"بيت السناري"... رواية المنسي بين الخيال والتاريخ

رغم أن الرواية تحمل اسم "السناري" صاحب البيت، ذلك الرجل القادم من السودان والذي بدأ حياته حارس عقار في مدينة المنصورة حتى أصبح أحد كبار رجال السلطة في مصر، يكتشف القارئ رويدا رويدا أن الشخصية الرئيسية هي (زينة) تلك الجارية التي ملكت على ص

يقدم الكاتب والباحث والروائي المصري عمار علي حسن، في مزج بين الخيال والتاريخ، أحدث رواياته "بيت السناري" التي يستخرج فيها شخصية تاريخية يكتنفها الغموض ويكسيها لحما ودما لتنطق بما لم تكشف عنه كتب التاريخ أو حكايات الرواة.

وجاءت الرواية في 326 صفحة من القطع المتوسط عن الدار المصرية اللبنانية ونال عنها المؤلف جائزة (الطيب صالح للإبداع الكتابي) في فبراير شباط الماضي عندما كانت "مخطوطة" قبل طباعتها وطرحها بالأسواق.

وتدور أحداث الرواية قبل أكثر من مئتي عام، خلال سنوات الحملة الفرنسية الثلاث على مصر من 1798 إلى 1801 وتنطلق من قلب القاهرة القديمة في حي السيدة زينب حيث بيت إبراهيم كتخدا السناري، الذي أبدع صاحبه في بنائه وجعله تحفة معمارية يتحاكى بها المعاصرون واللاحقون لكنه لم ينعم بالإقامة فيه طويلا.

ورغم أن الرواية تحمل اسم "السناري" صاحب البيت، ذلك الرجل القادم من السودان والذي بدأ حياته حارس عقار في مدينة المنصورة حتى أصبح أحد كبار رجال السلطة في مصر، يكتشف القارئ رويدا رويدا أن الشخصية الرئيسية هي (زينة) تلك الجارية التي ملكت على صاحب البيت قلبه وعقله وأصبحت أقرب إليه من زوجاته.

ويبلور المؤلف متانة العلاقة بين السيد وجاريته في حديث يقول فيه السناري "أنا يتيم مثلك. أنت خُلعت من حضن أبيك وأنا خُلعت من بلدي... نعم وجدت هنا ما لم أجده هناك ولم يكن بوسعي أن أجده لو لم آت إلى هنا لكن الحنين إلى جذوري لا يفارقني."

ويتابع قائلا: "جئت من ‘سنار‘ عاصمة السلطنة الزرقاء التي تحكم السودان. يقولون إنها ‘سن نار‘ فدمج الناس النونين فصارت هكذا.. ألسنة نار الشعل التي كانت تضيء حلقات الذكر وجلسات تعلم القرآن. تركت الناس هناك في صباي يرجعون اسم المدينة إلى هذا محتفين وفرحين لكن رجلا ركب معي المركب الذي أقلني إلى ‘بولاق‘ أخبرني أن ‘سنار‘ اسم امرأة سميت المدينة باسمها وأنا صدقت هذه الرواية وزاد صدقي حين قابلتك ولو كان الأمر بيدي لسميت القاهرة ‘زينة‘ على اسمك."

ويغيب السناري عن البيت للحاق بمراد بك الكبير للتصدي للفرنسيين تاركا زينة حارسة على خبيئته الكبرى التي دسها خلف أحجار البيت إلى أن يدخل الغزاة القاهرة ويقتلعون أهله منه ويحتله علماء وفنانو الحملة الفرنسية.

ويظهر السناري ويختفي على فترات بين الصفحات لكن تبقى زينة هي المحرك الأساسي للأحداث بذكائها ودهائها وحسنها الذي يدور في فلكه الجميع مثل الفراش الذي يتجمع حول النار لكنه يحترق إذا اقترب فتراوغ الفرنسيين تارة وتناور عاشقها القيم تارة أخرى.

وربما تتجلى هنا مهارة المؤلف الذي يدرك أن نهاية السناري معروفة للقارئ مسبقا، قبل أن يطرق صفحات الرواية وهي القتل لذلك ارتكز على زينة التي قد تبدو في كثير من الأحيان معبرة عن "مصر" الحائرة بين حكم العثمانيين وإدارة المماليك وطمع الفرنسيين والإنجليز.

وتتوالى الأحداث ويخرج الفرنسيون من مصر ليستعد الإنجليز للدخول ويعود الغائبون إلى بيت السناري لكن زينة وحدها تبقى مجهولة المصير ليظل خيال القارئ معلقا بها حتى بعد انتهاء صفحات الرواية وكأن المؤلف قصد أن يظل طيفها هائما إلى الأبد في جنبات البيت الذي آل حاليا إلى مكتبة الإسكندرية وتقام به أنشطة فنية وثقافية متعددة.

وأكثر ما يميز الرواية هو المفردات التي استدعاها المؤلف من التاريخ، مثل "القنبر" وهي القنابل بلغة العصر الحالي، و"الطومار" والمقصود بها المرسوم السلطاني، و"البحر المحيط" وهو الاسم القديم للبحر المتوسط، و"الأخطاط" وهي الأحياء السكنية واستخدام الأسماء القديمة لبعض أحياء القاهرة وهو ما أضفى على الرواية صبغة مميزة جعلت القارئ أقرب إلى العصر الذي تحكيه.

وركز المؤلف في الرواية على خط واحد متصل من البداية للنهاية تمسك طرفه زينة، رغم تفرع القصص والحكايات والشخصيات من عثمانيين ومماليك وفرنسيين ومصريين، إلا أنه استطاع الحفاظ على وحدة الرواية بمهارة دون أن يرهق ذهن القارئ في دروب فرعية.

ويضاف إلى البانوراما الكاشفة التي قدمها المؤلف لمصر ومحيطها الإقليمي في ذلك الوقت من تاريخها فمزج الخاص بالعام وأصبح مصير أبطال الرواية مرتبطا بمصير البلد كله.

وهذه هي الرواية التاسعة للمؤلف بعد "جبل الطير" و"باب رزق" و"السلفي" و"شجرة العابد" و"سقوط الصمت" و"زهر الخريف" و"جدران المدى" و"حكاية شمردل"، بالإضافة إلى المجموعات القصصية والكتب البحثية والنقدية.

التعليقات