كتاب جون روز "أساطير الصهيونية" الصهيونية نقيض المصالحة

-

كتاب جون روز


شكل إعلان دولة اسرائيل الحدث الأهم في تاريخ المنطقة العربية في القرن العشرين، ما تزال المنطقة تعيش تداعياته حتى اليوم. كان قيام اسرائيل حصيلة اقتران نشوء حركة صهيونية أواخر القرن التاسع عشر مع مشروع امبريالي غربي هادف الى الاستيلاء على منطقة الشرق الأوسط والسيطرة على موارده النفطية. أعادت الحركة الصهيونية تركيب وتزوير التاريخ اليهودي من الدين الى الشعب لخدمة هدف سياسي هو اغتصاب أرض فلسطين وإقامة دولة لليهود فيها، فيما قدم الاستعمار نفسه الى شعوب المنطقة عامل تحديث وتقدم ومدافع عن قيم الحرية والديموقراطية.

شكل صراع الشعوب العربية مع المشروعين مادة الثقافة السياسية العربية على امتداد القرن العشرين. في المقابل تصدت دراسات اسرائيلية أو يهودية أوروبية بالنقد للحركة الصهيونية وللوسائل المستخدمة في إقامة دولة اسرائيل، وهي دراسات ناقضت وجهة النظر الاسرائيلية الرسمية.
يمثل كتاب جون روز <<أساطير الصهيونية>> واحداً من الدراسات الاساسية في هذا المجال. يكتسب الكتاب أهمية من ان كاتبه بريطاني الجنسية ويهودي الديانة، مما يعطي نقاشه للحركة الصهيونية وادعاءاتها مصداقية وموضوعية.

تركز الصهيونية على بعث الاسطورة وعلى تعميق الايمان بما يحولها في النهاية الى حقيقة. نجحت في بلورة الاساطير اليهودية وحولتها الى عقيدة وقومية يهودية. رأت ان أساس هذه القومية يرتكز الى الشعب اليهودي المرتبط بأرض فلسطين، وعلى اللغة العبرية كوحدة تعبيرية، ثم على اعتبار المسيحية مرتبطة بالعودة الى فلسطين. بهذا المعنى ترى الصهيونية ان المسيح لم يأت بعد، وان عودته لا بد ان تكون مسبوقة بعودة الشعب اليهودي الى أرضه الخاصة. ان استيطان اليهود في الأرض القديمة بعد ألفي عام على خروجهم منها يؤشر الى عودة المسيح. فلقد جرى تشويه هذه الأرض وإفسادها من قبل العرب الذين سكنوها لقرون مضت وحولوها الى أرض عاقرة. تشدد الصهيونية الحديثة على هذه المقولة المتجذرة أصلا في الميثولوجيا اليهودية لتجعل منها الاساس الايديلوجي للنظرية الصهيونية القائلة ان فلسطين <<أرض بدون شعب لشعب بدون أرض>>.

تشكل أسطورة المنفى أحد أبرز الاساطير الصهيونية. وفقاً لهذه الاسطورة، طرد اليهود من أرضهم قبل ألفي عام وانتشروا بين شعوب معادية لهم، فكانوا مداسين بالاقدام وخاضعين لأنواع مختلفة من الاضطهاد والاذلال. ظلت الدياسبورا اليهودية قائمة الى ان أعاد اليهود اكتشاف هويتهم الحقيقية لاحقاً بالعودة الى فلسطين، اعتمادا على ما جاء في التوراة من ان اليهود عاشوا في السامرة والجليل ويهودا. تستخدم الصهيونية مقولة <<الاذلال>> لليهودي لتبرير الدعوة الى دولة وملاذ يتمتع فيها اليهود بالحرية والاستقلال. تستعيد الصهيونية ثورة اليهود ضد الرومان بعد تدمير الهيكل عام 70 تستثير عبرها الروح القومية لليهود بأنهم خاضوا حرباً تحريرية تشكل نموذجاً للحركة القومية اليهودية الحديثة المتمثلة بالصهيونية.

