد عرّبت المجلة مجموعة من قصائده، شارك في ترجمتها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم. وهي قصائد من فترات إبداعية عدة للشاعر، وضمها عدد من دواوينه مثل "سفر" (1982)، "الجسد وحده يذكر" (1985)، "الأغوار الحديدية" (1990)، "ليلة في فندق غريب" (1992) و"كالعدم" (1999).
في القصيدة (46) من ديوان "سفر":
القصيدة عن لينا حسن نابلسي إبنة السابعة
عشرة من نابلس الهاربة من وجه الجندي المدجج بالسلاح
كأنها تهرب من الدبّ وتمكّنت من صعود الدرج حتى الدور الثالث
وأُطلقت عليها رصاصة واحدة مباشرة الى الرأس
فسقطت ميتة على الأدراج.
هذه القصيدة لا مبرر لكتابتها
ما يحتاجه الأولاد من صف لينا
ليس قصيدة".

ضمن المحور نفسه تنشر "مشارف" مقالة نقدية عن الشاعر كتبها الباحث والناقد حنان حيفر تحت العنوان - إسحق لاؤور: ".. وإبنة الشعر، سنغتصبها". ومما يقوله: "إن الموقف السياسي لشعره يتعاطى مع الدم ومع الجسد الميّت دون تفخيمه أو الزعيق بصرخته. إنه موقف حاد يتمسّك على الدوام تقريبًا بالجسد كأثر للرفض وعدم المشاركة في الحرب القومية".
وتحت العنوان "قال الشاعر: إعلم يا بنيّ أني أتلفت صوري بالبزة العسكرية"، يكتب هشام نفاع عن آخر كتب لاؤور، "مدينة الحوت" (2004): "لاؤور يصادر، متمردًا، مفهوم الخيانة القطيعي. فخيانة فعل القمع هي الموقف والملاذ. ولا يكتفي، بل إنه يشطب ذلك الاجماع السلطوي المقدّس الذي يشرعن أفعاله بيهوديته. كلا، ليست هذه اليهودية، فالشاعر يمتلك قراءة أُخرى لها، قراءة تنظفها من أدلجتها القسرية التي جاءت لتخدم مشاريع السيطرة:
"في الحرب بين المحتلين والمتمردين كن يا بنيّ
مع الخونة، إصغِ الى صوت آبائك اليهود".
(من قصيدة "تسوية مرحلية").


باب "غياب" يضمّ نصوصًا من آخر ما كتبه الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، وهي تُنشر لأول مرة. ومنها: المشبوه/الوحيد/ رسالة الى مغترب/حين صرت امرأة.
نقرأ:
"الأمن مستتبّ.
العاطلون عن العمل
يعرفون أنهم عاطلون
ولذا لا يتسكّعون في الشوارع.
والمقهورون لا يزعجون أحدًا ببكائهم.
والسجناء مؤيدون للنظام
وينتخبون بملء إرادتهم
موافقين بنسبة 99,99 بالمئة"
(من قصيدة "رسالة الى مغترب")

وفي الكلمة التي شارك بها الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي في تأبين عدوان، يقول: "لقد خدعتنا إذن يا صديقي، كأنك مصرّ على أن تواصل مرحك حتى بعد رحيلك. فالموت الذي نظمت فيه معظم قصائدك، كان هو الكائن الآخر الخفيّ الذي كنت تحاوره بحياة خصبة رائعة ضاعفتها بالفرح وعمّقتها بالكتابة".


باب "حوار" يختتم العدد، إذ يُنشر لقاء مترجم عن الانجليزية مع الكاتب الأمريكي البارز الذي رحل مؤخرًا، آرثر ميللر، وقد عرّبه الكاتب الفلسطيني الياس نصر الله عن "ذي باريس ريفيو".
من الحوار: "لا أعتقد أن هناك ما يضاهي خشبة المسرح. فالحضور الواضح للشخص الحيّ هو دائمًا أقوى من صورته"، وأيضًا: "من الصعب الحصول على تلفزيون جيد، لأنه بالاضافة الى الصعوبات الطبيعية هناك المسألة الكلية لكونه وسيلة واقعة تحت سيطرة المصالح التجارية الكبرى". هذه الكلمات الراهنة جدًا في توصيفها، قالها الكاتب في تلك المقابلة قبل 39 عامًا..

-----------------------------------------------------
المجلة من 248 صفحة. رئيسة تحرير "مشارف" سهام داوود. تصميم شريف واكد.
عنوان المجلة الألكتروني:
masharef@netvision.net.il

العناوين البريدية والهاتفية:
P.O.Box 6370 Haifa 31063
Phone: 972-4-8233478
------------------------------------------------------

التعليقات