مقولة الاضطهاد الدائم

لكن الوقائع التاريخية تدحض الادعاءات الصهيونية حول الاضطهاد الدائم لليهود وسط عالم معاد لهم في كل مكان وزمان. لا ينكر الكاتب ان اليهود عانوا من الظلم في أوروبا خلال القرون الوسطى بسبب دورهم الاقتصادي. لكن اليهود تمتعوا بالحقوق والاستقلال في العهود الاسلامية، ولاقوا علاقة جيدة من الاسلام والمسيحية في آن في الشرق الأوسط، حتى ان صلاح الدين الأيوبي أعاد اليهود الى القدس بعد أن طردهم الصليبيون منها. لقد دأبت الصهيونية على إنكار وإلغاء دور اليهود في الثقافة العربية والاسلامية، وأحلت مكانها نظرية الاضطهاد لتبرر اغتصاب فلسطين.

تمثل المقولة الصهيونية القائلة ان فلسطين <<أرض بدون شعب لشعب بدون أرض>> أكبر الاكاذيب في تاريخها. تشدد هذه الاسطورة على ان معاناة اليهود في أوروبا الشرقية والغربية وروسيا ناجمة عن افتقاد هذا الشعب الى أرضه الخاصة. أما أساس الاسطورة القائلة <<أرض بلا شعب>> فتعود الى ان إهمال هذه الارض من قبل العرب معناه خلوها من السكان الذين يستحقونها. تكذّب الوقائع التاريخية هذه الاسطورة، فالمؤتمر الصهيوني الثاني المنعقد في بازل عام 1898 اعترف بوجود /650/ ألف عربي <<يعيشون في القسم الخصيب من أرضنا>> كما تقول وثائق المؤتمر. ويشهد التاريخ على الدور الذي لعبه الفلسطينيون في مقاومة غزو نابليون والغزو المصري لاحقاً خلال القرن التاسع عشر. كما تؤكد الوقائع على تكوّن مجتمع فلسطيني يحوى الاقتصاد والثقافة والسياسة. وتشير الاحداث الى صدامات الفلسطينيين مع المستوطنين اليهود والنضال الذي خاضه الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني في القرن العشرين والذي وصل ذورته في ثورة 1936 1939.

في هذا المجال لا بد من الاشارة الى الدور البريطاني الرئيسي في تكريس المزاعم الصهيونية التي تجلت بوعد بلفور 1917 القاضي بإعطاء وطن قومي لليهود في فلسطين. كانت بريطانيا قد أدركت مبكراً أهمية دولة صهيونية في المشرق العربي تحمي لها مصالحها، فسرّعت الاستيطان اليهودي وأكسبته كل مقومات القوة.

شكلت المجازر التي ارتكبتها النازية ضد اليهود (بما يعرف بالهولوكست) أحد الادعاءات الرئيسية في تبرير قيام دولة اسرائيل، وهو ما أشار إليه إعلان الدولة. يمثل الهولوكست مرحلة من عنف الرأسمالية في النصف الاول من القرن العشرين، لم تقتصر على الشعب اليهودي وإنما طالت شعوباً متعددة، وكان العرب من ضمن هذه الشعوب الذين ستطالهم الابادة لو قدر للنازية ان تنتصر. ومارست الرأسمالية بشقها الآخر البريطاني والفرنسي عمليات إبادة ضد الشعوب التي استعمرتها في آسيا وافريقيا شبيهة لما مارسته النازية في حق اليهود. رأت النازية في قتل اليهود سبيلاً لخلاص الشعب الالماني، فطبقت الصهيونية المبدأ نفسه بحيث اعتبرت المجازر المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني سبيلاً لخلاص اليهود. لم تر الصهيونية يوماً في انتشار موجة العداء للسامية أي مشكلة، بل على العكس كانت تنتهج دوماً في تصاعد الحملة بل تسعى الى تغذيتها، فهذه الحملة تعطيها كل المبررات والحجج للمطالبة بنقل اليهود الى فلسطين لتجنب حملة العداء هذه. كان موجة المعاداة للسامية وما تزال الحليف الأهم لها في سعيها لنشر فكرها وايديولوجيتها وتثبيت دولتها.

ان هذا الاقتران بين الصهيونية والنظام الرأسمالي العالمي يجد ترجمته في الوعي الصهيوني المبكر بأن نجاح هذا المشروع مرتبط برعاية قوة عالمية كبرى. هكذا كانت فرنسا وبريطانيا في الخمسينيات، ثم تحولت الولايات المتحدة الاميركية الى الداعم الاكبر لإسرائيل. لقد تحولت هذه الدولة الى قاعدة استراتيجية أميركية تقوم بوظيفة شرطي أميركي في المنطقة، يمنع نهوض شعوبها ويضرب حركات تحررها، ويؤمن في الوقت نفسه السيطرة على موارد النفط. لم تتغير وظيفة اسرائيل بعد نهاية الحرب الباردة، بل ان سياسة المحافظين الجدد في الادارة الاميركية تقوم على الدعم المطلق لإسرائيل، مما يقطع بالقول ان هؤلاء المحافظين يشكلون عنصراً أساسياً في تغذية اللاسامية في الشرق الاوسط وفي مناطق اخرى من العالم.

مسؤولية من؟

في ختام عرضة لادعاءات الصهيونية وأساطيرها، يتساءل جون روز عن إمكانية التعايش العربي اليهودي في المستقبل؟ لا يتردد في الجواب ان الصهيونية تتحمل المسؤولية عن الاستقطاب الاثني بين العرب واليهود، كما يؤكد ان الامبريالية الاوروبية ومعها الصهيونية هي التي حكمت بالهلاك على المجموعة اليهودية التي كانت تعيش في البلاد العربية. ان التوتر بين العرب واليهود لا علاقة له بمعاداة السامية لان الشعبين من أصل سامي واحد، لكن هذا التوتر مرتبط بالاستعمار الصهيوني. يشير الكاتب الى نموذج اليهود العراقيين وسياسة الصهيونية تجاههم. عند قيام اسرائيل كانت هناك مجموعة يهودية كبيرة تقطن العراق وتشكل جزءاً مكوناً من نسيجه الاجتماعي وثقافته واقتصاده. لم تكن هذه الجالية على علاقة جيدة بالحركة الصهيونية ولم ترغب في الاستجابة الى نداءات هذه الحركة بالانتقال الى فلسطين.

على امتداد سنوات بعد 1948 لجأ عملاء الصهيونية الى وسائل متعددة لإجبار اليهود على الخروج من العراق. سعوا اولا مع قيادات سياسية عراقية فلم تفلح وسيلتهم، فعمدوا بعدها الى ارتكاب عمليات قتل وتفجير في حق اليهود وإلصاق التهم بالعرب تحت حجة ان هؤلاء ينتقمون لما أصاب الفلسطينيين وردا على المجازر بحقهم. بالفعل، نجحت الصهيونية في ترهيب وتخويف اليهود العراقيين مما أجبرهم على الرحيل إما الى فلسطين أو الى أوروبا.

لقد تمكنت الصهيونية من خلق أزمة ولاء سياسي لدى اليهود العرب، واستخدمت وسائل متنوعة لجعلهم غرباء عن ثقافة عربية إسلامية كانت لهم فيها مساهمة أساسية. كما حولت اليهود العرب الى مجموعة من الخونة للبلاد التي يقيمون فيها مما سهل اضطهادهم وطردهم. ان الصهيونية اليوم تشكل العطية الاساس أمام المصالحة العربية اليهودية، وان زوالها شرط تحقيق السلام في العالم العربي. لا تمثل الصهيونية خطرا على الفلسطينيين فقط، بل ان خطرها يطال مستقبل اليهودية نفسها.



"خالد غزال"

التعليقات